fbpx

في تونس… لا حرية تعبير في حضرة “المقدّس”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

رغم الشعارات التي ترفعها الحكومات بشأن دعم حرية التعبير وحمايتها، إلا أن موجة الاعتقالات والتضييقات بسبب أفكار أصحابها، تؤكد أن هذا المنجز على المحك، لا سيما بوجود تيارات سياسية قد ترفض تقاطع حرية التعبير مع المقدسات …

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قرابة الـ10 سنوات من الثورة في تونس لم تحمل في طياتها مؤشرات إيجابية تذكر على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، لكنها أفرزت انتعاشة مهمة لحرية التعبير وحيوية المجتمع المدني. 

مكسب يبدو وحيداً لثورة كاملة يفاخر به التونسيون ويتعهدون بالحفاظ عليه، لكن هذا المنجز ما زال يشهد هزات متتالية من حكومات تسعى إلى السيطرة على آراء مواطنيها وقولبتها بما يتلاءم مع توجهاتها و ايديولوجيتها. فبعد موجة الاعتقال التي طاولت المدونين بسبب انتقاد أداء المسؤولين في فترة الحجر الصحي، جاءت الرقابة الأمنية والقضائية هذه المرة بذريعة المس بالمعتقدات، واستهدفت الطالبة آمنة الشرقي التي شاركت في نشر نص ساخر على وسائل التواصل الاجتماعي، اعتبر مسيئاً للإسلام ووضعها أمام أنظار المحكمة الجنائية. 

النص الذي كتبته آمنة الشرقي وتلاحق بسببه

قضية آمنة الشرقي عززت المخاوف من نزوع السلطة إلى تكميم الأفواه لا باستخدام العنف والبلطجة اللذين مارستهما سابقاً مجموعات موالية للحكومة، وحسب،  بل أيضاً عبر الوسائل القانونية المتاحة، بما في ذلك توظيف الجهاز القضائي. وعلى رغم الشعارات التي ترفعها الحكومات بشأن دعمها حرية التعبير وحمايتها، إلا أن موجة الاعتقالات والتضييقات المفروضة بسبب أفكار أصحابها، باتت تؤكد أن هذا المنجز على المحك، لا سيما بوجود تيارات سياسية قد ترفض تقاطع حرية التعبير مع المقدسات وتصر على اعتبار الاقتراب من هذه الدائرة جرماً يستحق العقاب.   

أجّل القضاء التونسي البت في قضية الطالبة آمنة الشرقي إلى الثاني من تموز/ يوليو المقبل مع الإبقاء عليها في حالة “سراح”.

وكانت الشرقي شاركت في 3 أيار في نشر نص ساخر بعنوان “سورة كورونا” لتُستدعى بعد يوم واحد من النشر من قبل الشرطة في العاصمة تونس للتحقيق معها من دون السماح لمحاميتها بمرافقتها. وقرر المدعي العام بعد سماعها في المحكمة الابتدائية في تونس، توجيه تهمة المس بالمقدسات والاعتداء على الأخلاق الحميدة والتحريض على العنف.

والتدوينة، نص ساخر كتب بأسلوب المحاكاة اللغوية (أي أن تبني نصاً على مثال جاهز أو بالمعجم ذاته، أو عبر استلهام روافد حضارية أو ثقافية والنسج على منوالها) واستخدمت الكاتبة على مستوى الشكل آيات قرآنية، فيما تطرق المضمون إلى “كورونا” ومعاناة الناس بسبب انتشاره، إضافة إلى دعوة إلى التزام إجراءات النظافة والتعقيم.

وفضلاً عن التتبعات القضائية تلقت آمنة رسائل تهديد صريحة بالقتل من قبل أشخاص، قاموا بتكفيرها من دون أن تحرك السلطات ساكناً لتتبعهم أو حمايتها.

وقالت ايناس الطرابلسي إحدى محاميات الدفاع عن آمنة الشرقي إن “مضمون المنشور لا يمت بأي صلة للتهمة التي وجهت لموكلتي لأنه مجرد نص نثري كتب في إطار مزخرف وفيه وصف متداول لفايروس “الكورونا” وكيفية التعامل معه ولا يتضمن أي عبارة نابية أو مسيئة أو ساخرة من القرآن، كما أنه خال من البسملة. لذلك فإن نسبة تحريف القرآن راجت بسبب الجانب الشكلي للنص وليس مضمونه والحال أن ذلك الشكل ليس من كنه القرآن، بل هو مجرد فن من فنون التزويق والطباعة، اعتمد في طباعة بعض المصاحف ولا علاقة له بقدسية القرآن بل إن النسخ الأولى من المخطوطات والمصاحف لم تعتمده كمخطوط جامعة برمنغهام ومصحف ابن غطوس في دار الكتب الوطنية في تونس والمصحف الأزرق في متحف رقادة القيروان”.

وبحسب الطرابلسي، فإن قرار فتح البحث في مركز الأمن كان أساسه المسّ بالمقدسات عملاً بالفصل السادس من الدستور الذي يقر بأن الدولة تحمي المقدسات، ولكن بعد الإحالة على النيابة العمومية وجهت إليها تهم الدعوة إلى الكراهية بين الأديان والأجناس والسكان، وذلك باستعمال إحدى الوسائل العدائية والنيل من إحدى الشعائر الدينية وهي تهمة تتضمن عقوبة تصل إلى السجن حد الثلاث سنوات، مع غرامة مالية تصل إلى ألف دينار. 

قضية آمنة الشرقي أثارت المخاوف من استهداف مكسب حرية التعبير واتباع سياسة تكميم الأفواه تحت مظلة المقدس وغيرها ومن المسميات. كما أن إحالة المتهمة على القضاء بسرعة قياسية، لم تشهدها تونس في قضايا خطيرة كالإرهاب والتكفير والإجرام، بدت مثيرة للريبة

“ونظراً إلى ما بين أيدينا، فإن التهم التي أحيلت من أجلها الشرقي المتعلقة بالدعوة إلى الكراهية والعنف والنيل من الشعائر الدينية لم ترد بالمرة داخل النص الذي قامت موكلتي بنشره نقلاً عن صفحة أخرى وبالتالي فإن ركناً مهماً من أركان الجريمة غير متوفر” تضيف الطرابلسي.  

ويرى حقوقيون أن طرح مثل هذه القضية بهذه السرعة في هذا الظرف الصحي الاستثنائي يثير الريبة، لا سيما في ظل عدم التعاطي بالنسق ذاته مع قضايا أخرى أكثر خطوة على غرار العنف خلف الجدران الذي جدّ بقوة في فترة الحجر الصحي.   

وتشهد تونس منذ عام 2011 قضايا وأحداثاً مماثلة بشكل متواتر أثارت جدلاً كبيراً بسبب ما اعتبر مساساً بالمقدسات، واستهدف خلالها عدد مهم من الفنانين والمفكرين. وعلى رغم وجود ضمانات قانونية تكفل حرية التعبير وحرية الضمير، إلا أنها ظلت مستمرة حتى اليوم بسبب عدم حسم هذا الملف بشكل قطعي وتواصل التداخل بين النصوص القانونية التي تكفل من جهة حرية التعبير والضمير وتعاقب من جهة أخرى من ينتقد أو يتناول ما يسمى “المقدس”.  

ينص الدستور التونسي الذي سن عام 2014، وهو أعلى مرجع قانوني في البلاد، على أن “حرية الفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، ولا تجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات”. ولكن على رغم ذلك يحاسب التونسيون ويواجهون القضاء أو الهجوم من مجموعات محسوبة على تيارات سياسية معينة بسبب التعبير عن آرائهم في ملفات عدة. 

وعلى سبيل الذكر لا الحصر في 2011 وفي إطار تظاهرة “نحي يديك على مبدعينا” في قاعة الافريكارت في العاصمة وعند عرض فيلم المخرجة نادية الفاني “لائكية إنشالله”، اقتحم ملتحون قاعة العرض مرددين شعارات دينية تنادي بالشريعة وهشموا واجهات القاعة واعتدوا على المبدعين والفنانين هناك.

وفي حزيران/ يونيو 2012 هجمت مجموعات سلفية على معرض للفن التشكيلي وأتلفت عدداً من اللوحات والتجهيزات بحجة أنها “مسيئة للإسلام”.

كما واجه المفكر والجامعي التونسي المختص في الحضارة الإسلامية محمد الطالبي هجمات شرسة وتم تكفيره وتهديده بالقتل والتشكيك في مداركه العقلية لدى تصريحه في آذار/ مارس 2015 بأن الرسول محمد كان يشرب الخمر، وأن البغاء حلال وهو مهنة كغيرها من المهن، وأن “الشريعة تكذب على الله”. 

وفي شباط/ فبراير 2017 كانت مسرحية “ألهاكم التكاثر” من إنتاج المسرح الوطني عرضة لهجوم شرس، بسبب استعارة العنوان من النص القرآني بدعوى الدفاع عن المقدس، قادها النائب رضا الجوادي. وتعرض مخرج المسرحية نجيب خلف الله لاعتداء بالعنف بواسطة آلات حادة خلفت له إصابات بليغة على مستوى الرأس والعين بعد عودته من العرض، ضمن فعاليات احتفال المسرح الوطني باليوم العالمي للمسرح.

قضية آمنة الشرقي أثارت المخاوف من استهداف مكسب حرية التعبير واتباع سياسة تكميم الأفواه تحت مظلة المقدس وغيرها ومن المسميات. كما أن إحالة المتهمة على القضاء بسرعة قياسية، لم تشهدها تونس في قضايا خطيرة كالإرهاب والتكفير والإجرام، بدت مثيرة للريبة وبعثت برسائل جديدة مفادها أن حرية التعبير التي يفتخر بها التونسيون بعد الثورة باتت على المحك. وهو ما دفع منظمات المجتمع المدني في تونس للاستنفار والتأكيد في بيانات مفتوحة رفضها مجريات القضية برمتها وجندت عدداً كبيراً من المحامين للدفاع عن الطالبة محل التتبع. 

يقول بسام الطريفي عضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان لـ”درج” إن “حرية التعبير هي المكسب الوحيد الذي جنيناه من ثورة 14 كانون الثاني/ يناير، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نسمح بأي محاولة للارتداد والتراجع عنها. وعلى رغم وجود تحركات بعضها مدروس وممنهج ضد بعض الشباب والمدونين على خلفية آرائهم، إلا أننا سنواصل العمل لإحباطها والتصدي لها وهو ما قمنا به مع الشرقي التي حاولنا أن نساندها عبر التنديد بالقضية وتوكيل محامين للدفاع عنها ولن نتوقف حتى تتم تبرئتها”. 

التنسيقية التونسية للحقوق والحريات (مجموعة من منظمات المجتمع المدني) أبدت قلقها من انتهاكات لحرية الإعلام والتعبير والضمير في تونس، خصوصاً مع تصاعد حملات التهديد وانتهاك حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير، وهي الحريات المضمونة بالدستور والتشريعات الوطنية وبالمعاهدات الدولية المصادق عليها من الدولة التونسية.

وطالبت “منظمة العفو الدولية” السلطات التونسية بوقف مقاضاة آمنة الشرقي وإسقاط التهم الموجهة إليها، والتحقيق في التهديدات المثيرة للقلق بالقتل والاغتصاب التي تتلقاها، وتوفير الحماية لها.

آمنة القلالي، نائبة المديرة الإقليمية لشمال أفريقيا والشرق الأوسط في “منظمة العفو الدولية”،  قالت “إن محاكمة آمنة الشرقي ليست إلا مثالاً آخر من السلطات على مواصلة استخدام القانون القمعي لتقويض حرية التعبير، على رغم التقدم الديموقراطي في تونس”.

ورأت أنه من غير المقبول أن يواجه شخص ما عقوبة سجن تصل إلى ثلاث سنوات لمجرّد مشاركته تعليقاً ساخراً على “فايسبوك”.