fbpx

ما بعد “كورونا”: السياسات النسوية تُنقذ الأرواح وتدعم الحقوق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إحالة جميع الأمور المتعلقة بالمرأة وما يُطلق عليه “الأسر”، إلى المؤسسات الدينية والقوانين الدينية يُعود بالضرر على النساء والأطفال. بل ثبت أن قوانين الأسرة تُشكل خطراً على المرأة وعلى غير المتقيدين بالتنميطات الجنسانية…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هذا الموضوع تم اعداده بالتعاون مع Pulitzer Center

تُعد جائحة “كوفيد-19” من دون شك موجة صادمة عالمية ضربت البشرية جمعاء في آن واحد، كاشفةً عن أوجه انعدام المساواة الصارخة التي تسعى الحركات النسوية في شتى أنحاء العالم إلى كشفها وتكافح لنشر المعرفة بشأنها منذ عقود. إننا ندرك جميعاً الآن أن الأثر الفوري والمتوقع على المدى الطويل لهذه الجائحة، متفاوت وموزع بطريقة غير متناسبة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أوجه عدم المساواة الصارخة التي عجزت حكومات كثيرة وصناع السياسات عن ملاحظتها أو إدراك حجمها ومدى استفحالها والحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراء للتغيير الجذري والتي تفرض نفسها منذ عقود، هذا التغيير الذي كان- ببساطة- سينقذ الكثير من الأرواح. 

إن أوجه الشبه بين ما حدث وما زال يحدث خلال هذه الجائحة، وبين الخطاب النسوي على مدى العقود الماضية ليست من قبيل المصادفة؛ فلطالما عارضت النسويات الفجوة المصطنعة بين الصعيد  الخاص (الأسرة بشكل أساسي) والصعيد العام (كل ما هو خارج الأسرة)، وعملن على القضاء عليه. وخلال سعيهن للقضاء على الحدود الفاصلة بين الصعيدين العام والخاص، جادلت النسويات وأثبتن مراراً وتكراراً أن تلك الحدود جعلت المرأة دوماً في موضع التابع، وجردتها من الشعور بالقوة وقللت من فرصها في الحياة وتركتها عرضة لكل أشكال العنف والظلم  من دون أن تجد سبيلاً قانونياً أو مجتمعياً للانتصاف، لأن القوانين الشائعة وطرائق التفكير هي- ببساطة- ذكورية. ومن ثَم، عارضت النسويات خرافة الأسرة المتناغمة التي يسودها الحب والأمان، وأوضحن أن العلاقات الجنسانية داخل الأسرة هي في الواقع علاقات سلطوية غير متكافئة تحكمها تقاليد ذكورية قننتها ورسختها القوانين وأعادت المؤسسات الاجتماعية إنتاجها.

ظهر الإرث الذكوري في أوجه خلال جائحة “كوفيد-19″، إذ زادت أعباء المرأة وضعفها على نحو هائل، في ظل نظام فاشل وعاجز عن حمايتها وضمان حقوقها واستحقاقاتها حتى قبل هذه الأزمة (بل وغير راغب في ذلك). خضع تصاعد العنف الأسري على مستوى العالم بشكل أدى إلى مقتل نساء وفتيات للكشف والدراسة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وخارجها، حيث عجز نظام العدالة وجهات إنفاذ القانون عن الاستجابة لما أطلق عليه الأمين العام للأمم المتحدة “الوباء الصامت”.

كشفت النسويات أيضاً عما يُعرف باسم التقسيم الجنساني للأعمال الذي يُعد من ركائز المنظومة الذكورية التي تلزم النساء والفتيات بالقيام بمعظم أعمال الرعاية والتكاثر الاجتماعي غير المرئية والتي لا تلقى تقديراً كافياً على حساب طموحاتهن الأخرى في الحياة. لقد فرضت هذه الجائحة على النساء أن يلزمن بيوتهن، غالباً في ظل علاقات مؤذية، فاضطررن إلى تحمل أعباء الرعاية والأعمال التي يفترض أن تكون مدفوعة الأجر أيضاً إن أمكن.

لطالما كشفت النسويات عن أوجه انعدام المساواة في أي نظام اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي يرعى المصالح والمزايا المادية للصفوة وأصحاب الامتيازات على حساب غيرهم من الأشخاص ولا يعتبر أن البشر متساوون ولهم حقوق متساوية. في الواقع، يُعد المهاجرون والنازحون والأحرار جنسياً والعابرون جنسياً والمشتغلون في الجنس وأصحاب الإعاقات الأكثر تضرراً من هذه الجائحة، إذ فاقمت الأزمة من إقصائهم والوصمة التي تلاحقهم، وتجارب التمييز التي يتعرضون لها إلى جانب صعوبة الوصول إلى أي نوع من الخدمات أو أنظمة الدعم.

ومن جهة أخرى، استجابت الأنظمة والحكومات الفاشلة والتمييزية والاستبدادية وعديمة الكفاءة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا لهذه الجائحة بطريقة عسكرية تتسم بالقمع والتحكم بحرية الأفراد وتحركاتهم وكبت حرية التعبير، بل امتنعت أيضاً عن تقديم أي شكل من أشكال الحماية أو الدعم الاجتماعي حتى للأفراد للأكثر تضرراً من الأزمة.

في الفيلم الوثائقي القصير الذي أنتجه “درج”، تقول المخرجة اللبنانية كارول منصور: “إن أخشى ما أخشاه بشأن ما يمكن أن يحدث بعد أن تنحسر جائحة كوفيد-19 هو أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل الجائحة، من دون أن نتعلم شيئاً”. تشير هذه الكلمات إلى العودة إلى النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المريع الذي يقنن الأشكال المختلفة من انعدام المساواة ويرسخها ويرعاها، ولا يلقي بالاً لأصوات النساء وحياتهن وكذلك العابرين جنسياً والمهاجرين والنازحين والمشتغلين بالجنس وأصحاب الإعاقات والطبقة العاملة التي تعاني الفقر. هذا النظام تواصل فيه قلة قليلة التربح من العمل غير المكلف والمجاني لكثيرين، وقطعاً من عمل النساء غير مدفوع الأجر ومن أجسادهن.

إن الزعم بأن لا خيارات أخرى هو ببساطة كذبة أو حالة من امتزاج اللامبالاة مع عدم المسؤولية. تحاول جمعية حقوق المرأة في التنمية (AWID) تبسيط فهم ما تسميه “خطة الإنقاذ النسائية”. تُشير “خطة الإنقاذ النسائية” إلى ما نحتاجه من مقومات لإصلاح العالم في أعقاب هذه الجائحة. وهذا لا يتطلب إيجاد موارد جديدة، بل ببساطة إعادة توجيه العقليات والقوالب الفكرية الحالية والموارد المتاحة إلى الأولويّات، وعلى وجه التحديد، سلامة جميع البشر، والكائنات الحية، وكوكب الأرض. وهذا بالتأكيد تحول كبير سيقتضي منح الأولوية للناس جميعاً، سواء في السياسة العامة وغيرها وفي ما يتعلق بتخصيص الموارد.

تتلخص نقطة البداية لخطة الإنقاذ النسائية في تقبل عمل المرأة في مجال الرعاية وتقديره، باعتباره أساساً لاقتصاد ما بعد جائحة “كورونا”، من خلال إعادة توزيع هذا العبء داخل الأسر المعيشية وأيضاً من خلال سياسات الدولة. لطالما عُوقبت المرأة على دورها في التكاثر الاجتماعي، ومن المفارقات أنه دور أساسي لا غنى عنه من أجل إنتاج وإعادة إنتاج ورعاية الأيدي العاملة ورأس المال البشري. إن الاقتصاد القائم على تقدير العمل في مجال الرعاية هو ذلك الاقتصاد الذي يتقاسم أعباء التكاثر الاجتماعي وجوانب العمل في مجال الرعاية بما في ذلك رعاية الأبناء، بل ويستثمر فيها، وهو اقتصاد يُدرك أهمية العمل في مجال الرعاية على الصعيدين الخاص والعام ويعتبره عملاً يستحق التعويض والحماية والمنافع والحقوق المناسبة. بيد أن ما فعله العالم حتى الآن بكل خزي هو إلقاء عبء عمل الرعاية في الأسرة المعيشية على النساء الأقل حظاً والفقيرات واللاتي كثيراً ما يتعرضن للعنصرية، والمُتوقع منهن القيام بهذا العمل في ظل ظروف لا تزال مروعة وغير إنسانية. على الصعيد العام، سيدرك اقتصاد ما بعد الجائحة قيمة جميع أشكال الوظائف المتعلقة بالرعاية وأهميتها الحاسمة، وسيوفر لها الحقوق والتعويضات والحماية الواجبة.

إن اقتصاد ما بعد الجائحة الذي يستند إلى تقبل عمل المرأة في مجال الرعاية ورعايته، هو أيضاً اقتصاد يتجاوز حدود الثنائية الجنسية/ الجندرية. مثل هذا الاقتصاد سيشمل الأحرار جنسياً والعابرين جنسياً وغير المنتمين للثنائية الجنسية/ الجندرية والمشتغلين في الجنس. وستكفل السياسات في ظل هذا الاقتصاد حرية الإرادة والحرية الجسدية وإمكان الوصول إلى جميع أشكال الصحة الجنسية والإنجابية بصورة مجانية وآمنة وعلى درجة عالية من الجودة، وكذلك التمتع بالحقوق كافة، بما في ذلك ضمان الحصول على عمليات إجهاض مأمونة.

سيعتمد اقتصاد ما بعد الجائحة على الإقرار بأن كل نفس لها قيمة واحدة متساوية مع غيرها من النفوس، وأن جميع الناس يتمتعون بحق متساوٍ في الحصول على الرعاية الصحية المجانية وكذلك التعليم. وسيُقر أيضاً بجميع أشكال العمل والحقوق المشروعة لجميع العمال في الحصول على الخدمات الصحية والاجتماعية والحماية وفي حرية التنظيم.

بالنسبة إلى الأنظمة الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تتسم بالعجز وانعدام الكفاءة، فإن السياسات والتغييرات المطلوبة تتجاوز أي شكل من أشكال الإصلاح الناعم أو إعادة اتخاذ الإجراءات مجدّداً من دون جدوى والتي كانت في الأساس سبباً لتفشي الفقر واليأس والهجرة والاستغلال والقمع، التي تعاني منها معظم شعوب المنطقة، وبخاصة النساء والمهاجرون وغير المتقيدين بالتنميطات الجنسانية.

وسط هذا الدمار كله الذي أحدثته هذه الجائحة، أوجدت على رغم ذلك بصيصاً أمل وأتاحت فرصاً جديدةً. فمن ناحية، كشفت عن الأساليب الوحشية التي تُدمر من خلالها الأنظمة الفاشلة الأرواح في الواقع وتلحق أضراراً لا يمكن إصلاحها في الدول بأسرها. فقد كشفت الجائحة عن التكاليف التي يتكبدها البشر نتيجةً للفساد والافتقار إلى الاستثمار الواعي في السياسات التي من شأنها ضمان رفاهية الناس وسلامتهم. بل الأدهى من ذلك، حقيقة أن سياساتنا الاجتماعية ومخططاتنا للحماية الاجتماعية إما أنها عقيمة أو غير مستثمرة أو تُدار على نحو سيئ، تشكل في الواقع أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل من تعافي قطاعات كبيرة من السكان شبه مستحيل. ولقد تبين أن إحالة جميع الأمور المتعلقة بالمرأة وما يُطلق عليه “الأسر”، إلى المؤسسات الدينية والقوانين الدينية يُعود بالضرر على النساء والأطفال. بل في الواقع، ثبت أن قوانين الأسرة تُشكل خطراً على المرأة وعلى غير المتقيدين بالتنميطات الجنسانية، فمن خلال تعزيز نموذج محدد قائم على معيارية المغايرة والتسلسل الهرمي للأسرة، خلقت تلك القوانين أسراً  تُشجع على العنف والقمع، اللذين تفاقما على نحو متزايد خلال فترة الحظر.

لعل أهم فرصة ساهمت تلك الجائحة في تعزيزها هي حقيقة أنها تفشت في الكثير من بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في ظل أجواء من الثورات الغاضبة، ثورات تعالت فيها بقوة ووضوح أصوات النساء والأحرار جنسياً والأشخاص العابرين جنسياً والمهاجرين والأشخاص من ذوي الإعاقات. فقد أكدت تلك الجائحة ببساطة صحة المطالب التي نادت بها الثورات في المنطقة، لا سيما حقوق الإنسان، والرعاية الصحية الشاملة، والتعويضات المناسبة لجميع أشكال وأنواع العمل، والمساواة في القانون وفي تطبيقه، وعلى رأس هذه المطالب جميعها، وضع حد لفساد الدولة وقمعها وإفلاتها من العقاب.

لم يعد بيت السيد صالحاً للعيش، بل يجب هدمه بأدوات نسوية واستبداله بحلول نسوية، وسياسات نسائية، ومجتمعات نسوية تقوم على مبادئ حقوق الإنسان والمساواة.