fbpx

تونس بعد “كورونا”… العصا الغليظة لقمع التحركات الاجتماعية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدو أن الحكومة التونسية ليست جاهزة للعبور إلى مرحلة ما بعد أزمة “كورونا” بخاصة على المستوى الاقتصادي. لهذا اختارت التدخل الأمني العنيف لمواجهة صعود التحركات الاجتماعية في مناطق مختلفة من البلاد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“كنا مجموعة عاطلين من العمل تلاعبت الدولة بمصيرهم على مدار 8 أعوام، ننفذ اعتصاماً سلمياً في محطة الأرتال في المكناسي (معتمدية تابعة لمحافظة سيدي بوزيد) لدفع السلطات إلى تسوية وضعنا، لكننا فوجئنا بدخول نحو 80 سيارة شرطة بأحجام مختلفة ومعها حوالى 2000 رجل أمن طوقوا محيط المدينة وداخلها. المشهد بدا مروعاً ومثيراً الريبة حتى أننا خلنا أن وصول هذا العدد الهائل من الأمنيين بهذه السرعة إنما هدفه قتلنا”.

هكذا تحدث ماهر السليمي أحد الشباب المشاركين في اعتصام عمال المناجم في مدينة المكناسي لـ”درج” عن الطوق الأمني الكبير الذي فرض على مدينته بسبب احتجاجه ورفاقه على تنصل السلطات من وعودها والتزاماتها معهم، وترك ملفاتهم عالقة من دون حلول جذرية منذ عام 2013.  

وتنشط هذه الأيام احتجاجات واسعة بخاصة في المحافظات والمناطق المهمشة بهدف تذكير أصحاب القرار بقضاياهم المعلقة منذ سنوات وللتنديد بمماطلات سلطات متلاحقة، لم تتردد في التلاعب بملفاتهم وتركهم رهن عقود عمل مشبوهة لم تنفذ ووعود كاذبة ومحاضر جلسات بلا قيمة تذكر. 

من العملية الامنية في المكناسي

على رغم هول المفاجأة التزم ماهر ورفاقه الهدوء وطلبوا من الأمنيين التحاور، إلا أن الأخيرين رفضوا أي حديث مقابل بقاء الشبان معتصمين، واعتقلوا أكثر من 40 شخصاً من بينهم.

يقول ماهر: “نُقلنا من دون أن نعرف إلي أي وجهة نمضي وصادروا هواتفنا النقالة لنجد أنفسنا في أحد مراكز الأمن حيث تم إجبارنا على الجلوس على الأرض كما لو أننا حيوانات، وحققوا معنا تباعاً ثم تمت إحالتنا على أنظار النيابة العمومية”.

وقضت النيابة العمومية بإحالتهم على الدائرة الجناحية تحت ضغط عدد من مكونات المجتمع مدني والنقابيين وبعد تطوع قرابة 20 محاميا للدفاع عنهم. لكن هذه التتبعات لا تخيف ماهر ورفاقه الذين سئموا التلاعب بملفهم منذ سنة 2013 ويشددون على أنهم سيواصلون تحركاتهم السلمية إلى حين تسوية وضعيتهم بشكل نهائي. “يريدون ردمنا ودفننا كي ننسى، ويسعون إلى تلفيق قضايا كيدية لنا بهدف جرنا للمحاكم وإبعادنا من قضايانا الرئيسية لكن لن نسمح بهذا مجدداً، تكفي السنوات الـ8 التي ذهبت سدى جراء وعودهم الكاذبة”، يضيف ماهر.

من احتاجاجات العاصمة تونس

عصا غليظة

ولئن تراجع نسق الاستهداف الممنهج للاحتجاجات بعد الثورة، إلا أن الحكومات في تونس ما زالت تلجأ إلى العصا الغليظة في التعامل مع المطالبين بحقوقهم عبر التظاهر، على رغم أن دستور البلاد في فصله الـ37 يكفل حرية الاجتماع والتظاهر السلميين. 

لسعد مشي هو الآخر كان بين الشباب الذين تم اعتقالهم بسبب احتجاجات المكناسي بدا مندهشاً لوصول عدد هائل من عناصر الأمن لتفريق اعتصامهم في مشهد أشبه بمداهمة خلية إرهابية على حد وصفه. وأخبروهم أنهم سيقومون بفض الاعتصام مهما كلف الأمر، ما دفعهم إلى تجنب أي مقاومة عنيفة قد تحسب ضدهم لاحقاً وتم اعتقال بعضهم. 

وقال لـ”درج”: “أخذونا إلى أحد مراكز الشرطة وسط محافظة سيدي بوزيد حيث تم الزج بنا في مساحة ضيقة لا تتسع لعددنا الكبير وتعرضنا لشتى أنواع الشتم والسب تارة وللترهيب تارة أخرى، بهدف استفزازنا للرد بقوة والتصادم معهم، لكننا لم نسقط في هذا الفخ”.  

أثار وجود وحدات الأمن في المدينة بشكل مكثف سخط الأهالي الذين خرجوا للتظاهر في الشارع، مطالبين بانسحاب قوات الأمن من المدينة والكف عن تتبع عمال منجم الفسفاط عدلياً، وإعادة عمل منجم الفسفاط وتسوية وضع عماله، فاندلعت مواجهات عنيفة بين الجانبين. 

وينظم عمال الحضائر المطالبين بتسوية أوضاعهم مع عدد من الذين تم اختيارهم في قائمة مناظرة مشروع منجم الفسفاط في المكناسي المنادين بضرورة تفعيل المشروع في أسرع الآجال، اعتصاماً منذ أكثر من شهر في محطة الأرتال في المدينة للمطالبة بحسم ملفهم.

الفقراء الجدد يمثلون 30 في المئة من العدد الإجمالي لفقراء تونس البالغ عددهم نحو مليوني فقير من جملة 12 مليوناً، عدد سكان تونس

وتجدر الإشارة إلى أن مسألة الاحتجاجات والاعتصامات في منجم الفسفاط تعود أطوارها إلى عام 2013، فمنذ هذا التاريخ دأبت الجهات المعنية على إمضاء محاضر اتفاق متتالية مع المحتجين من دون الإيفاء بها، فعادت التحركات لتطالب بالتشغيل والالتزام بالتعهدات المبرمة. 

ويعد هذا الملف حلقة من جملة حلقات أخرى مماثلة قائمة منذ سنوات وتفاقمت في ظل تداعيات أزمة “كورونا” التي لم تجابه بحلول منصفة لكل التونسيين، بخاصة المنتمين إلى الفئات الهشة على غرار العاطلين من العمل من أصحاب الشهادات العليا وعمال الحضائر وأصحاب المهن الحرة الذين لا حيلة لهم سوى الاحتجاج عسى أن تجد أصواتهم آذاناً صاغية. 

فليس بعيداً من المكناسي هناك في محافظة قفصة القريبة من محافظة سيدي بوزيد جغرافياً والمشابهة لها على مستوى ضعف التنمية والتهميش الحكومي الممنهج منذ عقود، ارتأت السلطات أيضاً أن تواجه احتجاجات العاطلين من العمل من حاملي الشهادات العليا بالقمع والاعتقال، عسى أن تجبرهم على التعايش مع ظروفهم الاجتماعية الصعبة بصمت.

يقول إبراهيم الجدلاوي: “نظمت وزملائي مسيرة سلمية انطلقت من  مقر الولاية نحو شركة فسفاط قفصة لإيصال جملة من المطالب المتعلقة بحقنا في التشغيل ونشر روزنامة النتائج النهائية للمناظرات الموجودة في الجهة، لكن تحركنا قوبل بتدخل أمني عنيف تم خلاله اعتقالي وثلاثة آخرين من المحتجين”.  

وفي الطريق إلى مركز الشرطة في المدينة تعرض الجدلاوي ورفاقه للضرب على يد أعوان الأمن الذين تولوا إيقافهم وأخضع لاستجواب دام أربعة ساعات ثم أطلق سراحهم في ما بعد. وهي خطوة أراد من خلالها، الجهاز الأمني الذي أوكل إليه التصدي للتحركات الاجتماعية ولو بالقوة، تفرقة المحتجين في مرحلة أولى ثم إخافتهم بالاعتقالات المصحوبة بالضرب والترهيب حتى يتوقفوا عن المطالبة بحقوقهم. 

انعدام توازن

وتنتمي محافظتا قفصة وسيدي بوزيد إلى الشريط الغربي من تونس، الذي تم إسقاطه منذ عقود من حسابات التنمية الأمر الذي عمق الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الجهات، وأدى إلى انعدام التوازن في توزيع الثروات بينها. وعلى رغم أن هذه المسائل كانت أهم أسباب اندلاع ثورة الـ14 يناير، إلا أن الحكومات المتلاحقة اكتفت بالخطابات السياسية الجوفاء والوعود التي تختفي مع نهاية الحملات الانتخابية، فتواصل تجاهل هذا الملف على رغم دقته. ولعل هذا ما يفسر استمرار الاعتصامات والاحتجاجات في هذه الجهات المحرومة لمطالبة الحكومات بالتفاتة حقيقية نحوهم. 

والمحافظات الداخلية المنسية من سلطات الإشراف منذ عقود طويلة تحتوي على 50 في المئة من النفط والغاز والموارد المائية في البلاد، و70 في المئة من إنتاج القمح، و50 في المئة من زيت الزيتون والفاكهة. 

ويذكر أن قوات الأمن عمدت أيضاً إلى الاعتداء، مؤخراً، على العشرات من حاملي الشهادات العليا العاطلين من العمل لتنفيذهم وقفة احتجاجية قرب محيط مجلس النواب للمطالبة بتشغيلهم.

شريف الخرايفي الأمين العام لاتحاد أصحاب الشهادات المعطلين من العمل في تونس، يرى أن التعامل الأمني العنيف مع التحركات الاجتماعية ليس أسلوباً جديداً في البلاد وإنما خيار كل الحكومات قبل الثورة وبعدها، لأنها جميعا كانت عاجزة وما زالت عن اتخاذ قرارات شجاعة على علاقة بالتنمية والتشغيل ولم تملك الإرادة الكافية لتحقيق ذلك. ولهذا لا تتوانى عن استخدام الحل الأمني، لكن اللافت أن مرحلة ما بعد “كورونا” شهدت نسقاً تصاعدياً في وتيرة التعامل الأمني مع مختلف التحركات الاجتماعية.

ويؤكد أن سلطات الإشراف لا تريد فهم أن التجارب في تونس أثبتت أن الخيار الأمني ليس الحل المناسب للتعاطي مع مطالب المحتجين، ولم تتعظ من احتجاجات الـ17 من أيلول/ ديسمبر التي تحولت إلى انتفاضة عامة أسقطت نظاماً برمته فقط لأنها قوبلت بالعنف والقمع الأمني ولم يعقها جبروت الدكتاتورية آنذاك، فما بالك والوضع مختلف الآن؟

يقول الخرايفي “كلما اختارت الدولة مواجهة أي تحرك احتجاجي في أي منطقة من البلاد بالقوة بدل الحوار، فإن ذلك لن يؤدي إلا لتوسيع نطاق المطالب التي قد تصل إلى رفض المنظومة السياسية برمتها بعدما كان محورها التشغيل فقط”. 

وأظهرت دراسة اجتماعية ميدانية أعدها مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالتعاون مع الجامعة التونسية أن رقعة الفقر توسعت خلال السنوات الأربع الماضية بنسبة 30 في المئة، بعدما تآكلت الشرائح السفلى من الطبقة الوسطى وفقدت موقعها الاجتماعي لتتدحرج إلى فئة الفقراء نتيجة التحولات الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية، ما أدى إلى بروز “ظاهرة الفقراء الجدد”.

تقول الدراسة التي شملت 5300 عينة موزعة على أنحاء البلاد إن الفقراء الجدد يمثلون 30 في المئة من العدد الإجمالي لفقراء تونس البالغ عددهم نحو مليوني فقير من جملة 12 مليوناً، عدد سكان تونس.

وعلى رغم فداحة هذه الأرقام إلا الحكومات المتلاحقة لم تتوصل إلى طرح نموذج تنموي حقيقي كفيل بتحقيق نتائج إيجابية لمصلحة الفئات الهشة في البلاد، بل وتتجه إلى فرض الخيار الأمني لإسكات الطبقات التي دفعت فاتورة انهيار الاقتصاد وسئمت الوعود الكاذبة واختارت الخروج للتعبير عن استيائها مما يحدث وتطالب بحقوقها التي ظلت لسنوات رهن الانتظار.