fbpx

عندما وضعت إسرائيل العرب في “غيتوات” محاطة بأسلاك شائكة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ربما بدأ حظر التجول والإغلاق التام اللذان فرضا في إسرائيل خلال جائحة “كورونا”، يبدوان مثل ذكرى باهتة، لكن قليلين يعلمون أن كثراً عاشوا في ظروفٍ مشابهة في الماضي…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

غير أن الأسلوب المتبع وقتها اتسم بأنه كان عدوانياً للغاية، مع اللجوء إلى أسوار وحواجز من الأسلاك الشائكة لترسيم المناطق التي كانت تسمى “غيتوات” أو معسكرات اعتقال.

بدأ فرض حظر التجول والعزل على العرب فور احتلال القوات الإسرائيلية المدن العربية أو المدن المختلطة التي يسكنها عرب ويهود، خلال حرب عام 1948 (النكبة). وأدت المعارك إلى خضوع آلاف العرب القاطنين في المدن لسيطرة اليهود.

لم يشارك غالبية العرب بفاعلية في الحرب، وشكل من بقي منهم في المدن جزءاً صغيراً من مجموعة سكانية مهزومة وضعيفة، تعيش في خوف ولا تتمتع بأي تمثيل. وكانت الأشهر الطويلة التي تلت عملية غزو المدن في منتصف عام 1948 بمثابة محاكاة مُصغرة لمستقبل العلاقة بين الشعبين اللذين يتشاركان في البلد.

قال غاد ماخنيس، المدير العام لوزارة شؤون الأقليات آنذاك، إنه “يعتقد أنه لم يعد هناك مبرر لاحتجاز العرب في معسكرات اعتقال تحوطها أسلاك شائكة”. لكن هذا التعليق تم تنقيحه منذ فترة وجيزة فقط في الملف الذي يحتوي على سجلات لقاءات اللجنة بواسطة هيئة أرشيفات الدولة. والغرض من ذلك جلي: لا يحق للمواطنين الإسرائيليين معرفة ماضيهم. 

في مدينة حيفا، التي احتُلت في نيسان/ أبريل عام 1948، لم يبقَ سوى 3500 عربي من أصل 70 ألف عربي، كانوا يسكنون المدينة قبل فترة وجيزة من احتلالها. وفي مدينة يافا، التي استسلمت للقوات اليهودية في 13 أيار/ مايو من العام نفسه، والتي كان تعداد سكانها العرب قبل الحرب مماثلاً لنظيره في مدينة حيفا، لم يبق سوى 4 آلاف عربي. في حين لم يتبق من سكان مدينتي الرملة واللد العربيتين سوى حوالى ألفي عربي، وذلك بعد استيلاء القوات اليهودية عليهما في تموز/ يوليو من عام 1948. وفي بعض المدن الأخرى التي استولت عليها القوات الإسرائيلية، مثل طبريا وصفد وبيسان (بيت شآن) وبئر السبع، لم يتبق أيّ عرب أصلاً. وبعد الحرب بفترة وجيزة، أصبح أغلب السكان العرب (85 في المئة منهم) الذين ظلوا في الأراضي التي احتلتها إسرائيل والبالغ عددهم إجمالاً 160 ألفاً، خاضعين لحكم عسكري مع حظر تجول دائم ونظام صارم يتطلب أذونات وتصاريح من أجل التنقل. 

تشتمل ملفات وزارة شؤون الأقليات، التي كان يرأسها وقتها بخور شالوم شيطريت، على مئات الوثائق الرئيسية حول تلك الفترة. لكن تلك الوزارة، التي عمل موظفوها بجدٍ لتحسين أوضاع العرب الذين بقوا في البلاد على رغم القيود الشديدة التي فرضها رئيس الوزراء دافيد بن غوريون، أغلقت في منتصف عام 1949. توجد أيضاً وثائق أخرى ذات أهمية كبيرة في أرشيفات دولة إسرائيل وأرشيف الجيش ومؤسسة الدفاع الإسرائيلية، لكنها وثائق سرية.

نلاحظ أيضاً محاولات معاصرة لإخفاء وتنقيح ملاحظات وتصريحات من شأنها إزعاج اليهود في وثائق وملفات أخرى من هذه الفترة، والتي تم رفع السرية عنها على مدار السنين. علماً أن هذه المحاولات حديثة، ولا تتعلق بالمسائل الأمنية: وهو ما يعني أن الرقابة مفروضة لأغراض دعائية وحسب.

مصطلح يصعب استيعابه

تمكن ملاحظة أحد الأمثلة الصارخة على محاولة إخفاء العبارات العدوانية في أحد سجلات اجتماعات اللجنة الوزارية لشؤون الأملاك المتروكة في شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام 1948. يتناول الاجتماع القرار الخاص بتجميع سكان مدينة اللد العرب في أحياء محددة، وذلك لإفساح المجال للمهاجرين اليهود في المدينة.

في هذا السياق، قال غاد ماخنيس، المدير العام لوزارة شؤون الأقليات آنذاك، إنه “يعتقد أنه لم يعد هناك مبرر لاحتجاز العرب في معسكرات اعتقال تحوطها أسلاك شائكة”. لكن هذا التعليق تم تنقيحه منذ فترة وجيزة فقط في الملف الذي يحتوي على سجلات لقاءات اللجنة بواسطة هيئة أرشيفات الدولة. والغرض من ذلك جلي: لا يحق للمواطنين الإسرائيليين معرفة ماضيهم. 

بعد فحص الوثائق المتعلقة بمصير سكان جميع المناطق المحتلة وجدنا أن هناك نمطاً مشابهاً: إذ تم إنشاء غيتوات في تلك المناطق. حتى في ذلك الوقت كان من الصعب استيعاب مصطلح “غيتو”. فقد حاول العنوان الأصلي لأحد ملفات هيئة أرشيفات الدولة، والذي ورد فيه هذا المصطلح المشبوه موضوعاً بين قوسين، أن يقدم بديلاً أكثر اعتدالاً، وجاء العنوان كالآتي: “نقل العرب لمنطقة أمنية (غيتو)”. 

تكرر هذا النمط في جميع الحالات التي نُقل فيها العرب من مكانٍ إلى آخر. عندما زار بن غوريون حيفا، بعد أيام قليلة وحسب من احتلالها، أمر العرب المسيحيين الذين بقوا فيها أن يسكنوا في حي “وادي النسناس” وأن يسكن المسلمون في حي وادي الصليب. ويجب على العرب الانتقال إلى مناطق سكنهم الجديدة بحلول مطلع شهر تموز/ يوليو. 

كان يوسف فاشيتز في قلب الأحداث التي تحدث في حيفا في ذلك الوقت، فقد كان عضواً في “حزب المابام اليساري” (أو حزب العمال الموحد) ومن الشخصيات القيادية في “إدارة الشؤون العربية” التابعة للحزب (التي كانت تتناول المسائل المتعلقة بهذا الفصيل من السكان). 

بدأ فرض حظر التجول والعزل على العرب فور احتلال القوات الإسرائيلية المدن العربية أو المدن المختلطة التي يسكنها عرب ويهود، خلال حرب عام 1948 (النكبة). وأدت المعارك إلى خضوع آلاف العرب القاطنين في المدن لسيطرة اليهود.

تحدث يوسف عن الفوضى التي اندلعت في أعقاب هذا القرار: من أجل جعل جميع العرب يعيشون في حي واحد، كان يتم نقلهم إلى منازل هجرها أهلها حديثاً، من دون أي محاولة لتجهيزها من أجل سكانها الجدد، ومن دون توفير ماء أو كهرباء. واستشهد يوسف بأقوال شخصيات عربية يسارية، بالنسبة إليهم كان “هذا تصرفاً سياسياً عنصرياً، وليس عسكرياً، يهدف إلى إنشاء غيتو عربي في حيفا”.

أدان فاشيتز فرض سياج لعزل العرب، مؤكداً أن “معسكرات التجميع هذه تُعد من أهم وأخطر الأفعال التي تم الاضطلاع بها في ما يخص العرب في إسرائيل. وهذا من شأنه أن يحدد الطبيعة التي ستكون عليها إسرائيل سواء أكانت دولة ديموقراطية أو إقطاعية، تتبع عادات ترجع إلى القرون الوسطى وقوانين نورمبرغ”. فالعرب مُنِعوا من العيش حيثما أرادوا، وفي نهاية المطاف نقلوا جميعاً إلى حي وادي النسناس في حيفا.

في يافا أيضاً تقرر نقل العرب. ففي شهر تموز 1948 قال الحاكم العسكري مئير لنيادو للجنة العربية العليا في المدينة، “من الأفضل أن تكون هناك مناطق خاصة لليهود وأخرى للعرب”. بيد أن موشيه إريم الذي ترأس قسم إعادة التأهيل والعلاقات مع الأقليات في وزارة شؤون الأقليات، أعرب عن احتجاجه للوزير شطريت بشأن نقل السكان العرب المحليين إلى حي العجمي، الذي كان محاطاً من جميع الجهات بالأحياء اليهودية.

أشار إريم إلى أنه على رغم عدم وجود مشكلة تتعلق بالأمن في المدينة وما حولها، فإن “حي العجمي على وشك أن يُغلق بأسوار وحواجز من الأسلاك الشائكة التي ستفصل على نحو صارم بين الحي العربي والقسم اليهودي. ومن شأن هذا التخطيط أن يجعل حي العجمي غيتو معزولاً على الفور. ومن الصعب أن نتقبل هذه الفكرة، التي أثارت الكثير من الخوف في نفوسنا سابقاً”.

 كما هو الحال مع فاشيتز، اعتقد إريم أيضاً أن إنشاء مثل هذا الغيتو من شأنه أن يحدد مسار الأحداث في المستقبل، “ومرة أخرى نزرع بذرة سامة… في قلب العرب. غيتو مُحاط بالأسلاك الشائكة، غيتو معزول عن أي منفذ إلى البحر. فهل هذا هو نهجنا السياسي؟”.

في كتاب “ما بين الاستقلال والنكبة: الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1948” الصادر عام 2004، وهو أحد أكثر الكتب المفصلة والعميقة التي كُتبت عن النكبة، كتب المؤرخ الإسرائيلي يوآف غيلبر، أن فكرة وضع السياج حول حي يافا استبعدت، ولكن هذا غير صحيح. فقد كتب لنيادو، الحاكم العسكري آنذاك، أنه “يفكر في إمكان الحد من الأسلاك الشائكة والسماح للعرب بحرية أكبر في التنقل، حتى لا يشعروا بأنهم في معسكر اعتقال”. 

ولكن في الواقع فرض سياج حول حي العجمي لأشهر عدة. بل في الحقيقة، ذكرت تقارير خاصة بوزارة شؤون الأقليات، التي كانت على خلاف دائم مع السلطات العسكرية، في شباط/ فبراير عام 1949 أنها لا تزال تحاول الحصول على تصاريح لتمكين سكان يافا العرب من “عبور الأسلاك الشائكة”.

 يروي أحد السكان المحليين، إسماعيل أبو شحادة، قائلاً، “حاصرونا بأسوار من الأسلاك الشائكة، ولم يكن هناك سوى ثلاث بوابات. ولم يُسمِح لنا بمغادرة المنطقة إلا للعمل في أحد البساتين حول المدينة، ولأجل ذلك كنا بحاجة إلى تصريح من صاحب العمل”. كانت هناك محاولات للتخفيف من فظاعة المشكلة، بيد أن موشيه شيزيك الذي شغل منصب الحاكم العسكري قبل لنيادو، شدد في محادثات خاصة على أن إسرائيل تنتهك شروط الاستسلام المتفق عليها مع العرب، التي تضمن لهم حرية التنقل في المدينة.

في مدينة اللد أيضاً كان العرب متمركزين في حي واحد، وخضعوا لحظر التجول. في إحدى المرات، كتبت مجموعة من كبار الشخصيات العربية المرموقة من مدينة الرملة المجاورة إلى بن غوريون يشكون إليه “تعرض كبار السن والنساء والشباب والأطفال للإهانة”، وإجبارهم على الوقوف 8 ساعات “تحت أشعة الشمس الحارقة من دون ماء أو طعام، بلا مبرر ولا سبب سوى السخرية منهم والحط من قدرهم وإساءة معاملتهم”.

وعلى غرار الحالات الأخرى، في كانون الثاني/ يناير 1949، وبعد مضي نصف عام على الاحتلال، طالبت وزارة شؤون الأقليات السلطات العسكرية بتدمير السياج الشائك الذي يحيط بالمنطقة التي تعرض فيها عرب اللد للحبس والتنكيل. غير أنهم لم يتمتعوا بحرية التنقل حتى تموز، عندما انتهى الحكم العسكري في تلك المنطقة، لكن الأسلاك الشائكة ظلت على حالها.

تشير وثائق أرشيفية أخرى إلى عمليات إعادة توطين وإغلاق مماثلة للمجتمعات العربية في مدن أخرى، مثل مدينة المجدل (اشكلون) ومدينة عكا.

من جانبه، أشار الوزير شطريت إلى أنه “يعترض على إنشاء غيتوات للأقليات”. وفي رسالة وجهها إلى وزراء الحكومة في منتصف عام 1948، كتب قائلاً إن العلاقات مع العرب شابها الكثير من “العيوب والنقائص”. ودعا إلى “وضع سياسة واضحة تقوم على المساواة في الحقوق المدنية”، خشية أن يؤدي ذلك الواقع إلى الانتقام. وإلى اليوم لا تزال آراؤه تحمل القدر ذاته من الأهمية.

هذا المقال مترجم عن Haaretz.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.