fbpx

الدرويشية كنظام شعري … و”خطيئة” سليم بركات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما يروى عن لسان “الشاعر الرمز”، يصبح “إفشاء سر” ويرقى إلى “الخطيئة”، و “الخيانة”، والأولى إذ تحيل درويش إلى “الإله”، فالثانية تحيله إلى “البطل القومي”، والبطولة والألوهة، يغذيان بعضهما بعضاً

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

محمود درويش أوسع من شعريته، من خارج شروطها، تأسست له، صورة جعلت من الشعرية، أداة لصوغ ذائقة تتلقى القصيدة بواحدية لا يشوبها أي تعدد، ما يحول القارئ إلى متلقٍ، يصغي إلى ما اعتاده واستقر عليه، ويحوّل القراء في مجموعهم، إلى جمهور، إذ استمع إلى الشاعر الأوحد، صرخ إعجاباً، وكأنه يهتف شعارات صيغت من قبل جهاز دعاية أيديولوجية. 

توحيد الإعجاب الشعري وتعميمه جماهيرياً، يستند إلى القضية الفلسطينية التي اعتمدها درويش موضوعاً له، قبل أن تتدرج الجماليات والتقنيات الأسلوبية في نصه، مخففة، وأحياناً ماحية، ما تجذر من نضالية وتعبئة. فما صيغ من وعي عربي متحور حول القضية، في السياسة والثقافة، تبدى حاملاً لعلاقة الشاعر مع محبيه، الذين كانوا أوفياء لصورته أكثر من وفائهم لشعره، وهو ما يظهر بوضوح، بعدم قبول الجمهور تحولات القصيدة الدرويشية البعيدة من مباشرية القضية، والالتصاق بما ألفه هذا الجمهور من نصوص غنائية تعيد إنتاج الشعارات في قوالب شعرية.  فالشاعر بقي مستلباً من بداياته، لا يستطيع تغيير صورة ضاق بها، شعرياً واستفاد منها جماهيرياً. هكذا، تمت صناعة الدرويشية بالضد من درويش نفسه الذي انحاز إلى الإنساني والبسيط والعادي، من دون التنازل عن غنائية تدرجت بمستواها من العلو إلى الخفوت.

ودرويش في بلوغه صورته كشاعر أوحد، ثابت عند قصائده الأولى، مهما طوّر من شعريته، ليس سوى معادل لـ”أبطال” تصدروا حقب أوهام البطولة والخلاص واستعادة الأمجاد الغابرة. وكأنه امتداد لجمال عبد العناصر ومعمر القذافي وصدام حسين وحافظ الأسد، حيث الحقب الأولى لهؤلاء، مؤسسة على الحامل ذاته الذي صعد عليه درويش ولم يفلح في مغادرته، بالمعنى الجماهيري العريض. “القائد” يوازي “الشاعر” وبينهما الكثير من الواحديات “المفكر” و”الرسام” و”الرياضي”، كلها نماذج مطلقة، ضمن مناخ نابذ للتعدد، مصاغ ليدور حول جوهر واحد، ويبدّل في الصور والوجوه، بتكرر مضجر، دون معنى أو أفكار.

ربما، نحتاج إلى إفشاء المزيد من “الأسرار” عن حياة محمود درويش لتحريره من صورته، والاكتفاء بشعره. 

والأحادية، إذ تصدّر نماذج هنا وهناك، تلغي السياسة والكتابة والشعر والرسم، فنغدو حيال عدد من الأفراد “الخارقين” الذين يبتلعون الحياة برمتها. الدرويشية بهذا المعنى ابتلعت الشعر، وصهرت أذواق الناس في ذوق واحد، وجعلته تقليداً قومياً، على غرار الظواهر الأخرى في بلادنا حيث أنظمة الانقلابات المعرفية، الرافعة دعوة فلسطين، تحدد المعايير وتفرضها. 

وترابط الدرويشية مع حاملها القومي، رتباً صنمية، جعلت من الشاعر وثناً وإلهاً، تحوطه هالات تحميه من التلوث بالبشر، فالأمسيات غدت ظهورات، والكتابات النقدية أشبه بالكلام الديني عن الأنبياء والقديسين، والمواقف أقوال حاسمة يتم رفعها إلى مقام الحكم. 

هكذا صارت الدرويشية، نظاماً شعرياً معرفياً له امتدادات في النقد والصحافة والإعلام وله جمهور عريض، يعتمد القصائد الدرويشية معياراً لما هو شعر أو لا. والحال، فإن الشخصي ضمن هذه النظام المؤسِس لمحمود درويش، يصبح مضبوطاً على إيقاع الصورة نفسها، يفيدها ولا يعكر نقاءها، وإن صدف أن تم طرحه بالضد من ذلك، كما فعل الشاعر سليم بركات قبل أيام، كاشفاً أن درويش قال له قبل ثلاثين عاماً: “لي طفلة، (من امراة متزوجة) أنا أب، لكن لا شيء فيّ يشدني إلى الأبوة”، فإن ذلك يرتب تصديعاً للنظام الصنمي وهتكاً لأساساته. فالإنساني الذي يحتمل الحدود القصوى من الشرور والأخطاء، مستوعب شعرياً، ولا يجوز إخراجه من القصائد، وتعريض صاحبه المؤسس كصورة ونموذج ووثن، إلى ما هو بشري وعارض وموقت. 

وما يروى عن لسان “الشاعر الرمز”، يصبح “إفشاء سر” ويرقى  إلى “الخطيئة”، و “الخيانة”، والأولى إذ تحيل درويش إلى “الإله”، فالثانية تحيله إلى “البطل القومي”، والبطولة والألوهة، يغذيان بعضهما بعضاً، ليكون درويش نفسه بكل ما كتب من شعر ضحيتهما الأساسية. ذاك أن الشاعر سُجن ولا يزال داخل صورته التي تشعبت وتطورت إلى نظام متكامل، سعى في البداية للاستفادة منها، لكنها سرعان ما ابتلعته، فالقضايا بترسانتها الأيديولوجية أقوى من الأفراد مهما امتلك هؤلاء من قدرات إبداعية.

ربما، نحتاج إلى إفشاء المزيد من “الأسرار” عن حياة محمود درويش لتحريره من صورته، والاكتفاء بشعره.