fbpx

“سأموت قبل أن يصل دوري” : طوابير الانتظار السوريّة…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

كيف يتطور شعب ما أو يفكر بالخروج من قوقعته وهو يمضي نصف يومه داخل طابور، والنصف الآخر يفكر ويسأل عن موعد تسليم مستحقاته أو يرتاح فيه من تعب الانتظار الطويل؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

إن كان هناك مَنْ لن يسامحه السوريون فهو حتماً الانتظار. الانتظار في الحالة السورية يمتدُّ من ساعة حتى ساعات، انتظارُ الكهرباء، انتظارُ وقود الشتاء، أسطوانة الغاز، ربطة الخبز، كيلو السكر، كيلو الأرز، كرتونة المعونة، لدى السوريين الكثير لينتظروه يوماً بعد آخر، حتى نَمَتْ علاقة معقدة بينهم وبين الانتظار، تفرّعت وراحت تأخذ شكلاً واضحاً، مرئياً من مسافة بعيدة وله صوتٌ عالٍ. يسميه البعض طابوراً وآخرون يقولون إنه ثقافة القطيع التي نجبر على دخولها، حيث يقولب التفكير والرغبات شيئاً فشيئاً ويغدو الطابور نوعاً من أنواع الثقافة اليومية، التي تُنسي الناس حياتهم الحقيقية وينغمسون في البحث عن أبسط حقوقهم المعيشية. 

هكذا تُدجَن الشعوب وتقتل الكفاءات والمواهب والقدرات وسط صفّ طويل من الأحلام والمخاوف والحاجات.

كيف نشأ الطابور وأين ينتهي؟

تخاطب أمُّ أحمد سيدة خلفها: “رايحة ارتاح شوي وإرجع، لا تخلي حدا ياخد دوري”. ثم تعيد الكلام ذاته للسيدة أمامها. لا يبعد بيت أمّ أحمد كثيراً عن المعتمد حيث تنتظر أسطوانة الغاز الخاصة بها، لكن السيارة التي تحمل الأسطوانات تأخرت وقدما السيدة لا تتحملان، فقررت العودة إلى منزلها للراحة. غالباً حين تثق بإحدى السيدات خلفها أو أمامها تعطيها رقم الهاتف الأرضي وتطلب منها في حال أتت السيارة في غيابها أن ترنّ لها رنة على الهاتف، ستعلم أن سيارة الغاز جاءت وتأتي مهرولة.

الطابور هو رتلٌ يتجاوز عدده العشرة أشخاص وقد يصل إلى المئات، يشتركون في رغبة واحدة وهي أن يسير الدور سريعاً حتى يصلوا إلى مبتغاهم والذي يكون غالباً واحدة من الحاجات الأساسية، كالخبز أو الوقود، وقد يكون ورقة أو توقيع موظف في الدوائر الرسمية أو في مراكز تسجيل الطلاب في الجامعات، وقد يأخذ الطابور شكل صفّ سيارات في انتظار تعبئة الوقود، أو أمام أحد نقاط التفتيش. قد ينتهي الدور في ساعة أو خلال ساعات، إن كان المنتظرون تعيسي الحظ. تُنظِم بعض الطوابير أنفسها، فتصطف النساء في طابور منفصل عن الرجال ولكن بعضها لا يتنظم البتّة ويبدأ الناس التدافع وصاحب البنية الأقوى هو الذي يصل إلى البداية ويحصل على حصته سريعاً.

امتدَّ أحدُ طوابير انتظار الغاز مرة من الشارع الرئيسي ثم انعطف يميناً وامتدَّ مروراً من أمام منزلي إلى آخر الزقاق، استيقظتُ حينها خائفة من صوت دحرجة أسطوانات الغاز الذي كان قريباً جداً. من فتحة في الباب راقبتُ لأيام الطوابير التي تبدأ في نقطة وتكاد لا تنته. معظم المنتظرين هم من المسنين، بالطبع فأولادهم لديهم أعمال، فيتكفلون بهذه المهمة الشاقة، يتبادل آخرون أدوار الانتظار، فيذهب الأخ الكبير للغداء والقيلولة ليعود بعد ساعة ونصف الساعة وما زال الطابور ينتظر. شاركتُ المنتظرين بعض أحاديثهم وشجاراتهم وتعدي أحدهم على دور الآخر، الذي لا ينتهي على خير في الغالب، لأن المشكلة تكمن في أن عدد أسطوانات الغاز قد ينتهي في منتصف الطابور، فتخيل أن يأخذ المنتظر خلفك مكانك ويأخذ معه آخر أسطوانة غاز!

“سندويشة” الطابور

 تجرّ سيدة عجوز عربة طفل فارغة، هل شاهدت عربة أطفال تستلقي فيها أسطوانة غازٍ ممتلئة، تجرّها عجوز بصعوبة؟ إن لم ترها فأنت لا تعرف معنى السعادة الحقيقية حين تكون على شكل بؤس عميق، بؤس يودُّ إخبار كلّ من في الشارع عن أسطوانة الغاز التي يجرها.

لا يستغني الرجال عن علب سجائرهم فمن غيرها يعينهم على الصبر والصف الطويل الذي يبدو أنه سيمتد إلى الأبد. ولا يخلو الأمر من الشجارات بين الرجال، إلا أن النساء في مثل هذه الحالة أكثر شجاعة في الدفاع عن أماكنهنّ، كالمرأة التي حاول رجل أخذ دورها، فكانت تجرّ بيد الأسطوانة الفارغة وتدفع الرجل بيدها الأخرى، ثم تعيد لفّ شالها حول عنقها وتدفع بالرجل بعيداً. تعلمت النساء في تلك الطوابير الدفاع عن أماكنهن بأسنانهن، فالمكان الذي تحصل عليه إن ما تخليتْ عنه، ستخسره تماماً.

وإن كان الانتظار طويلاً لا سيما في أيام الصيف الحارقة، يحرص المنتظرون على جلب زجاجات المياه من منازلهم وربما يحملون سندويشات زعتر. تقول أم أيهم: “دائماً أتقاسم (سندويشتي) مع السيدة الواقفة أمامي والسيدة التي خلفي، غالباً تكونان من جيراني، نتفق على المجيء سوياً، الانتظار مع أشخاص تعرفينهم يجعله أقل ثقلاً”.

لكن ماذا لو كان الانتظار مربحاً وفارغاً في الوقت ذاته؟ ماذا لو كان انتصاراً وهزيمة معاً؟ لم تُرد تلك السيدة التي انتشرت قصتها في كلّ مكان سوى أن تحصل على أسطوانة غاز، المرأة التي ناهزت الثمانين وقفت على جانب الطريق تلتقط أنفاسها عاجزة عن حمل الأسطوانة. ثم جاءت سيارة أجرة، عرض عليها السائق أن تصعد ففعلت وتكفل بوضع الأسطوانة في صندوق السيارة. وحين وصلت أمام منزلها وطلبت من ابنها حملها، كانت الأسطوانة خفيفة للغاية وكأنّ ما بداخلها تبخر واختفى. بالطبع لم يختفِ ما بداخلها لكن السائق كان يملك أسطوانة فارغة قام باستبدالها بتلك التي حصلت عليها العجوز، هكذا في ذلك اليوم خسرت العجوز أسطوانة الغاز وثمنها وأجرة السيارة وساعات من الانتظار الفارغ وعاد رجلٌ ما مزهواً إلى عائلته من دون أن يفعل شيئاً سوى أن يخدع عجوزاً!

تسلل غير موفق

على دفتر العائلة كنا نترك علامة يتفق عليها الفريق خلال التوزيعات في إحدى المنظمات الإنسانيّة في المناطق التي يقيم فيها المهجرون من منازلهم. في ذلك اليوم كنّا نوزع ثياباً شتويّة للأطفال، وبسبب عددهم الكثير، مقابل عدد الثياب المحدود، كنّا نضع تلك النجمة على زاوية دفتر العائلة. كان تنظيم الدور شبه مستحيل، أعداد هائلة، وجوه بائسة وأطفال حُفاة، في آخر الدفتر كان هناك الكثير من العلامات أكثر مما تتوقع! لكن العائلات البائسة التي تريد زيادة من كلّ شيء، كان يعود بعضها ليأخذ حصّة أخرى من الثياب، لكن إشارة النجمة كانت تفضحه. في كلّ مرة اضطررتُ لأعلم الفريق أن هذا الشخص استلم حصّته بالفعل، كنتُ أشعر بواحد من أكثر المشاعر قبحاً وتعقيداً. يزيد ألمي أن المستفيد ينكر ذلك بكلّ ما أوتي من قدرة لكن النجمة المرسومة على جانب الدفتر تكشفه، النجمة التي رسمتها أنا!

وعلى السوريّ في كلّ طابور طويل أن يحاول التحايل على الانتظار. ليلاً مثلاً، يصطف الناس أمام مركز التوزيع، ومعهم ترمس قهوة أو شاي، يفترشون الأرض، ومهما جاء أناس في ساعات مبكرة يبقى منتصف الليل هو الوقت الأمثل. وهكذا قد ينتظر البعض منذ منتصف الليل وحتى الثامنة أو التاسعة صباحاً لكن المكافأة ستكون كبيرة، استلام أول أسطوانة غاز!

تتعرض نساء لتحرشات جسدية ولفظية خلال انتظارهن في الطوابير، بخاصة حين يكون الدور غير منتظم، ولا ينقسم المنتظرون بين صف للنساء وآخر للرجال، فتمتدّ الأيدي وسط الحشود المتدافعة، فيما تخفي نساء غضبهن فمن سيسمعهن وسط هذا الحشد الجائع؟ وبعضهن يتركن الطابور ويرحلن، فيما تثور أخريات.

من جهة أخرى، يمثل الأقارب الذين يعملون في مراكز التوزيع أو في الأفران كنزاً حقيقياً، فيغدو الحصول على مستحقات العائلة أمراً بسيطاً وبدهياً للغاية، لا يحتاج انتظاراً أو استيقاظاً باكراً، فحصّة العائلة من السكر توضع جانباً قبل بدء التوزيع. تقول إحدى العاملات في التوزيع لقريبتها: “سأضع حصتك جانباً ولن أختم بطاقتك، هكذا تستطيعين استلام حصتك مرتين خلال شهر واحد”.

لعبت العلاقات دوراً أساسياً في تغيير حياة السوريين، أمّا أولئك الذين لا يملكون أي “واسطة” أو وسيط، سيتحملون الانتظار والهزائم.

حتى أنه أحياناً قد يكون وصول سيارة الغاز مجرد شائعة أطلقها البعض وصارت حقيقة حتى امتد الطابور عشرات الأمتار. عند الحادية عشرة صباحاً، يرحل منتظرون حاملين أسطوانتهم الفارغة، لكن أكثرهم خيبة هو من انتظر منذ منتصف الليل وسط الشارع، فتسمعه يصرخ: “يا ولاد الكلب طلع كذب! خلوني انطر كلّ الليل مشان ولا شي”.

هل نحن بشر داخل الطوابير؟

يردد صديقي: “الجميع ينتظرون في الطوابير، ألم تشاهدي الطوابير التي تنتظر شراء الهاتف الجديد من أمام متاجر آبل أو الجماهير المنتظرة يوم الجمعة السوداء!”. لكن لا يمكن تشبيه طوابير السوريين بتلك الطوابير، فهناك تقف طوعاً داخل انتظار ما سواء كان منظّماً وحضارياً أو العكس فهذا أمر طوعي، أمر تريده لإرضاء حاجة ما لكنكَ هنا تضطر للوقوف، تستجدي احتياجاً ما، حصّة من الأرز الذي لا تملك سعره المضاعف خارجاً أو وقوداً خشية برد الشتاء على أطفالك. ثم تتعلم شيئاً فشيئاً أن القسوة وعدم التنازل عن مكانك هو الطريق الوحيدة لتحصل على حقك.

يقاطعني صديقي: “لكن أليست كلّها ثقافة طابور في النهاية! طريقة ما يركزون فيها حاجة الفرد في شيء ما سواء كان هاتفاً أو كيلو من الأرز!”، في مكان آخر يبقى الكلام مجرد كلام والحقيقة مرّة، والانتظار يبقى قاسياً وثقيلاً. يردد العجوز السبعيني بيأس بعد انتظاره أكثر من ثلاث ساعات: “أشعر أنّني سأموت قبل أن يصل دوري”.

تقول مريم (اسم مستعار): “أنا أعاني من حالة صحية، تودي بي إلى فقدان الوعي المفاجئ وهبوط الضغط، في حال وجدت في مكانٍ مكتظ يفتقد إلى الشروط الإنسانية تماماً كطوابير الانتظار السورية”.

حصل ذلك مرةً في حافلة للنقل الداخلي، وسط الازدحام والأجساد الدبقة ورائحة العرق، فغابت مريم عن الوعي لتصحو وكلّ ركاب الباص حولها حيث لم تبقَ قنينة ماء إلّا وأفرغت فوق رأسها. “أتذكر خلال دراستي الجامعية أصبت بالحالة ذاتها وسط طابورٍ من الطلاب ينتظرون الموظف المتأخر أمام شباك صغير، يتدافعون ويتشاجرون. كان غيابي عن الوعي في تلك المرة مفيداً، فيبدو أن الطلاب شعروا بأنني غير قادرة على أن أكون جزءاً من التدافع والشتائم فصاروا يعطونني أدوارهم ويقولون للموظف، فلتنتهِ أولاً من أوراق (البنت الدايخة)”.

من جهة أخرى، مشهدٌ واحدٌ لسيارة “السورية للتجارة”، وهي توزع المستحقات عبر البطاقة الذكية يختصر فكرة تدمير أبسط الشروط الإنسانية حيث يشعر الإنسان أنه مهانٌ ومجبرٌ على تحمل الإهانة، كيف لا وعليه أن يعود بمستحقاته وسط هذا الحشد الذي قد يستمر ساعات، يتهافت الناس للوصول إلى باب الشاحنة، يصيح رجل غاضب بعدما صاح به العامل لينتظم ويتوقف عن دفع الناس: “هل أنا الوحيد الذي عليه أن ينتظم كالحمار في صفّ لوحده؟”.

النساء ضحايا الطوابير

تتعرض نساء لتحرشات جسدية ولفظية خلال انتظارهن في الطوابير، بخاصة حين يكون الدور غير منتظم، ولا ينقسم المنتظرون بين صف للنساء وآخر للرجال، فتمتدّ الأيدي وسط الحشود المتدافعة، فيما تخفي نساء غضبهن فمن سيسمعهن وسط هذا الحشد الجائع؟ وبعضهن يتركن الطابور ويرحلن، فيما تثور أخريات. يذكر كثيرون في الحيّ صوت إحداهن المخنوق وهي تصيح: “جوعان وناطر من الصبح وإلك خلق تلمسني!”.

صمت الجمهور المتدافع وكاد الناس يسمعون أنفاسهم. لم يحدث يومها شيء آخر، تراجع الرجل إلى آخر الصف كما روى البعض واحتفظت المرأة بمكانها وبغصّة موجعة وبأثر ما على جسدها، شعرتْ به وحدها.

بعد فقدان كثيرات أزواجهن خلال السنوات الماضية، حُرمت عائلات من المعيل الوحيد، فكان على النساء القيام بمهمات صعبة، فبتن في مواجهة يومية ومباشرة مع عالم الرجال الذي لم يعتد أن تكون المرأة قريبة منه، فإضافة إلى الجوع والحرب يريد كثيرون أن تكون المرأة ضحية التحرش الجسدي واللفظي في طوابير الانتظار.

وقد يصدر التحرش من الموزعين أنفسهم ومن المسؤولين عن توزيع الحصص في الجمعيات والمنظمات حيث قد تساوم نساء على حصصهم أو حصّة أكبر مقابل خدمات جسدية لاحقة. ترضخ نساء ويتركن أرقام هواتفهن، وبعض الموزعين يعرفون مسبقاً أين تقع منازل هؤلاء النساء. تقول كوثر (اسم مستعار): “همس لي مرة المسؤول عن التوزيعات الخيرية أنه لن يعطيني حصتي إن لم أعطه رقمي، أعطيته رقماً خاطئاً وأخذت حصتي ولم أعد بعدها مطلقاً، صرت أذهب إلى منطقة أبعد لاستلام حصصي”. وحين سألناها إن حاولت تقديم شكوى قالت: “أتعتقدين حقاً أننا نعرف إلى من سنتوجه؟ الوجه الوحيد الذي نعرفه هو هذا الموزع وفي الحقيقة أخشى خسارة حصتي إن ما اشتكيت”.

يسميه البعض طابوراً وآخرون يقولون إنه ثقافة القطيع التي نجبر على دخولها، حيث يقولب التفكير والرغبات شيئاً فشيئاً ويغدو الطابور نوعاً من أنواع الثقافة اليومية، التي تُنسي الناس حياتهم الحقيقية وينغمسون في البحث عن أبسط حقوقهم المعيشية. وكيف يتطور شعب ما أو يفكر بالخروج من قوقعته وهو يمضي نصف يومه داخل طابور، والنصف الآخر يفكر ويسأل عن موعد تسليم مستحقاته أو يرتاح فيه من تعب الانتظار الطويل؟ هكذا تُدجَن الشعوب وتقتل الكفاءات والمواهب والقدرات وسط صفّ طويل من الأحلام والمخاوف والحاجات.