fbpx

مصر: “كوبري الزمر” وعدوانية الدولة الوطنية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ليست الممارسات التي ينتهجها النظام المصري، سوى علامات على تحوُّلِ سلطته إلى قوة عدوان حلَّت محل “الدولة الوطنية”، التي حلم أبناء الدول العربية ببنائها بعد استقلالهم عن الدولة العثمانية، ومن بعدها عن الاستعمار الغربي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ووصلت أنظمة هذه الدول إلى مرحلة العقم من حيث فشلها في تقديم أي إنجازات جديدة تندرج في إطار التنمية المستدامة، لتأمين العيش الكريم لمواطنيها وإنجاز التحديث الدائم في المجتمع والاقتصاد. لذلك لم يتبقَّ لها ما تقدِّمه للشعب سوى القبضة الأمنية مقترنة بظواهر عدوانيةٍ، لن يكون آخر الأمثلة عليها، الجسر الذي تشيِّده الحكومة المصرية في القاهرة، والمسمى “كوبري ترعة الزمر”، والذي ينتصب بين الأبنية متحدِّياً استمرار الحياة، ومنتقصاً من العقل المصري.

انتشرت منذ أسابيع  على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى محطات التلفزيون العربية والأجنبية الناطقة باللغة العربية مقالات وصوَرٌ وتقارير مصوَّرةٌ تتحدث عن هذا الجسر الذي ما زال في طور التشييد في منطقة تسمى “محور ترعة الزمر” في منطقة الجيزة. ويرتفع الجسر ليخفي تحته ثلاث طبقات من العمارات المنتشرة على جانبيه، والمشادة بشكل قانوني، بينما يلاصق سطحه الطبقة الرابعة من العمارات التي ستكون عرضة للخطر بسبب حوادث السير. وقد نالت المشاهد التي تُبين الجسر أكبر قدر من الغضب والسخرية ناله إنجاز معماري حتى الآن، لأن الفاصل بينه وبين بعض الأبنية لا يتعدى بضعة سنتيمترات، والطويل بين هذه الفواصل لا يتجاوز 50 سنتيمتراً. ولهذا السبب أطلق المصريون على الجسر تهكُّماً تسمية “كوبري البلكونة”. 

 الدولة المصرية التي كان يمكن أن تتوافر لديها المقومات لتكون مثالاً لنموذج الدولة بين الدول العربية، آلت إلى دولةٍ فاشلةٍ لم تستطع تحقيق شَرطيْ التنمية والتحديث في ظل التخلف والفقر

لا يستطيع المتابع الإحاطة بالكم الهائل من السخرية من الجسر والقائمين عليه. فعلى الفور بدأ المصريون ينشرون النكات والتوقعات حول ما سيكون عليه الحال بعد الانتهاء من أعماله الإنشائية ودخوله الخدمة. فقد تخيَّل أحدهم أنه، وبينما يقود سيارته، سيركنها ليشارك أحد السكان الجالسين على الشرفة كوباً من الشاي، ثم يواصل طريقه. وتخيَّل آخر أن تدخل عليه سيارة من الجدار ليشاركه صاحبها مشاهدة إحدى مباريات كرة القدم المشوِّقة. بينما تخيَّل ثالثٌ أن يُوقف حافلة النقل العام على الجسر، ويمد رأسه إلى داخل غرف النوم للسؤال عن توفر “الفكة” لدى أصحاب المنازل. وتحسَّر كثيرون مما وصل إليه حال أحفاد بناة الأهرام من تخلُّفٍ معرفيٍّ وإجرائيٍّ وعمى في البصيرة، قادهم إلى نقل المشروع من الورق إلى أرض الواقع من دون دراسة الموقع الذي سينفَّذ عليه، أو إجراء تعديلاتٍ تراعي شروط البيئة المحيطة، وتضع توقعات لتبعات إنشائه على حياة البشر وعلى المنطقة.

وفي حين برَّر وزير النقل ملاصقة الجسر العمارات المجاورة لكونها مخالفة، قال المالكون إنها نظامية، مُظهرين المخططات والرخص المرفقة بعقود الشراء. مع العلم أنه يلاصق بنايات أخرى قال مسؤولون في وزارة النقل إنها ليست مخالفة، وتحدثوا عن تعويض أصحابها إذا أرادوا مغادرتها. ولكن، بغض النظر عن مخالفة الأبنية أو قانونيتها، كان باستطاعة الوزارة تسوية هذه القضايا عبر تعويض السكان بقيم شققهم لشراء أخرى بديلة، وهدمها قبل البدء بعملية التشييد وظهور مؤسسات البلاد الإنشائية، والقائمين عليها من إداريين ومهندسين بهذا المظهر البائس أمام العالم الذي تابع أخبار الجسر بعد انتشار صوره المريعة. لكن النظام المصري وسلطته التي تحكم البلاد بالقمع، لا يباليان بسمعتهما أمام الرأي العام العالمي أو المحلي، فبفضلهما صارت مصر سجناً كبيراً بعد فرض حالة الطوارئ وتجديدها منذ مجيء نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2013، لمنع الشعب من الاعتراض على فشل الدولة.

لا شك في أن نظاماً يروِّج إنجازاتٍ من هذا القبيل، هو نظامٌ يبحث عن شرعيةٍ، يعرف أنه فاقدها رسمياً ويريد الحصول عليها من باب الإنجازات حتى لو كانت وهمية. لذلك، ومنذ ظهوره، لاحظنا تضخيم النظام إنجازات هزيلة من قبيل تفريعة قناة السويس. وأخرى مخجلة، من قبيل جهاز الضابط المصري الذي سمي “جهاز الكوفتة” للقضاء على مرض الإيدز وعلى فايروس C المسبب التهاب الكبد والذي تبنت اختراعه الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وطبَّل له رموز الإعلام المصري طويلاً قبل أن يُكتشف زيفه.

واستمر الوهم حتى أيامنا هذه، حين سافرت وزيرة الصحة المصرية إلى الصين وإيطاليا، لتقدِّم معونات لهما للوقاية من تفشي “كورونا”، وهو ما أثار السخرية من قرار سفرها في ذلك الوقت الحرج الذي يمرُّ به العالم، وسط التساؤل عن ماهية المعونات التي ستقدمها للصين بينما شعبها بأمس الحاجة لمستلزمات الوقاية تلك ولا يجدها. وعلى هامش رحلة إيطاليا خرج الإعلام المصري للقول إن وزيرته ستساعد إيطاليا في القضاء على “كورونا”، وهي التي تعهدت لرئيسها السيسي قائلة: “سنبهر العالم بالقضاء على كورونا”، وطبعاً كان ذلك قبل أن يصل عدد المصابين في مصر إلى 15 ألف مصاب هذه الأيام.

وفي ظل هذا البؤس، يتذكَّر المرء فشل النظام المصري في التعامل مع قضية مصيرية تمسُّ حياة البلاد ومستقبلها، وهي قضية سد النهضة الذي سيحرم مصر من جزءٍ كبيرٍ من مواردها المائية، حين وافق لاثيوبيا على إنشائه ومكَّنها من بنائه، ثم عاد وتباكى أمام العالم بسبب آثاره المتوقعة. ولا عجب في نظام يفعل ذلك فهو ذاته الذي فشل في تقديم أي مشروع إنقاذي يضمن الحياة الكريمة والاطمئنان للمصريين. وفي هذا الواقع لا يعمل النظام على تضخيم الأوهام فحسب، بل يبدو أنه تحوَّل إلى صانع أوهام.

وتشير هذه الوقائع إلى أن الدولة المصرية التي كان يمكن أن تتوافر لديها المقومات لتكون مثالاً لنموذج الدولة بين الدول العربية، آلت إلى دولةٍ فاشلةٍ لم تستطع تحقيق شَرطيْ التنمية والتحديث في ظل التخلف والفقر، ولا الدولة الوطنية في مرحلة الاستعمار والاستغلال هذه. وبدلاً من أن تكاشف شعبها وتشركه في القرار ليساعدها في تحقيق مهماتها والتغلب على مشكلاته، وفَّرت أسس الدولة العدوانية في كل مظهر من مظاهر حياة المواطن اليومية، لتُسكت أي صوتٍ قد يخرج احتجاجاً، وتقضي على أي أمل في التغيير.