fbpx

“أحسن من غيرنا” … ما عادت تعني السوريين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“تخيلي فقط أن خاتم الزواج هو الطلقة الأخيرة في وجه الحاجة، والنساء يأتين ويطلقنها مباشرة من أصابعهن، لكن ماذا بعد خاتم الزواج؟ كيف ستعيش تلك العائلات؟”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صرخ الابن في وجه ابيه: “مارح نفتح الدكان، بكرة بيصير الدولار بثلاثة آلاف ليرة”، لكن الأب أصرّ متحدياً انهيارات الليرة فلا خيار أمام باب رزقه: “وين كنت لما كان الدولار بـ 50 ليرة وكانت دكانتي الأهم بالمنطقة؟”… 

تجمّع بعض أهل القرية وحاولوا تهدئة الابن، ومالوا نحو قرار الأب، فليس من مصلحة أحد أن تُغلق الدكان الأشهر في القرية والتي تبيع كلّ شيء، حرفياً، ابتداء من المؤن حتى الأحذية والثياب والمنظفات والمكياج والعطورات! 

من جهة أخرى فالابن على حقّ أيضاً، فالمنتَج الذي يبيعه اليوم قد يصبح ضعف سعره غداً، وسيدفع من جيبه الخاص ليتمكن من شراءه مرة أخرى، لكن هذه المعادلة التي يعيشها السوريون منذ بدء انهيار الليرة جعلت الأمور فوضوية وظهر بفضلها الأغنياء الجدد، وزاد على أثرها عدد الفقراء حتى باتت نسبتهم 82% بحسب تقديرات الأمم المتحدة.

خواتم الزواج: الطلقة الأخيرة

بعد أن علّق السعر الجديد للذهب على باب المحل “سبعون ألف ليرة للغرام”، عاد إلى مكانه في محلٍ للصياغة بات يفرغه شيئاً فشيئاً وقال: “50% مِمَا نشتريه اليوم من الناس هي خواتم الزواج، تأتي النساء، يسألن عن السعر ثم ينزعن الخاتم من إصبعهن ويضعنه على الميزان”، يتابع: “تخيلي فقط أن خاتم الزواج هو الطلقة الأخيرة في وجه الحاجة، والنساء يأتين ويطلقنها مباشرة من أصابعهن، لكن ماذا بعد خاتم الزواج؟ كيف ستعيش تلك العائلات؟”.

يفكر العديد من الصاغة اليوم بإغلاق محلاتهم إن استمر الوضع على هذا النحو، والذي يبدو أنه لن ينتهي على خير، فمن سيشتري غرام الذهب بحوالي سبعين ألف ليرة وراتبه لا يتجاوز ستين ألف ليرة! 

إذاً “لم نعد أفضل من غيرنا”، بحسب الجملة الذهبية التي كان السوريون يواسون بعضهم فيها حين ترتفع الأسعار بشكل جنوني. 

“بنضل أحسن من غيرنا” باتت جملة غير مقنعة تماماً، فسوريا هي الأولى عالمياً بمستوى الفقر، لكن هذا الشعب لا يخضع لدراسات واحصاءات، ويتصرف حسب معطيات الواقع “فأحسن من غيري” لا تعني أفضل من دولة أخرى، فسقف أحلام السوري أن يكون حاله أفضل من حال جاره، وأن يستطيع شراء بعض الخضار من حين لآخر أما جاره فلا، أو شراء كيلو شهي من الفاكهة الصيفية أما جاره فلا. وكيلو الفاكهة هو بالضبط ما تعنيه جملة “أحسن من غيرنا”، التي ما عادت تعني السوريين مقارنتهم بأي دولة.

 منذ بدء الثورة السورية تلتها الحرب التي دخلتها كلّ الأطراف الدولية، راح عدّاد الاقتصاد يتغير بسرعة مقلقة، لم يستطع الناس فهمه أو مجاراته، وبدأت الليرة تنهار بوتيرة متسارعة كان أكبرها خلال نهاية العام الفائت وهذا العام وبمقارنة بسيطة ندرك حجم الصدمة السوريّة، فقبل عام 2011 كان سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية حوالي 45 ليرة ، لم ينته عام 2011 حتى بلغ سعر الصرف 59 ليرة وفي نهاية عام 2012 وصل سعر الصرف إلى 70 ليرة سورية، وجاء عام 2013 وبدء انهيار الليرة المتسارع والمتغير الذي توافق مع إخراج رؤس أموال كبيرة ، ووصل سعر الصرف إلى حوالي 160 ليرة، واستمر هذا الارتفاع. اليوم، وفي منتصف عام 2020 يدقّ سعر صرف الدولار سقف الـ 2000 ل.س وهناك توقعات بوصوله إلى 3000 ل.س. وبحساب بسيط لمتوسط راتب المواطن السوري، فهو يساوي 35 دولاراً تقريباً لا أكثر، إن كان سعر صرفه اليوم حوالي 1500 ليرة سورية. 


الفريز أو الخبز

ينظر الطفل الجالس في حضن والدته قربي في السرفيس إلى الكيس الذي بانت منه حبات الفريز الطازجة. يحتار ثم يلقي نظرة أخرى. أفتحُ الكيس وأمنحهُ واحدة، ثم أخرى، تخجل والدته وتقول له “بيكفي”، فيرد باعتراض: “لكن ليش ما بتجيبيلي الفريز؟”. 

هذه الأم كالكثير من الأمهات غير قادرة على جلب كلّ ما يشتهيه أطفالها، فالموازنة هي عمود البقاء الأساسي، وإن رغبتْ بشراء الخبز أو الفريز ستفضّل الخبز بالطبع وتردد كما الكثيرين: “الفريز مش أكل بالآخر”. 

يعتمد السوريون بشكل أساسي على البقوليات والأرز والبرغل وهي كثيرة بالفعل، بعدما وزعتها المنظمات الإنسانية والجمعيات الأهلية، وبات أصحابها يبيعونها بأسعار أقل من السوق، لكن هل يكفي البرغل والعدس؟

 ماذا عن ما يسميه السوريون رفاهية الحياة كاللحوم والدجاج والسمك والخضراوات والفاكهة؟ نعم، فالخضراوات باتت رفاهية لكثير من العائلات حيث يمكن الإستغناء عنها بنسبة 90%، أما اللحوم فهي مزحة سمجة، فمن سيدفع ثمن كيلو اللحمة ربع راتبه تقريباً! وفي النهاية لن توزّع منظمة إنسانية كيلو لحم غنم أو سمكة طازجة، لكن دوماً هناك حلول بديلة، هل جربتم لحمة الصويا؟ سعر معقول وطعمة غريبة نوعاً ما لكنها تبدو كاللحم ويفرح الأطفال بها.

يبدو أن العالم  بات في مكان والسوريون في مكان آخر، وهم يرون الأشياء تكبر وتكبر وتغدو عملاقة أمّا هم فيزداد صغرهم حتى يكادون يتلاشون بين احتياجات الحياة

“إن رغبتُ بشراء حذاء أو قطعة ثياب أو أي شيء إضافي للمنزل يجب أن أقوم بعمل إضافي وأكتب مقال في صحيفة أو موقع ما”، يتابع بين المزاح والجد:” وإن أردنا أن نطهو صينية لحمة يجب أن أبيع إحدى مسرحياتي وأخجل في الحقيقة أن أقول السعر الذي نتلقاه من إدارة المسارح لقاء مسرحياتنا!”

 يردد زياد (اسم مستعار)، وهو موظف حكومي وكاتب مسرحي، حيث يتقاسم هو وزوجته مصاريف المنزل ولكنهما لا يستطيعان تأمين سوى الطعام والشراب وبعض الشؤون القليلة الأخرى. أما السيدة العجوز في حيّ الدويلعة بدمشق فهي تنتظر حتى الظهر، حين تبدأ أسواق الخضراوات بالإغلاق، تحمل كيساً قماشياً صنعته بنفسها وتذهب حيث يرمي البائعون ما تبقى من خضراوات تالفة أو غير قابلة للبيع، تحصل على بعضها مجاناً، فهي برأي البائع غير قابلة حتى للأكل، وتحصل على كيلو من الكوسا بأقل من نصف سعره، فالحبات كبيرة جداً ومصفرة لكنها تردد بثقة: “مش كله كوسا بالآخر!” وهكذا تعود بعد ساعات إلى منزلها بكيس ممتلئ بحبات الطماطم وبعض حبات الخيار الذابلة وثلاث حبات بطاطا منحها إياها أحد الباعة، وفي النهاية وكما تقول: “حين نطهو الكوسا فكلها لها مذاق واحد، وحبة البندورة يمكن إزالة الجانب المتعفن منها” هكذا تصنع العائلات الفقيرة صحن سلطة متواضع، الطاولة اليوم عامرة إذاً والبطون شبعانة والخضراوت التالفة متوافرة دوماً.

على أرض الواقع، لا يدرك أغلب السوريين السبب الحقيقيّ لانهيار ليرتهم. يرجع البعض الأمر للحرب، وآخرون للعقوبات الإقتصادية، والبعض للرؤوس الكبيرة التي أكلت الأخضر واليابس وتركت للشعب فتات الحياة.  

حالياً، يبلغ سعر غرام الذهب 46 دولاراً تقريباً، في حين أن متوسط راتب المواطن السوري هو 35 دولاراً، وسعر كيلو اللحم حوالي 6 دولارات، وسعر الحذاء الجيد لا يقل عن 6 دولارات. حسابات بسيطة تقرّب لنا كلفة متطلبات الحياة من أصغرها حتى أكبرها. 

السوريون يعيشون بمعجزة ما، أو أنهم لا يعيشون والجميع يتوهم ذلك.

رامي مخلوف … كذبة!

حتى ولو لم تخرج آرائهم الى العلن، لكن السوريين يتابعون عن كثب ما يحصل في رأس السلطة، وكيف أن الخلاف بين رأس هذا النظام أي بشار الأسد وزوجته أسماء من جهة، ورامي مخلوف رجل الأعمال وقريب آل الأسد من جهة أخرى ليس فعلاً بريئاً.

 يقول صديقي: “كذبة، مجرد كذبة، هم أقوى وأكبر من هذه المجادلات السطحية، هناك شيء يطبخ خلف كلّ ذلك والله يعين هالشعب عـ الجاي”، البعض يرى أنّه مجرد تعارض مصالح دولية وطمع أكبر في ثروات هذا الشعب وسيذهب بعض المتنفذين كبش فداء لكلّ ذلك، يردد جاري الموظف الحكومي: “وإن سقط أيّاً كان، في النهاية لن يخرج أحدهم خاسراً، الخاسر الوحيد هو الشعب، هو نحن وأطفالنا”، في النهاية ما حيلة الشعب تجاه كلّ ذلك؟ 

جاري يشعر بأنه ضعيف وخائف، ويعلم أن ثمن الحياة الكريمة أكبر من أن يتحملها، لكنّ الأرقام التي يطرحها رامي مخلوف في فيديواته وتصريحاته كبيرة والشعب جائع، وهذا وحده يجعل جاري يعيد مراجعة مواقفه، فالجوع أقوى من أي فكر ثوري أو انتماء وطني، الجوع يخلق الثورات الكبيرة في العالم.

حالياً، يبلغ سعر غرام الذهب 46 دولاراً تقريباً، في حين أن متوسط راتب المواطن السوري هو 35 دولاراً، وسعر كيلو اللحم حوالي 6 دولارات، وسعر الحذاء الجيد لا يقل عن 6 دولارات. حسابات بسيطة تقرّب لنا كلفة متطلبات الحياة من أصغرها حتى أكبرها.

كيف ينقذ السوريون أنفسهم؟

“وضعت في قدمي 3 ملايين ليرة سورية”، تردد والدة صديقتي، وتقصد بذلك عملية تبديل مفصل الركبة ولكن إن كنا نتحدث عن عملية تساوي راتب موظف لخمس سنوات في حال لم يصرف منها ليرة، فكيف دفعت تلك العائلة ثمن العملية؟ تقول صديقتي: “وصلت والدتي لمرحلة باتت عاجزة عن المشي وكان يجب أن نتحرك فكانت الجمعيات الخيرية مفتاح الحل، فواحدة تكفلت بالعمل الجراحي، واستطعنا جمع جزء من ثمن المفصل من جمعيتين أخريين، وباعت والدتي سواراً من الذهب والجزء المتبقي قمنا باستدانته”.

 في النهاية حتى حلول السماء تتوقف وعلى الإنسان السوري أن يتكفل بإيجاد الحلول ويبدو أن صفحات “الفيس بوك” أكثر كرماً من السماء، فتجد هنا وهناك صفحات لشخصيات تقوم بالعمل الخيري عن طريق عرض حالة المحتاج وطلب المعونة من المقتدرين وهكذا تنهمر مئات الدعوات ثم يظهر تعليق يبشر بوصول مبلغ من أهل الخير. يعتمد كذلك السوريون على المغتربين في دول الخليج والغرب، فماذا تعني 100 دولار في الخارج، لكنها تعني في الداخل الكثير.

من جهة أخرى كان المصرف المركزي أخبث، ولعب بالجزء الرابح، فالحوالات تصرف بالليرة السورية حصراً وبنصف سعر صرف السوق السوداء، فإن كان اليوم سعر الدولار في السوق السوداء ب1500 ليرة فسعر المصرف المركزي لم يتجاوز 700 ليرة سورية. رفض البعض أن يخسر نصف المبلغ ووجد حلولاً بديلة، فصارت عمليات تحويل طويلة تبدأ من بلاد المغترب ثم تمر بلبنان عبر وسطاء أو رفاق أو أقارب ثم يرسل المبلغ مع أحد سائقي التكسي بمبلغ لا يتجاوز 5000 ل.س عن كلّ 100 دولار، فأن تخسر 3 دولارات أفضل من خسارة 50 دولاراً رغم كلّ الخطر!

أمّا عن قانون منع التعامل بغير الليرة السورية والذي يجرّم المتعاملين به بسبع سنوات حبس مع منع إخلاء السبيل، فيعتبره تاجر هواتف محمولة التقيناه بأنه مجرد هراء: “كيف يحصل ذلك ونحن نستورد بضاعتنا بالقطع الأجنبي؟ لا يوجد اليوم تاجر يمنحك البضاعة بالليرة السورية وحتى مع وجود القانون الصارم فالجميع وجد طريقه للتعامل بالدولار من تحت الطاولة، والتاجر الذي يقدم لفرق مديرية التموين دفتراً كُتِبت عليه المشتريات والمبيعات بالليرة السورية، لديه في مكان سريّ دفتر يتعامل فيه بالدولار!”

يبدو أن العالم  بات في مكان والسوريون في مكان آخر، وهم يرون الأشياء تكبر وتكبر وتغدو عملاقة أمّا هم فيزداد صغرهم حتى يكادون يتلاشون بين احتياجات الحياة  وحليب أطفالهم والخبز واللباس المستور على الأقل، كلّ هذا سينتج عنفاً من نوع ما في النهاية، فإن عجزَ الناس عن مجابهة السلطة فسينهشون جسد بعضهم، وهذا ما يحصل بشكل صريح ويبلغ ذروته في مدينة السويداء في الجنوب السوري حيث انتشرت عصابات السرقة والخطف بشكل جنوني: سيارات تُسرق كلّ يوم، مخطوفون مقابل فدية مالية تبدأ بالمليون ليرة سورية وتصل إلى الثلاثين مليون، سرقة قطيع أغنام هنا وبقرة لامرأة أرملة هنا، لا يهمّ الضرر المُلحق بالضحية والذي يصل حتى القتل، فالجوع يبيح كلّ شيء، حتى بات سكان السويداء ينظرون نحو بعضهم بخوف مع غياب كامل للسلطة وكأنّ ما يحدث في تلك المدينة هو في دولة أخرى.

سرقة ثروات البلد، الحرب التي لم تنته بعد، ووباء “كورونا” وإغلاق الحدود والأزمة الاقتصادية في لبنان والحصار الاقتصادي المفروض على سوريا، هي كلّها اليوم أسباب مباشرة وغير مباشرة للجوع والفقر المنتشر والذي يهدد كلّ منزل تقريباً، وكلّ ما يملكه السوريّ هو الخوف من الغد.

 يواسي السوريون بعضهم، يتوقفون عن شراء العديد من الإحتياجات على حساب تأمين لقمة العيش البسيطة، وماذا بعد؟ هو السؤال الذي يخشون معرفة إجابته!