fbpx

أزمة الليرة اللبنانيّة: عقوبات في سوريا وبهلوانيّات في بيروت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

رهان الحكومة الأخير سيكون بلا شك قرض صندوق النقد الدولي، لكن حتى هذا المسار المؤلم بنتائجه الاجتماعيّة ما زال يراوح مكانه، في ظل عراقيل كثيرة توحي بأن مسار هذه المفاوضات سيكون طويل وشاق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صباح التاسع من حزيران/ يونيو، أصدرت نقابة الصرّافين في لبنان بيانها الذي بات روتيناً يوميّاً منذ إنهائها الإضراب المفتوح، محددةً الحد الأقصى لسعر الصرف المتعمد من قبل الصرّافين عند حدود الـ3890 ليرة لبنانيّة، مقابل الدولار بالنسبة إلى عمليات الشراء، و3940 ليرة لبنانيّة مقابل الدولار بالنسبة إلى عمليّات المبيع. كان هذا البيان مجرّد جزء من التفاهم الذي حصل بين نقابة الصرّافين ورئيس الحكومة، والذي قضى بتخفيض سعر الصرف بطريقة وصفت بالـ”ميكانيكيّة”، أي من خلال تخفيض تدريجي مفتعل تنص عليه بيانات يوميّة من النقابة. عمليّاً، كان هذا التفاهم جزءاً من خطّة أوسع لضبط سعر الصرف، وهي خطّة غريبة ناقضت في معظم تفاصيلها بدهيّات قوانين العرض والطلب وآليّات عمل أسواق الصرف. ولذلك، ذهبت الخطّة بأسرها أدراج الرياح مع انفلات سعر الصرف كليّاً وخروجه عن السيطرة، فيما أصبح سعر الصرف المحدد في بيان النقابة مجرّد رقم يُضاف إلى أرقام كثيرة لا تعبّر عن سعر الصرف الفعلي في السوق.

باختصار، بدأ سقوط الخطّة، بامتناع شركات الصيرفة كلّياً عن بيع الدولار وفق الأسعار التي حددتها النقابة، معللةً الأمر بعدم تمكّنها من شراء أي دولارات وفق السعر المنخفض الذي حددته النقابة في بياناتها. في هذه الأثناء، كانت التداولات تذهب تلقائيّاً إلى السوق السوداء، من خلال الصيارفة غير الشرعيين أو شركات الصيرفة التي كانت تتعامل في الخفاء وفق سعر الصرف الفعلي. وأخيراً، خرجت الأمور عن السيطرة كليّاً مع بدء سعر الصرف بتسجيل معدّلات قياسيّة، بلغت حدود الـ4500 ليرة مقابل الدولار في بعض ساعات النهار. 

سقطت خطّة السيطرة على سعر صرف الدولار، والمعالجات التي تم الاتجاه إليها لم تتعدَّ كونها بهلوانيّات مرتجلة وغير واقعيّة. وفي سوريا، كانت الليرة والاقتصاد يدخلان مرحلة السقوط الحر مع دخول قانون قيصر حيّز التنفيذ، وهو ما شكّل عاملاً حاسماً ضاغطاً على سعر صرف الليرة اللبنانيّة باتجاه التراجع السريع. بين تخبّط الأداء النقدي والمالي في بيروت، والضغوط الآتية من الجانب الآخر من الحدود، لا يبدو أن أزمة التراجع المستمر في سعر صرف الليرة في طريقها إلى المعالجة قريباً. 

عوامل الفشل في الخطة اللبنانيّة

كما ذكرنا، كان الاتفاق مع الصرّافين على تخفيض سعر الصرف بشكل تدريجي جزءاً من تصوّر لدى كل من الحكومة ومصرف لبنان على كيفيّة التعامل مع أزمة سعر الصرف. فالخطّة راهنت أساساً على أن يقوم مصرف لبنان بتزويد مستوردي السلع الأساسيّة بالدولارات المطلوبة للاستيراد، من خلال منصّته المستحدثة للتداول بالعملات الأجنبيّة، وهو ما كان يُفترض أن يعالج جزءاً من الطلب على الدولار في الأسواق. كما راهنت الخطّة على التفاهم مع الصيارفة على حصر بيع الدولارات بالشركات المستوردة، بهدف حصر الطلب على الدولار الأميركي لدى شركات الصيرفة بأضيق نطاق ممكن. 

لكن الخطّة حملت في طيّاتها بوادر الفشل منذ البداية من نواحي عدة. فمصرف لبنان ما زال يعاني من الارتباك في طريقة إطلاق منصّته، وخصوصاً من جهة طريقة بيعها الدولار للمستوردين. فبيع الدولارات للمستوردين من خلال سعر صرف مدعوم سيفتح على المنصّة أوّلاً باب التلاعب بهدف الحصول على الدولارات بالسعر المدعوم وتحويلها إلى الخارج. كما سيفتح هذا الأمر باب الكسب غير المشروع من خلال استيراد السلع بالدولار المدعوم وتهريبها وبيعها بالدولار النقدي في السوق السوريّة، على النحو الذي يحصل اليوم مع السلع المدعومة حاليّاً كالمحروقات والطحين.

بدأ سقوط الخطّة، بامتناع شركات الصيرفة كلّياً عن بيع الدولار وفق الأسعار التي حددتها النقابة،

ومن ناحية أخرى، كانت ثمّة ثغرة واضحة في ما يتعلّق بالرهان على حصر التداولات لدى الصرافين بالشركات المستوردة. فهذه المسألة كانت ستعني ببساطة أن هناك جزءاً كبيراً من الطلب على الدولار الذي لن يُلبّى من خلال آليّة عمل شركات الصيرفة المتفق عليها مع الحكومة، وهو ما سيحتّم نشوء سوق صيرفة موازية سوداء بسعر صرف أعلى. وعند نشوء هذه السوق، ستكون النتيجة اتجاه الزبائن الذين يريدون بيع الدولار إلى هذه السوق تحديداً، وهو ما سيعني انحسار سوق التداولات الشرعيّة إلى حد توقّف التداولات بها، واتجاه المداولات إلى السوق السوداء.

في الواقع، هذا تحديداً ما حصل لاحقاً، مع توقّف محلات الصيرفة عن التداول وفق الأسعار التي تدرّجت في انخفاضها بحسب بيانات النقابة، فيما انتقلت التداولات إلى السوق السوداء وفق سعر فعلي أخذ بالارتفاع تدريجيّاً. وعمليّاً، سهّل من هذا الأمر نشوء عدد كبير من وسائط التواصل بين المتداولين، سواء على شبكات من الأفراد التي يتعاطون عمليّات القطع دون إتخاذ مراكز عمل ثابتة، أو حتّى من خلال مجموعات مفتوحة على وسائل التواصل الاجتماعي تتخصّص في ربط العرض بالطلب.

تداعيات الانهيار السوري

مع دخول قانون قيصر حيّز التنفيذ، دخلت الليرة السوريّة مرحلة من الانهيار غير المسبوق، إذ تراجع سعر صرفها من حدود الـ2000  ليرة سوريّة، مقابل الدولار أخيراً، إلى مستويات تجاوزت الـ3200 ليرة، ليعود سعر الصرف عند حدود الـ2750 ليرة. عمليّاً، تظافرت عوامل لتؤدّي إلى هذا الانهيار النقدي الكبير، من بينها قلق شرائح واسعة من التجّار السوريين من تداعيات قانون قيصر المقبلة، وسعيهم إلى تخزين العملة الصعبة لهذا السبب، إضافة إلى المخاوف التي أثارها النزاع الدائر حاليّاً بين النظام وابن خال الرئيس السوري رجل الأعمال رامي مخلوف من جهة إمكان استهداف النظام السوري مصالح رجال الأعمال البارزين في ظل تعرّض البلاد لأزمات ماليّة خانقة.

هذه التطوّرات سرعان ما وجدت طريقها للتأثير في الوضع النقدي اللبناني، وخصوصاً مع ترابط سوق القطع السوداء بين البلدين. فالنظام السوري ثابر خلال السنوات الماضية على شن حملات واسعة ضد تجّار العملة والمتداولين السوق السوداء السوريّة، في محاولة أمنيّة الطابع لضبط سعر الصرف، كما عمل على محاولة ضبط التحويلات الماليّة الواردة إلى البلاد بهدف مصادرة الدولارات الناتجة عنها، في مقابل سداد قيمتها بالليرة السوريّة ووفق أسعار صرف تقل عن سعر الصرف الواقعي. ولهذه الأسباب، كان من الطبيعي أن تتحوّل خلال الفترة الماضية سوق القطع اللبنانيّة، وخصوصاً في مناطق البقاع، إلى ملاذ للسوريين الراغبين بالتداول بالعملة الصعبة، في ظل هامش الحريّة الاقتصاديّة الأوسع نسبيّاً الذي تتمتّع به البلاد.

في ظل هذا الترابط بين سوقي القطع في البلدين، بدأ الانهيار النقدي الحاصل في سوريا يتحوّل إلى ضغط نقدي موازٍ في السوق اللبنانيّة، أخذ شكل تزايد كبير في الطلب على الدولار الأميركي وخصوصاً في منطقة البقاع. وعمليّاً، ساهمت هذه التطورات في مضاعفة سرعة ارتفاع سعر الصرف الدولار في السوق اللبنانيّة، خصوصاً أن عمليّات شراء الدولار مقابل الليرة السوريّة في السوق اللبناني كانت تساهم في تقليص المعروض من الدولار الأميركي في السوق اللبناني. ببساطة، كانت الأزمات النقديّة على جانبي الحدود تتلاقى هذه المرّة لتنتج المزيد من عوامل التأزّم على المستوى الإقتصادي.

مستقبل الأزمة

أصدر مصرف لبنان تعميماً دعا فيه الصرافين إلى التقدّم من مصرف لبنان بطلبات لشراء الدولار الأميركي، وفقاً للسعر الذي حددته النقابة للتداولات، كما طلب التعميم من الصرافين تزويدهم بأسماء عملائهم المستفيدين من عمليات القطع هذه. كان من الواضح بحسب البيان أن مصرف لبنان يمضي قدماً في محاولة “ترقيع” الخطّة السابقة، وسد الثغرات التي أدّت إلى تعثّرها، عبر تأمين العرض المطلوب من الدولار لتمكين الصرافين من بيع الدولار وفق السعر الذي تحدده النقابة. لكنّ هذا التعميم حمل بدوره إشكاليّات جديدة، وتحديداً من جهة طريقة التأكّد من إلتزام الصرافين بتوفير هذه الدولارات المخفّضة السعر للعملاء وفق معايير عادلة، مع العلم أن التلاعب والغش بهدف حصر هذه الدولارات بجزء صغير من المستفيدين سيفتح أبواب الكسب غير المشروع نتيجة الفارق بين سعر الصرف الفعلي وسعر صرف النقابة الذي يشير إليه التعميم. 

الإشكاليّة الثانية ستكون بطبيعة الحال استمرار التفاوت بين العرض والطلب، خصوصاً أن هذه العمليات ستسمح بتلبية جزء محدد من الطلب على الدولار، فيما سيستمر الجزء الآخر منه بالإتجاه نحو السوق السوداء ليبقي سعر صرف الفعلي عند مستويات بعيدة من تلك التي تحددها النقابة. وبذلك، سيكون لدينا سعر مصطنع جديد، إسمه “سعر الصرف المحدد من نقابة الصرافين”، سيضاف إلى لائحة أسعار الصرف المتعددة والتي تفتح دوماً شهيّة المتلاعبين والمستفيدين من فروقات أسعار الصرف. 

أما من ناحية التداعيات الناتجة عن الأزمة السورية، فلا يبدو أنّ هناك اتجاهاً أو تصوّراً لدى المعنيين لكيفيّة مقاربة الملف بأسره، مع العلم أن ثمّة مخاطر مقبلة على خلفيّة هذه الأزمة ستهدد احتياطات المصرف المركزي من العملة الصعبة بشكل جدّي، وتكمن تحديداً في إمكان توسّع التهريب الذي يستنزف الدولارات التي يخصصها مصرف لبنان لدعم السلع الحيويّة. 

في النتيجة، لا يبدو أنّ هناك تصوّراً واقعياً لدى الحكومة أو مصرف لبنان لكيفيّة التعامل مع هذا الملف، طالما أن شح الدولار مستمر في الأسواق، وطالما أن العوامل الضاغطة مستمرّة بالتأثير في سعر الصرف بالطريقة نفسها. رهان الحكومة الأخير سيكون بلا شك قرض صندوق النقد الدولي، لكن حتى هذا المسار المؤلم بنتائجه الاجتماعيّة ما زال يراوح مكانه، في ظل عراقيل كثيرة توحي بأن مسار هذه المفاوضات سيكون طويل وشاق. وحتّى تغيّر شيء ما في هذا المشهد، لا يمكن توقّع أي شيء باستثناء المزيد من المعاناة الناتجة عن تدهور سعر الصرف.