fbpx

سمير قصير وإرث الممانعة السوري

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في تحوّل استذكار الكاتب اللبناني الراحل سمير قصير، رثاء وحسرة ومديحاً، تقليداً لدى عدد كبير من السوريين، انفصال حاد مع أحوال سابقة، معطوف على بلوغ أحوال جديدة غير مدركة بما يترتب على الإدراك، من أفكار وقناعات وتصورات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

والتقليد هذا جلبته الثورة التي خاصمت النظام بكل ما عنى الخصام من اتساع في الموقف، سواء في لبنان أو غيره، فعدو بشار الأسد بات صديق الثورة وصديقه عدوها. والمعادلة الأخيرة غدت معياراً للنظر إلى الخارج معفية الذات الثورية من البحث في أرشيفها عن خصم اليوم الذي كان صديق الأمس. سوريون كثر مؤيدون للثورة جعلوا وعيهم مسرحاً لتحوّل الأصدقاء إلى أعداء والعكس، ضمن سيولة معيارية يضيع فيها الفرز والنقد، وتضع أولويتها الانتصار على الأسدية دون تصفية الحساب الفكري معها. 

وسمير، الذي اغتيل في عداد من اغتيلوا تضحية للانتفاضة اللبنانية، مرّ في السيولة المذكورة، ومضى من زمن إلى آخر متحولاً إلى “شهيد”، والعبور في أوضح معانيه هنا هو من الممانعة والمقاومة إلى الثورة وإسقاط النظام. وبين العالمين، يتبدى، قفز وسرعة وخطف، واستعجال للانتقال من ما هو متجذر ومؤسس، إلى ما هو عابر وموقت. 

الثورة لم تمحُ الممانعة بمساراتها الجذرية، بل مرت بقربها من دون أن تمسها، وفي تجنب طرح مقاربات حول صيغ الحكم في سوريا، وطبيعة العلاقات بين الطوائف وقبول تجربة الأكراد، الكثير من الأدلة حول ذلك.  في سوريا الثورة، سمير بات بطلاً، لكن الممانعة أيضاً لم تخف بطولتها.

والممانعة في سوريا أقدم من الأسدية، خصوصاً إذا ما عنت في نسختها التأسيسية، راديكالية انقلابية معطوفة على كراهية للغرب، ومركزة لفلسطين. فعقب الاستقلال، يظهر تدريجاً إفلاس الأحزاب التقليدية القائمة على أعيان المحافظات الأربع، دمشق وحلب وحمص وحماه، وبهت حضور تلك الأحزاب مع تزايد الانقلابات التي استهدف بشكل خاص حزب الشعب الذي مثل برجوازية حلب، بسبب قربه من الهاشميين. يضاف إلى ذلك انعدام البرامج السياسية أو ركاكتها والاستناد على إرث مقاومة الانتداب، لدى شخصيات من أمثال شكري القوتلي ساهم في صعود القوى الراديكالية، التي تسللت من تناقضات الطوائف المتداخلة مع انقسام الريف والمدينة، فزاد عدد النواب البعثيين وبات أكرم الحوراني لاعبا أساسياً في السياسة السورية، وسطع نجم الشيوعي خالد بكداش، وعبر، دعم الزراعة والتعليم بات لهذه القوى فيض بشري سوري، انحاز بحكم الحرب البادرة إلى السوفيات، وبحكم الاستقطاب بين محور بغداد والناصرية، إلى الناصرية. 

والأخيرة منحت الممانعة في سوريا، شعوبية عارمة، فغدت الأيديولوجيا الراديكالية، التي تحيل إلى تركيب من البعثية والقومية والشيوعية، محصنة بإرادة الشعب وقوته وجبروته، كما باتت محصنة أيضاً بأنياب أمنية. والخلطة المتشكلة من تناقضات تحولت لاحقا إلى خصومات وتصفيات، بقيت تملك الكثير من المشتركات سيما معاداة الغرب وإسقاط أفكار تحديثية قسرية على مجتمع تقليدي. وتتبدى، أي الخلطة، تأسيسياً وجذراً لممانعة سورية، امتلكت الأرضية مع العهد الفيصلي حيث الوحدة المستحيلة قياساً إلى تأجيل البحث عن الكيان، واللهاث وراء استعادة المشتت من أراضي السلطنة العثمانية. فوهم الوحدة ما قبل الانتداب، تبدى مساراً واجب الاستكمال، أبطاله جيل جديد من الراديكاليين. وهؤلاء، عاشوا بعضاً من مزايا العهود التي دمروها، فشهدوا حرية صحافة وتشكيل أحزاب وانتخابات، وما بالغ كثيرون في وصفه، بديموقراطية الخمسينات، التي لم تكن سوى آثار للانتداب اندثرت تدريجاً، وباتت روافع وأدوات لتصعيد من يناقضها ولا يؤمن بها.

سمير، الذي اغتيل في عداد من اغتيلوا تضحية للانتفاضة اللبنانية، مرّ في السيولة المذكورة، ومضى من زمن إلى آخر متحولاً إلى “شهيد”، والعبور في أوضح معانيه هنا هو من الممانعة والمقاومة إلى الثورة وإسقاط النظام. وبين العالمين، يتبدى، قفز وسرعة وخطف، واستعجال للانتقال

والأسدية، إذ ورثت هذا كله، جعلته خطابها العام وعقيدة ودعاية متواصلة، تبيعها لأصحابها، أي معظم السوريين، مع ترك مركّب السلطة الضيق ينمو عائلياً وطائفياً ومناطقياً. والأخير مع تكشّفه استدعى صدامات مع المجتمع، انتهت باستمراره قوياً، وممسكاً بشروط السياسة التي فرغت من معناها، فصارت الممانعة خطاب شعب مسحوق وخطاب النظام الذي يسحقه، من دون أن يشكل ذلك أي تناقض، بين المحكوم والحاكم، المظلوم والظالم، فالأول تمسك بما نشأ عليه من خطاب، والثاني اعتمد هذا الخطاب بوصفه دعوة على ما يقول ابن خلدون. 

وغالباً ما ارتسمت معارضة سياسية ما للنظام انطلاقاً من الصراع على الخطاب المذكور، عبر اعتراض من هنا على دخوله لبنان لضرب منظمة التحرير، واتهام من هناك ببيعه الجولان، وبين الهنا والهناك، معارضون يرفضون دعوات أميركية لإطلاق سراحهم ويفضلون البقاء في السجن، وفق ما كشف أحد هؤلاء في الفترة الأخيرة. والمعارضة لم تخرج عن مسار ولادة الممانعة في البلاد، عملاً بأصولها الأيديولوجية، فخاصمت النظام في الحلبة نفسها، قبل أن تطعم خطابها أكثر فأكثر، وفي وقت متأخر، بمفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة، وهي مفاهيم في بلد معقد التكوين مثل سوريا تغدو مجردة من دون آليات تطبيق. واستناداً إلى ماضيها العقائدي مع ما استجد عليها من مفاهيم ليبيرالية جامدة، باتت المعارضة آلة لإنتاج المواقف فحسب، من دون طرح مقاربات ووضع حلول، على ما لاحظ كاتب معارض في إحدى ملاحظاته الثاقبة. 

 وجمهور الراديكالية العريض في سوريا، وقد نجا منه أيتام العهود المنقضية وأجزاء من الأقليات، بقي خلال الحقبة الأسدية، أسير الروافع الاقتصادية من قطاع عام وإصلاح زراعي وتعليم مجاني، والروافع، التي استدخلت فيها عناصر سلطوية وأمنية ضابطة، ضمنت بقاء معظم السوريين، في اتصال مع الممانعة المتمثلة حديثاً في هيكلية مؤسساتية، وكذلك ضمنت صمتهم وعدم اعتراضهم. فحال القمع المكروه من الشعب دون فكاك الأخير عن ممانعته، التي، وإن تمثلها النظام خطابا وعقيدة، فهي أيضاً البنية التحتية لمجتمع أغلق عليه قسراً.

والمؤسساتية المضبوطة أمنياً، انطوت، بطبيعة الحال، على قيم تقطع مع الغرب، لم يتخلَّ عنها معظم السوريين. وهو ما أنعش الممانعة في المرحلة البشارية، التي شهدت 11 أيلول/ سبتمبر والتدخل الأميركي في العراق وجولات صراع بين “حماس” وإسرائيل، وتوتر سياسي في لبنان. 

والمحطات هذه، منحت إرث الممانعة السوري، عمقاً جديداً، بمساعدة الدعاية البعثية، فمحاربة الإرهاب استهداف للمسلمين والعرب، وإسقاط صدام إهانة لكرامتهم، وحروب إسرائيل على الجماعة الإخوانية المتسلطة في غزة انتصارات متواصلة، ومطالبة 14 آذار بديموقراطية لبنان مطلب إسرائيلي لاستهداف “المقاومة” هناك.

وإن بدا اغتيال البشارية مع من تتحالف معهم في لبنان من أمن ومقاومة، رئيس الوزراء، رفيق الحريري، استفزازاً للعصب السني داخل عالم الممانعة السوري، لكن ذلك استُوعب باحتضان للمقاومة العراقية واستضافة “حماس”، وهما جماعتان سنيتان “مقاومتان”، فاخرت البشارية أنها تستقبلهما على رغم الضغوط الأميركية.

والنظر إلى سمير قصير الصحافي الشجاع، لا يخرج عن مسار الممانعة السورية ما قبل الأسدية وخلالها، فهو، أي سمير دأب على التواصل مع نخب سورية، مسلماً بحرية شاملة تتجاوز الحدود، ما جعله نموذجاً مقبولاً لدى جزء من المعارضة، وكأنه خاطب في حماسته للقضية الفلسطينية وتطويره للعروبة، شيئاً من قيمها من دون تحفيز على تطوير الأخيرة. لكنه، ظل في الوعي الممانع شعبياً، سواء كان معلوماً أو مجهولاً، جزءاً من منظومة معادية تريد الفتك بما استقرت عليه الممانعة من مقاومة وخطر أميركي والصمود ضد إسرائيل.

والراحل إذ يعاد إنتاج صورته اليوم على وقع ثورة قلبت وجهات النظر، انطلاقاً من معيارية كراهية النظام، من دون أن تمس بالمفاهيم التي استند إليها الأخير، ينتقل من السلب إلى الإيجاب، مع إغفال متقصد لأي تنبه لحيثيات هذا الانتقال، ومراجعة الموقع الذي كان يشغله سمير قبل أن يصبح في وعي كثيرين شهيداً. 

والإغفال والانتقال من دون قيم، يكشفان أن الثورة لم تمحُ الممانعة بمساراتها الجذرية، بل مرت بقربها من دون أن تمسها، وفي تجنب طرح مقاربات حول صيغ الحكم في سوريا، وطبيعة العلاقات بين الطوائف وقبول تجربة الأكراد، الكثير من الأدلة حول ذلك. 

في سوريا الثورة، سمير بات بطلاً، لكن الممانعة أيضاً لم تخفّ بطولتها.

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.