fbpx

العنصرية في أميركا : جورج فلويد ليس القتيل الأخير!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يظهر لنا الغضب في مينيابوليس ومدن أميركية أخرى من جديد عمق العداء المتفشي للسود. هذه الخصومة العميقة تنبع من قلب الاجتماع الأميركي بل كانت عاملاً مؤسساً للولايات المتحدة حيث السود لم يصبحوا أبداً من البشر!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يكن مفاجئاً أن يهدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب المحتجين في المدن الأميركية بالرد عليهم بالحديد والنار، فهذا رئيس أرعن وعنصري. ولم يكن استثنائياً أن يُقتل رجل أو امرأة غير مسلحين من السود في الشارع على يد رجل شرطة هائج، فالشرطة الأميركية تقتل نحو 1100 شخص سنوياً في الشوارع، أكثر من ربعهم من السود. ولن تكون هذه ربما المرة الأخيرة التي يخرج فيها آلاف المحتجين إلى الشوارع، بل ويضرم بعضهم النار في مبان وسيارات شرطة ومصارف ومطاعم ومنشآت عامة أخرى لأنهم يشعرون بأن الدولة والنخبة ورموزهما جزء من المشكلة لا الحل. لقد بات هذا متواتراً في المدن الأميركية منذ مطلع القرن.

جورج فلويد في لحظاته الأخيرة

العنف طريق المقاومة

المثير للاهتمام وللأسف هو الإدراك المتزايد وسط مراقبي أحوال الأميركيين الأفارقة في الولايات المتحدة، أن العنف بات الطريق الوحيد المعتمد للمقاومة ورفض الموت والتهميش والإذلال من دون ثمن. أعاد مشهد قتل جورج فلويد تحت ركبة رجل شرطة تضغط على عنقه لنحو تسع دقائق، وصراخه “لا أستطيع التنفس” ما حدث من قبل للرجل الأسود إريك جارنر في نيويورك في 2014، عندما خنقه رجل شرطة بيديه. وفي الحالتين ادعى رجال الشرطة أنهم كانوا يسعون لشل حركة مشتبه به من أجل اعتقاله. وفي الحالتين كان المشتبه به غير مسلح، وفي الحالتين كانت الشبهات تتعلق بجنح سخيفة من قبيل بيع سجائر بلا ترخيص، وفي الحالتين كان هناك عدد كبير من رجال الشرطة متحلقين حول القاتل وهو يزهق أنفاس الضحية، بل وحاول بعضهم إبعاد المارة الذين يسعون إلى تسجيل ما يحدث على كاميرات هواتفهم ويناشدون الضباط التوقف عن خنق ضحاياهم.

وبسبب هذه الهواتف والانتشار السريع لمشهد قتل فلويد في وسط مدينة مينيابوليس، اضطرت المدينة لفصل رجال الشرطة الأربعة في اليوم التالي ولكن الغضب المتفاقم تحول إلى احتجاجات واسعة وعنيفة بعدما تأخر مكتب النائب العام في الولاية يومين في توجيه اتهامات لرجل الشرطة ديريك شوفان وزملائه الثلاثة، بل وأعلن متحدث باسم المحامي العام في المدينة الواقعة في ولاية مينيسوتا بعد بداية الاحتجاجات بيومين كاملين، أنهم ما زالوا يفكرون في الأمر. وأخيراً بعد خمسة أيام من الجريمة، وُجهت تهمة القتل الخطأ لشوفان وقُبض عليه بينما ما زالت النيابة تدرس الشبهات المحيطة بزملائه الثلاثة. ومن دون تقاعس مكتب النائب العام ربما لم تكن التظاهرات لتتفاقم في مينيابوليس وفي نحو عشرين مدينة أميركية كبرى أو يتفجر غضب المشاركين فيها ليقوموا بإضرام النار في عدة منشآت منها مركز شرطة في مينيابوليس. 

ولم يوقف الاحتجاجات تبجح ترامب ومؤيدوه الكثيرون أنه يجب احترام ذكرى فلويد وعدم تلويثها من طريق أعمال شغب وتدمير، فقد بات قطاع أكبر وأكبر من المثقفين والناشطين السود يعتقدون أنه لولا الاحتجاج العنيف، وأقل ما فيه تعطيل حركة المرور والعصيان المدني لن ينتبه إلى مأساتهم أحد. وقد يتحول غضبهم العارم الى اكتئاب حاد يغرقه الناس عادة في المخدرات والعنف، تجاه ذواتهم بدلاً من توجبهه إلى من يعتقدون أنه السبب في معاناتهم. 

ضحايا التهميش

وبدلاً من أن يشكل ترامب لجنة قومية للبحث في أسباب مقتل وسجن أعداد هائلة من السود تبلغ نسبتها بين القتلى والمساجين على الأقل ضعف نسبة السود بين سكان الولايات المتحدة، فقد هدد سمسار العقارات المقيم في البيت الأبيض بإرسال الحرس الوطني المسلح والرد بالرصاص على الاحتجاجات. هذا هو موقف أهل السلطة ومن هم عادة ليسوا في موقع الاستعباد الفعلي طبقياً ومادياً وصحياً، بعد وقوع ضحية من المهمشين في ظروف مرعبة. سمعنا مثل هذه التعليقات من مصر وباكستان، من البرازيل والهند، ودول أخرى كثيرة عندما تقتل الشرطة بدم بارد شخصاً مشتبهاً به او تصادف وجوده في المكان الخطأ في الوقت الخطأ: “ماذا كان يفعل هناك؟ هل هدد رجل الشرطة؟ هل له سجل جنائي؟ هؤلاء السود (أو المسلمون أو أهل القبائل) هم كما تعرف (ثم ابتسامة ملغزة!)؟” وإذا فشلت كل هذه الحيل الوضيعة واتضح مدى بشاعة الجريمة أو فداحتها، يقولون لك: “هو حادث فردي ودع القانون يأخذ مجراه! أم أنك تشكك في استقلالية قضائنا وعدالته”.

هذه الألعاب النارية والاحتجاجات المتصاعدة في الولايات المتحدة في السنوات القليلة الماضية، قد تكون التدريبات الأولية على سبل مدمرة للغاية للقضاء على هياكل العبودية الحديثة العميقة المتجسدة في قسم الشرطة والسجن والمدرسة، بل والمصرف والبرلمان وغيرها من مؤسسات المجتمع التي بات يُنظر إليها أكثر فأكثر على أنها تجليات للمشكلة

لا. هذه ليست حوادث فردية، على رغم أن الأفراد الضالعين فيها قد يكون لهم تاريخ جنائي وتجاوزات معروفة. مثلاً تلقت إدارة الشرطة في مدينة مينيابوليس 18 شكوى سابقة ضد الضابط شوفان، ولكنها حفظتها ولم يتخذ أي إجراء ضد رجل تورط في حوادث إطلاق نار وعنف ضد المشتبه بهم، سوى في حالتين فقط وُضِع فيهما خطاب توبيخ في ملفه الوظيفي. أما زميله تو تاو Tou Thao ويظهر في فيديوات مقتل فلويد وهو يطلب من المارة التوقف عن التصوير ويبعدهم من المشهد، فقد وصل إلى إدارة الشرطة 6 شكاوى ضده، وفي واحدة منها وصل الأمر إلى القضاء، واضطرت إدارة الشرطة لدفع تعويض 25 ألف دولار لأحد ضحايا الضرب المبرح والاعتداء البدني غير المبرر أثناء قيام تاو باعتقاله من دون أي سبب. هؤلاء هم الضباط الذين استجابوا لبلاغ من أحد المحال التجارية يتهم القتيل فلويد أنه حاول دفع ثمن مشترياته بنقود تبدو أحد أوراقها من فئة العشرين دولاراً مزورة!

من السخيف أن يدعي ترامب أنه يكرم ذكرى فلويد من طريق قمع الاحتجاجات، وهو نفسه من وقف على بعد خطوات من الضابط شوفان على مسرح في حفل دعاية انتخابية لمؤيدي ترامب في مينيابوليس. ترامب الذي يمجد العنف ويدعم الميليشيات اليمينية، هو واتباعه الكثيرون، جزء من التمدد العلني والوقاحة المتزايدة في أوساط جماعات التفوق العنصري البيض، مثل كوكلوكس كلان في السنوات القليلة الماضية.

ولكن هذه ليست حوادث فردية حتى لو كان الفرد فيها رئيساً مثل ترامب. 

الأفراد مسؤولون لا شك عن أفعالهم ولكنها لا تتواتر وتستمر من دون تشجيع ودفاع ودعم من مؤسسات الدولة وأقسام من المجتمع ومن وسائل إعلام وأفلام وقيم وتاريخ طويل. فمثلاً، كم من فيلم وكتاب وحكاية يتذكرها كل منا ويحب بطلها الشرطي الذي قرر التوقف عن السبل البيروقراطية وجمع مسدساته وذهب وقتل كل المجرمين الأشرار؟ كم رامبو نعرفه في السينما الأميركية؟

العداء التاريخي

يظهر لنا الغضب في مينيابوليس ومدن أميركية أخرى من جديد عمق العداء المتفشي للسود في معظم مؤسسات وممارسات الولايات المتحدة ومشاعر الناس هناك. هذا التفشي المهيمن الذي أنتج وينتج الكثير من جرائم القتل والفظائع ضد السود منذ وصل أول رجل أسمر إلى هناك من أفريقيا عام 1619. هذه الخصومة العميقة تنبع من قلب الاجتماع الأميركي بل كانت عاملاً مؤسساً للولايات المتحدة حيث السود لم يصبحوا أبداً من البشر! 

لا يمكن فهم مأساة السود في الولايات المتحدة من دون النظر في عمق الشعور المعادي أو المتجاهل للسود بصورة واعية أو غير واعية، ومن دون البحث في الهياكل والممارسات القائمة التي تقصي السود في الولايات المتحدة من الفرص التعليمية والرعاية الصحية والإسكانية والفشل المستمر لبرامج التمييز الايجابي. ومن دون هذا الفهم والذي قد تتبعه محاولات للتغيير الجذري سيستمر الواقع الحالي في افراز الغضب والعنف، إلا لو خضع السود واستسلموا تماماً لمصيرهم.

لا يمكن فهم مأساة السود في الولايات المتحدة من دون النظر في عمق الشعور المعادي أو المتجاهل للسود بصورة واعية أو غير واعية

وهناك إحصاءات ودراسات كثيرة حول استهداف ممنهج من قبل الشرطة والنظام القضائي الأميركي للسود، وإلى تمييز عميق في المعاملة في السياسات الصحية والسكانية والتعليمية. احتمال مقتل الرجل الأسود برصاص الشرطة أعلى بكثير من نظيره الأبيض (أعلى ثلاث مرات تقريباً وفقاً لدراسة أجرتها كلية العدالة الجنائية في جامعة رتجرز ونشرتها في آب/ أغسطس العام الماضي). ووفق الإحصاءات المتاحة لهذا العقد، تقتل الشرطة الاميركية نحو 1100 شخص سنوياً في الشوارع، ويمثل السود نحو 26 في المئة من هؤلاء القتلى، على رغم أن نسبة السود في الولايات المتحدة لا تتعدى 13 في المئة. ولقي معظم قتلى الشرطة الأميركية مصرعهم بطلقات رصاص، ولكن من قُتلوا منهم بسبب شل الحركة والخنق تزيد فيهم نسبة السود عن 50 في المئة. تتكرر هذه النسب المذهلة والمجحفة بالنظر إلى نسبة السود العالية في السجون حيث أكثر من ثلث المحبوسين من السود (أو ثلاثة اضعاف نسبة السود في المجتمع الأميركي) وفي مستويات الدخل والإنفاق والثروة وحتى في متوسط الأعمار

تحتاج إلى أن تكون عنصرياً لتقلب المسألة على رأسها وتقول إن السبب في هذا أن السود مجرمون بطبيعتهم! ولكن العنصرية (تلك التي تبدأ عادة من إرجاع أسباب الظواهر إلى “طبيعة” مفترضة للعرق أو العنصر تجعل أبناءه يسلكون بطريقة معينة ولا يمكن تغييرها)، لها مظاهر كثيرة ومثلها القول إن القطط بأرواح متعددة. ومن جذور النظرة العنصرية في أميركا، أن كل فرد يعد مسؤولاً تماماً عن سلوكه طالما لم تدمغه المؤسسة الطبية بالجنون، بالتالي لا يمكن تفسير نسب السجن وإدمان المخدرات والجرائم المرتفعة بين السود بأسباب اجتماعية وتاريخية، بل لأن السود هكذا، ولأنهم هكذا فأول ما يجب أن نبحث عنه هو ماذا فعل هذا الـ”فلويد” لكي يستفز السيد “شوفان” فيلقى مصرعه خطأ.

العنصرية الأكاديمية

عندما درست علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في واشنطن في منتصف التسعينات، كان كتاب الأميركي من أصل هندي دانيش دي سوزا “نهاية العنصرية”، صرعة لأنه يفعل بطريقة أكاديمية وبحوث إحصائية ما يفعله العنصريون عن يقين وإيمان: السود هكذا لأنهم هكذا، هي جينات، يمكن أن تخرجهم من بريرية الغابات ولكن لا يمكن أن تخرج الوحشية من قلوبهم؟ الخ. كان كتاب دي سوزا جزءاً من أوبرا الانتصار التي شارك فيها آخرون مثل فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ”. وفي مواجهة هذا السيل الأكاديمي والإعلامي، حاول مئات من المعلقين السود وبعض المعلقين البيض وأفلام وروايات وأغنيات ولوحات على مدى عقود توضيح مدى تجذر وعمق ودموية العنصرية وأن حلها لن يتأتّى من خلال القانون والسياسات فقط. ولمّح بعضهم مثل فرانك ويلدرسون، رئيس قسم الدراسات الأفريقية الأميركية في جامعة كاليفورنيا، في كتاب صدر الشهر الماضي، إلى أن الحل الوحيد ربما هو تدمير النظام وحرقه.

في البداية، كان ويلدرسون يعتقد أن الأسود يعاني مثلما يعاني الفلسطيني والسكان الأصليون في أميركا والعمال الفقراء، ولكن بعد سنوات من الدراسة والعمل الثوري في جنوب أفريقيا حيث التقيته مرة واحدة عندما كان ناشطاً بالقرب من جوهانسبرج في مطلع التسعينات، بدأ الرجل يفكر بطريقة مختلفة. صار الأسود في نظره ليس إنساناً يعاني من التمييز، بل وضعته المؤسسات والممارسات الأميركية خارج نطاق البشر (ربما مثلما فعل النازي باليهود ولكن من دون درامية المحرقة) وهكذا لا يعثر على حل لهذا الوضع التراجيدي سوى القضاء المبرم عليه، ومن قلب دخان حرائق المؤسسات القائمة.

ويبدو، للأسف الشديد، أن ويلدرسون ومؤيدوه قد يكونون محقين، فأمام الرغبة في إنهاء هذه الأوضاع الظالمة القائمة هناك الخوف من الأثمان المرتفعة التي سيتعين دفعها، والشك في النتيجة النهائية. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم موجة الغضب المتشائمة المدمرة التي دفعت الأميركيين السود وغيرهم نحو الشغب والحرق، ويمكن فهم المشاعر المتناقضة من التأييد للخوف في الوقت نفسه. فهذه الألعاب النارية والاحتجاجات المتصاعدة في الولايات المتحدة في السنوات القليلة الماضية، قد تكون التدريبات الأولية على سبل مدمرة للغاية للقضاء على هياكل العبودية الحديثة العميقة المتجسدة في قسم الشرطة والسجن والمدرسة، بل والمصرف والبرلمان وغيرها من مؤسسات المجتمع التي بات يُنظر إليها أكثر فأكثر على أنها تجليات للمشكلة وليست طريقاً للحل. وهكذا يقف قطاع متزايد من الناس بين الخوف من الطوفان أو تمني وقوعه كي ينتهي هذا الانتظار والواقع المزعج، وهكذا لن يكون فلويد القتيل الأخير.