fbpx

محسن إبراهيم الفصيح والفاتن

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في تأبين محسن ابراهيم يسعنا ان نؤبن مرحلة كاملة. بهذا المعنى كان محسن شخصية تاريخية، بل كان قادرا على ان يكون كذلك، لا في لحظات نشاطه الصارخ فحسب، بل ايضاً في صمته الأخير وانقلاب الأمور عليه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

  • رحل السياسي اللبناني البارز محسن إبراهيم، أحد أبرز اليساريين والقوميين العرب خلال حقبتي السبعينات والثمانينات. لعب ابراهيم دوراً بارزاً في نشوء الحركة الوطنية اللبنانية وارتبط اسمه بشخصيات تاريخية وبذاكرة لبنان خلال العقود الخمسة الأخيرة.  هنا نص تأبيني للشاعر والكاتب عباس بيضون…

محسن ابراهيم

إذا ابتعدنا قليلاً من المشاعر الشخصية وهي من أركان التأبين بدون شك، فإنني أخشى، في حالة شخص كمحسن ابراهيم، عايشتُه في غير مرحلة وغير فترة، إن أنا أسلمت القيادة لمشاعري، أن أجد نفسي قريباً من نفسي ومن حياتي إلى حد يختلط علي فيه الأمر، وإلى حد يغدو فيه الحميم الحميم هو الأصل. وليس هذا المطلوب حين يكون الآخر المعني هو محسن ابراهيم.

على رغم أنس محسن وفتنته الشخصية لا أظن أن هذا ما كان يريده من الكلام عنه، فلم يكن محسن شاعراً ولا قريباً من الشاعر. وعلى رغم لطفه وأدبه الرفيع، لم يكن رومانسياً بأي حال، ولا حميماً بالمعنى الشخصي للحميمية. 

كان محسن ابراهيم بالدرجة الأولى سياسياً بالمعنى الذي يستهويه، وحين كان يردد مصطلح “شخصية تاريخية” في الكلام عن أحد، كان كأنه يعني نفسه. لعل هذا ما كان ينقصه كسياسي، فالكاريزما الهائلة التي كانت له والفتنة الشخصية التي كانت تغوي الآخرين، ومن بينهم شخصيات تاريخية فعلاً، والذكاء الثاقب الذي كان أول ما يبهر فيه، كل ذلك الذي كان يمكن أن يصنع سياسياً بارزاً، ما كان ليفعل ذلك في بلادنا. لا أعني لبنان وحده بل دنيا العرب كلها. 

كان مفرداً بين جمهوره الذي كان دائماً أقل من أن يُكوّن زعامة. كان مفرداً في تنظيمه الذي لم يكن في يوم من الأيام بالحجم الذي يؤسس زعامة، وبخاصة في أعوامه الأخيرة التي لم يعد فيها تنظيمه، أو التنظيم الذي بقي له بعد التصدعات، والذي لم يعد أكثر من اسم لا يقارن باسم أمينه العام، وبالطبع لا يستطيع أن يرث تاريخه أو يبني عليه. هذه الخاتمة لحياة مدوية، خاتمة لم تكن لتخدع شخصاً في ألمعية محسن وتراثه.

ففي بلادنا لا تلعب الكاريزما ولا الذكاء ولا الفتنة الشخصية في تقرير مصير السياسي الذي يكون عادة متوسط الذكاء، بسيط الحيلة، قليل الفتنة، قليل الفصاحة، ضئيل الثقافة، أي أنه عامي وعادي إلى حد بعيد. هذه صفات الزعماء والضباط الحاكمين، بل هي صفات المحبوبين منهم وذوي الشعبية، ولسنا نجد بسهولة في هؤلاء ما يلفت وما يذكر عنهم. هؤلاء كانوا مثل الجميع قابلين للافتتان بمن لهم ذكاء محسن وظرفه وفصاحته. لم يكن غريباً أن يفتتن عبد الناصر وكمال جنبلاط وياسر عرفات بمحسن إبراهيم، فقد كانت شخصيته آسرة بكل المعاني. 

إذا كان لنا أن نتحدث عن شخصية محسن فإن أول ما نلاحظه هو الذكاء الذي لا يقف عند التقدير الفوري الدقيق للأمور فحسب، بل هو في الآن نفسه قادر، بالدرجة نفسها، على استباقها. فقد كان يملك ذلك الاستباق المستقبلي. لم يكن أول من فكر بالانعطاف الماركسي لحركة القوميين العرب لكنه كان الأول الذي حول هذا الانعطاف إلى قرار وإلى مفصل تاريخي. كذلك لم يكن الأول الذي انتبه إلى “لبنان الاشتراكي” لكنه كان الأول الذي فاجأ الجميع باقتراح اندماج مع “لبنان الاشتراكي”. هكذا كان في لحظة مبكرة قادراً على استباق القرار وإملائه. هكذا يمكن أن نتكلم عن محسن ابراهيم السياسي الذي يملك ملكة شخصية وهي نظرة السياسي وكاريزماه ونفاذه وذكاؤه. كان يملك ذلك كله في أوساط لا تبني عليها ولا تجعل منها شرطاً أو عنصراً أساسياً في تكوين الزعامة السياسية أو في تكوين ما كان يسميه “الشخصية التاريخية”. 

كان السياسيون يلحظون فوراً في محسن ما كان ينقصهم وما يكملهم بالتالي، لذا كانوا يفتتنون به ويقرّبونه ويضعونه أحياناً في نيابتهم. ذلك ما جعله غالباً مفرداً، فهو القريب شخصياً، وأحياناً الشديد القرب من زعامات جماهيرية، كان مفرداً بين جمهوره الذي كان دائماً أقل من أن يُكوّن زعامة. كان مفرداً في تنظيمه الذي لم يكن في يوم من الأيام بالحجم الذي يؤسس زعامة، وبخاصة في أعوامه الأخيرة التي لم يعد فيها تنظيمه، أو التنظيم الذي بقي له بعد التصدعات، والذي لم يعد أكثر من اسم لا يقارن باسم أمينه العام، وبالطبع لا يستطيع أن يرث تاريخه أو يبني عليه. هذه الخاتمة لحياة مدوية، خاتمة لم تكن لتخدع شخصاً في ألمعية محسن وتراثه.

لكن هذه الخاتمة لم تكن في أي حال شخصية أو فردية، على رغم دويها. إنها، بشكل مبكر، سيرة النخبة العربية في كثير من الأقطار. النخب المثقفة التي يشكل قلقها الثقافي نصف تاريخها، كما أن النصف الآخر ضاع في هذه المراودة للسلطة، المراودة التي كان القلق يحولها باستمرار إلى نوع من التأنيب الذاتي والمثالية الحزينة. وهو ما كان لا يبرر الانشقاقات داخل الذات وحسب، بل يبرر أيضاً تلك المراوحة بين المعارضة والسلطة الاعتراضية. كما أن هذه السيرة وبخاصة خاتمتها، هي أيضاً، على الصعيد اللبناني، سيرة الشيعي اللبناني الذي فتش في البداية عن هوية في الخارج، قومية أو أممية قبل أن ينخرط، كما هي الحال اليوم، في هوية على الغرار اللبناني مركّبة من الداخل والخارج معاً، في تطابق غريب لكنه راسخ لبنانياً، بل يذهب إلى أبعد ما يمكن في ذلك.

في تأبين محسن ابراهيم يسعنا ان نؤبن مرحلة كاملة. بهذا المعنى كان محسن شخصية تاريخية، بل كان قادرا على ان يكون كذلك، لا في لحظات نشاطه الصارخ فحسب، بل ايضاً في صمته الأخير وانقلاب الأمور عليه. في هذه الخاتمة هو ايضا السياسي المنكسر، وهو أيضا الممثل التاريخي. مع ذلك لا يهمني كثيرا مراجعة التاريخ السياسي للرجل. لا تهمني كثيراً محاكمة مواقفه وأحكامه. لقد بات، كل ذلك، على نحوٍ ما في التاريخ الذي هو أيضا تاريخنا كلنا. وفي رحيل محسن ابراهيم وخواتيمه ما يعنينا جميعا، بل ما يشملنا جميعا. لا نخطىء إذا فكرنا اننا نقاسم محسن ذات الخاتمة، بل نحن، بطرق مختلفة، عشناها، وما اخشى قوله اننا نجد الحميم الحميم، في حياة محسن، وفي رحيله هنا.

محسن ابراهيم في لقاء جمعه مع ياسر عرفات ووليد جنبلاط ونبيه بري – 1982