fbpx

صحارى الوحشة… يوم أحكمتْ الإقفالَ على نفسها

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كل يوم، تزداد فسحة عيشها ضيقاً، تتسع صحارى وحشتها، الأفق لم يعد يكشف لها إلا عن سرابات، الأمل ثمرتها المحرمة، وحياتها ليس لها طعم إلا الانتظار…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ زمن انسحبت من الشارع مثل ثورة مهزومة، واحتمت بجدران بيتها، ربما ضجرت منها و”مستحية تقول”، كما تغني فيروز، وربما استأنست بوجودها الدائم معها، مممم لا تعرف الجواب! ما تعرفه أن بيتها بدأ يتحول شيئاً فشيئاً من مسكن إلى ملاذ، تعود إليه خائرة، خامدة، هامدة، تدير المفتاح في قفل بابه، مرة، اثنتين، ثلاثاً، وهي تكز على أسنانها وتمسح خدها بخشبه البارد، تلج منه، ثم تصفقه تلك الصفقة المدوية، تحكم إقفاله على نفسها، كأنها تقول للحياة “إبقي خارجاً”. تلجأ إلى أمانه، ولو كذباً، كمن يهرب من كارثة طبيعية، من موجة عاتية يقذفها البحر إلى الشارع، تسدل ستائره نهاراً لتتحاشى أكبر قدر من الضوء، وليلاً، تطفئ أنواره، تتجول في غرفه، حافية، صامتة وغريبة، تبدع في ممارسة وحدتها، وحشتها وحزنها كما يليق بامراة في مثل همها…

تذكر أنه حين رمتها الأقدار في ذلك النفق المرعب، كانت في البداية، تلمح ضوءا خافتا في آخره، فتقوم وتعقد الآمال والأماني على النجاة، كلما لاح لها، في كل مرة، كان يخيل إليها أن أجسادا هناك ترقص وأصواتا تناديها وأكفا تلوح لها من بعد…ولم تكتشف الخدعة، إلا بعد أن أعيتها العتمة وأنهكت عينيها وأطبقت على قلبها ويديها، وحولتها إلى نقطة تافهة تائهة وسط بحر من السواد، وسرعان ما انطفأت مثل كوكب مهجور وبعيد، وترمّدت مثل شمس تحرق نفسها كل صباح. 

لم يعد يشغلها أن تتذكر من كانت، ولا يقلقها من ستصبح بعد سنوات، فهي تعرف أنها لن تكون سوى صخرة تقف منذ الأزل وستقف إلى الأبد، على تقاطع حاد بين زمنين، ولا طاقة لديها كي تتزحزح، ولا كي تنتمي إلى أحدهما…

حياتها الآن، تنحصر في اتجاهين لا مسارب فيهما حتى لنفاذ قطرة ماء صغيرة، من البيت إلى العمل، من العمل إلى البيت، برنامج متواصل من الملل والتكرار والاسترجاع. تستقيظ في الموعد ذاته، تنام في الموعد ذاته، لا تغيير في أوقات الطعام، القراءة، الجلي، الغسيل، مجيء الناطور لأخذ أكياس القمامة، بائع المياه، جرس الباب، شحن التلفون، حتى جرس الكنيسة القريبة، وصوت الأذان ثابتان كما الموت… آه، كم باتت تكره كل أنواع المواعيد والمواقيت، كم اشتاقت نفسها للفوضى، ليد تعبث بهذا النظام كله، تبدد الترتيب، تهدئ صخب الرتابة. 

قلبها، وآه من قلبها، صار أشد سواداً من إسفلت الشارع، ذراعاها تجمدتا كرصيفيه الحجريين، وتخشبت هي على مفرقه مثل شجرة معمرة… تعرف أنها أصبحت هرمة، كل حواسها تنطق بهذه الحقيقة، وأصبحت سمينة جداً وثقيلة، وكعجوز أرستقراطية اقتنت دفترا أحمر، لتكتب على صفحاته يومياتها، وأحداث الأيام المقبلة، الآتي هو الأصعب، الماضي صار وراءها، تلتفت نحوه أحياناً وتشكر ربها أنه لم يعد موجوداً. لم يعد يشغلها أن تتذكر من كانت، ولا يقلقها من ستصبح بعد سنوات، فهي تعرف أنها لن تكون سوى صخرة تقف منذ الأزل وستقف إلى الأبد، على تقاطع حاد بين زمنين، ولا طاقة لديها كي تتزحزح، ولا كي تنتمي إلى أحدهما…

هذه الحياة مريرة، هذه الساعات حزينة، كلما مرّ وقت، تبتعد بها أكثر فأكثر، من منابع الفرح ومصادره، لم يعد لها مكان في الهواء الطلق، طلّقتها الفضاءات والنسمات وتلقفتها الزوايا، لم تعد ترى في وجهها جمالاً كي تتأمله في المرآة وتبتسم. لم تعد رشيقة لترقص على موسيقى أغنية تحبها، لم يعد قلبها أبيض لتحِب أو تُحَب، تراكمت المسافات ما بينها وبين الأنثى الآخذة في الضمور داخلها، الأنثى التي ما اعترفت يوماً بالأطراف، التي كانت تمقت التلطي في الزوايا، التي لم ترض يوماً إلا بالاستحواذ على الأعماق.

هذه الأيام بلا ملامح، بلا ذاكرة، بلا قلب، سقى الله أيام كانت تقرأ قصص الخيال العلمي، وتهتم بأخبار حرب النجوم وسباق التسلح، وتتابع مسلسلات ربات البيوت اليائسات، أيام كانت تتعامل مع تفاصيل الكوكب كلها، كما لو أنها خصوصياتها، لم تنس ولن تنسى، يوم بكت لانهيار المنظومة الاشتراكية، وطارت إلى برلين لتكون شاهدة على سقوط جدارها. وقصدت روما ذات ربيع، لتبوح بأمنيتها لقطعة نقدية إيطالية، قبل أن تقبلها وترميها في “فونتانا دي تريفي”، ووقفت في وجه الشمس الغاربة في وادي رم وقالت لها: “أنا أكثر توهجاً منك”، واستقلت القطار المسافر من جنيف إلى لوزان عشية عيد الميلاد، لتتجول على الرصيف البحري مستمتعة بوحدتها اللذيذة ورائحة الشوكولا، ويوم ويوم ويوم… يوم كانت تحب وتشتاق وتشتاق وتبكي وتبكي وتغني “أمل حياتي”، يوم كانت حياتها ملأى بالأمل والحب والأشواق، يوم أهدتها حباً جميلاً ودافئاً.

هذه الأيام بلا أمان، مثل شارع معتم، مثل مدينة بلا حراس، هي فقدت أمانها مذ فقدت شعورها بالفرق بين الأمل واليأس، بين المر والحلو، بين النوم والسهر، بين الحلم واليقظة، بين الدفء والبرد، بين ألوان الشجرة في الربيع وألوانها في الخريف، بين بكاء رضيع من الجوع وصراخ قلبها، بين الألم والشفاء، بين الشهوة والحب، بين ما تريده روحها ويرغب فيه جسدها!

هذه الليلة ستنام حزينة، أيضاً، عينها التي ترى وعينها الأخرى التي تروي، ستخصصان ساعة للبكاء هذه الليلة، الدمع مثل الماء، كفيل باليباس، ستحاول أن ترتوي منه، أن تنعش حزنها، وستحاول أيضاً، أن تستيقظ صباح الغد خصبة، خضراء وسخية، مثل زيتونة عتيقة، وستقلم أغصان الخيبة الزائدة التي نبتت ليلاً، وتقطف ثمراتها التي نضجت، ستكبسها في مرطبان وتضعه على الرف، ربما ستحتاج إلى محتواه مستقبلاً، ربما ستقدمه هدية لإحدى صديقاتها، ربما سيفلت من يدها وهي تمسح عنه الغبار وينكسر، لا يهم، سيكون عندها الكثير منه، الليالي الحزينة كثيرة وطويلة ولا تنتهي، والدمع صديقها الذي يقيم معها، وهو حاضر للعطاء دوماً، لولاه لما تمكنت يوماً، من أن تتغلب على وجع الشوق، أن تغالب الحرمان. 

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!