fbpx

“كورونا” يخلخل المحاصصة في العراق: سقوط جديد لاقتصاديات صدام حسين؟!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على رغم ادعاءات النظام السياسي الذي حكم العراق بالتعاقب ما بعد عام 2003 بأنه يمثّل قطيعةً مع الماضي، إلا أنه يشكّل في الواقع تطوراً لا مركزياً للنموذج السابق في عهد صدام حسين

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نظام الحكم الحالي وسّع باستمرار دور الدولة الوصائي كموزع للثروة النفطية مقابل الإذعان الاجتماعي لحكمها.

بدأ نظام المحاصصة الطائفية يفقد قوته بالفعل ويواجَهُ بالحركات الاحتجاجية منذ عام 2018، وكشفت أزمة “كوفيد-19” وانعكاساتها على الاقتصاد العالمي بشكل أكبر، نموذج الحكم الحالي واعتماده على عائدات النفط المتقلبة والمنخفضة، وكذلك عدم قدرة النخب السياسية العراقية الحالية على إدارة الأزمة أو الخروج منها.

بعد سقوط نظام الرئيس العراقي صدام حسين عام 2003 كان بإمكان العراقيين أن يرفعوا بدلاً من تمثاله الذي حطموه تمثالاً للمحاصصة الطائفية، فهي رغم انها جاءت لتصلح اخطاء الماضي، الا ان سياستها الاقتصادية كانت تطورا لا مركزياً للنموذج السابق. و رغم ان السياسات الاقتصادية مكّنت النظام السياسي الجديد الاستمرار وتأمين شيء من “الاستقرار” وتجاوز أزمات متعددة، بما في ذلك الأزمة المالية التي عصفت بالعراق عام 2008 والحرب على تنظيم الدولة الإسلامية. الا ان الازمة الحالية خلقت تحديات جديدة.

اليوم يبدو أن انهيار عائدات النفط العراقي، بسبب انهيار أسعار النفط العالمية وتأثيرات جائحة “كوفيد 19” على الاقتصاد العالمي، بدأ يكشف التناقضات الهيكلية والمتأصلة في نظام المحاصصة الطائفية واعتماده الحصري على مورد متقلّب. 

وكما في الأزمات السابقة، استجاب النظام السياسي للأزمة الحالية من خلال الحفاظ على الإنفاق العام على حساب الإنفاق الاستثماري، لكن التدهور الذي يشهده هذا النظام بلغ مستويات عالية هذه المرّة، كما تغيرت الديناميات النفطية تغيّراً جوهرياً، فهل سيؤرّخ “كوفيد-19” لنهاية نظام المحاصصة؟

ينطوي نظام المحاصصة الطائفية على التحكّم بموارد الدولة من حكومة تضمّ جميع الأحزاب العرقية والطائفية، بما يتناسب مع المقاعد التي فاز بها كل حزب في الانتخابات البرلمانية. وهو ما يؤدي إلى منافسة شرسة على السلطة والنفوذ من خلال تطوير شبكات المحسوبية الحزبية. أصبح التوظيف في القطاع العام وسيلة أساسية لبناء مثل هذه الشبكات بسبب هيمنة هذا القطاع على الاقتصاد ودوره كأكبر جهة توظيف رسمية، وأدى ذلك، مدفوعاً بارتفاع أسعار النفط، إلى توسّع هائل في عدد موظّفي القطاع العام الذي زادت نفقاته خمسة أضعاف تقريباً من عام 2005 ليصل إلى ما يقدر بنحو 50 مليار دولار عام 2020.

كانت هذه النفقات تزداد باستمرار ولم تتوقف إلا مع تراجع عائدات النفط أثناء الأزمات، لكنها كانت تستأنف تصاعدها بعد تجاوز الأزمات. جاء إنفاق الحكومات المتعاقبة على حساب الإنفاق على البنية التحتية العامة التي تشتد الحاجة إليها، والتي دُمِّرت من جرّاء أكثر من أربعة عقود من الصراعات المسلحة، وعلى حساب بناء الرصيد الرأسمالي للبلاد، وكلاهما دعامة أساسية للنمو الاقتصادي المستدام. وكان من شأن سوء الإنفاق هذا، وكذلك ضعف الدولة في فرض سيادة القانون، وبيروقراطيتها الخانقة، ودورها المركزي في الاقتصاد غير النفطي كان من شأنها جميعاً إعاقة نمو القطاع الخاص النظامي وقدرته على توليد فرص عمل. وبالتالي، تمحور القدر الأكبر من تنمية القطاع الخاص في الاقتصاد غير النظامي الذي أصبح بشكل متزايد مصدر رزق للقطاعات الفقيرة والمهمّشة من المجتمع التي تُمثّلُ حالياً 20.5 في المئة (بحسب إحصاءات 2017/2018) من السكان.

تنتج الضغوط الديموغرافية في البلاد أعداداً كبيرة من الشباب الباحثين عن العمل، إلا أن القطاع العام المتضخم ومعه القطاع الخاص النظامي العاجز عن النمو لا يمكنهما استيعاب هذه الأعداد المتزايدة، الأمر الذي يدفع معظم هؤلاء الشباب إلى الاعتماد على الاقتصاد غير النظامي في معيشتهم، وما يترتب على ذلك من قيود على حراكهم الاجتماعي الصاعد وأمنهم المالي. 

وضمن أرقام البطالة الرسمية البالغة 9.8 في المئة، فإن بطالة الشباب، لمن تتراوح أعمارهم بين 15 و20 سنة، تقف عند مستوى 16.5 في المئة، بينما تكشف الاستطلاعات أن 6 في المئة فقط من الشباب في البلاد راضون عن جهود الحكومة لتحسين فرص العمل. وفي اقتصادٍ كهذا، تصبح التظاهرات التي تطالب بالوظائف والإصلاح أمراً لا مفر منه، وكما كان متوقعاً فإن الموجة الأولى من تظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر 2019 كانت تتألف من شبان وشابات يبحثون عن عمل وقد تسبّبت الحكومة بإطلاق شرارتها، من خلال حملتها على قطاع العمل غير النظامي في وقت سابق من الصيف.

من هنا، يفرض الاضطراب الذي تسببت به جائحة “كوفيد-19” للاقتصاد العالمي، وتأثيره في خفض أسعار النفط عالمياً، نمطاً جديداً من التحديات للعراق ولأفق نموذج الحكم القائم على المحاصصة الطائفية الذي أصبح يعتمد على خلقِ الوظائف العامة وسيلةً لاكتساب الشرعية.

لا يمكن التكهن بتأثير أزمة “كوفيد-19” في العراق، ولكن يمكن رسم مسار عام للتوقعات. فطبيعة الفايروس تحول دون العودة إلى الحياة الطبيعية الكاملة للاقتصاد العالمي في المستقبل المنظور، وعلى رغم أن بلداناً كثيرة بدأت فتح حدودها وأسواقها، إلا أن التوقعات تشيرُ إلى أن الطلب العالمي على النفط سيظلّ منخفضاً حتى نهاية عام 2020 على الأقل. وبموجب هذا السيناريو، من المتوقع أن يتراوح متوسط أسعار النفط، إذا ما قيست بخام برنت، بين 30 و40 دولاراً للبرميل على مدى 12 شهراً المقبلة، وبين 45 و55 دولاراً للبرميل على مدى الأشهرالـ12 التي تليها.

وكما هو الحال في الأزمتين السابقتين في عامي 2008 و2014، ستسعى النخبة الحاكمة للحفاظ على الإنفاق على الرواتب والمعاشات والضمان الاجتماعي، ولكنها ستشرع أيضاً في إجراء تخفيضات كبيرة في خطط الإنفاق الاستثماري والإنفاق على السلع والخدمات، بحسب ما يتضح من استجابات الحكومة المبكرة للأزمات الحالية. ومع ذلك، لن يكون هذا الخفض للنفقات كافياً لتعويض الخسائر في عائدات النفط. إن كل انخفاض بمقدار دولار واحد في أسعار خام برنت يقلل من عائدات النفط بنحو 1.25 مليار دولار، ما يؤدي إلى عجز يقدّر في حدود 41.5 إلى 52.5 مليار دولار للأشهر الـ12 المقبلة. وسوف يُموَّل هذا العجز محلياً بصورة مبدئية من خلال التمويل النقدي غير المباشر باستخدام احتياطيات البلاد الأجنبية التي بلغت 63.7 مليار دولار حتى نهاية شباط/ فبراير. ومع ذلك، يتطلب هذا النهج سيناريوات شبه مثالية ليكون فعالاً، إذ يمكن أن يؤدي انخفاض هذه الاحتياطيات إلى أقل من 15 مليار دولار إلى انخفاضٍ في قيمة العملة مقابل الدولار ما من شأنه أن ينعكس تراجعاً في مستويات المعيشة لغالبية السكان نظراً إلى اعتماد العراق الكبير على الواردات لتلبية الاستهلاك. 

أمام الحكومة العراقية الحالية مهمة عصيبة تتمثل في تمرير مثل هذا الحل من خلال برلمان المحاصصة. وتمريره بنجاح، سوف يسرّع إلغاء شبكات المحسوبية في وقت أقرب بكثير من المتوقع، ومع انقضاء الأشهُر الـ12 المقبلة، ستؤدي زيادة عائدات النفط المتوقعة إلى إزالة الكثير من الضغط الملقى على كاهل الموارد المالية الحكومية، ولكن مع استهلاك نفقات الرواتب في القطاع العام للجزء الأكبر من هذه الإيرادات ومع استنفاد احتياطيات البلاد الأجنبية، ستكون النتيجة استمرار نقص الاستثمارات العامة في البنية التحتية أو إعادة الإعمار، والحفاظ على معظم جوانب خفض الإنفاق على السلع والخدمات. ذلك سيؤدي إلى تفاقم الضغوط على الاقتصاد غير النظامي الذي تضرر بشدة على خلفية الإغلاق بسبب جائحة “كوفيد-19” وإجراءات خفض الإنفاق السابقة للحكومة.

يطرح كل هذا تحدياً متعدد الأوجه، لن تكون النخبة السياسية بتشرذمها المتزايد وتآكل شرعيتها على مدار سنوات مؤهلة لمواجهته وحلّه. إن حجم نفقات الرواتب في القطاع العام لن يترك أي متّسَعٍ للتعيينات الجديدة ولا للبنية التحتية والإنفاق على إعادة الإعمار. وفي حين أن اللجوء إلى القروض لتمويل الاستثمارات العامة يمكن أن يكون خياراً، وسيترتب عليه اللجوء إلى صندوق النقد الدولي الذي سيشترط كما جرت عادته إجراء إصلاحات اقتصادية هيكلية متسارعة ودمج الاقتصاد غير النظامي في الاقتصاد النظامي، ما سيقوضّ أسس شبكات المحسوبية. وفي الوقت نفسه، فإن الظروف الاقتصادية للاقتصاد غير النظامي المهمل، التي أدت إلى تظاهرات 2019، ستصبح أسوأ تدريجاً.

من دون إصلاح سياسي حقيقي يقلب النظام الطائفي رأساً على عقب، فإن أيام المحاصصة الطائفية معدودة، ومن دون الدعم الذي تؤمّنه عائدات النفط المتزايدة باستمرار، سوف تتداعى أسس هذا النموذج الذي ورث عهد صدام حسين. وإن الخيار الوحيد أمام النظام السياسي الحالي من أجل البقاء هو اللجوء إلى الإفراط في قمع العدد المتزايد من الشباب العاطلين من العمل الذين يثورون في الشوارع. وهذه آلية بقاء غير مستدامة بالنظر إلى الضغوط الديموغرافية للبلاد وتشظّي النظام السياسي.

  • أحمد معن الطبقجلي :كبير المسؤولين الاستثماريين في صندوق العراق التابع لشركة آسيا فرونتير كابيتال وأستاذ مساعد في الجامعة الأميركية في العراق.