fbpx

العراق : عن أحمد راضي… فارس أحلام الطفولة و”النورس” الذي حلّق إلى الأبد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كبرتُ بسرعة وسحقتني الحياة بكل قسوتها، وشاهدت موت أصدقائي الذين كانوا يريدون أن يصبحوا مثل أحمد راضي. لم تمهلهم الحرب كثيراً، ولم يسعفهم العمر ليصبحوا لاعبين مشاهير، ولا حتى أشخاصاً بسطاء. وبقيت أنا كلما رأيت أحمد راضي يقفز ذلك الطفل الفقير في رأسي

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
  • توفي نجم منتخب العراق السابق لكرة القدم، أحمد راضي (56 عاماً)، متأثراً بمضاعفات إصابته بفايروس كورونا المستجد، وقد شكل رحيله صدمة واسعة في أوساط العراقيين.

ما زلت أتذكر تلك اللحظة جيداً، عندما جاء رشيد، البائع الكردي المتجول، ودخل إلى بيتنا رفقة أبي ليحمل التلفاز معه إلى الأبد، كنت أبكي وأجرُّ ثوب أمي متوسلاً أن تمنع أبي من بيع التلفاز، كنت خائفاً من أنني لن أرى أحمد راضي مرةً أخرى، ولن أرى مباريات المنتخب الوطني ونادي الزوراء؛ لكنَّ الحصار على العراق في التسعينيات كان قاسياً والفقر بدأ يتفشى في البيوت، وكانت أمي تقول لي: خسارة التلفاز أهون على والدك من خسارتكم بسبب الجوع.

كنا حينها نأكل الخبز والشاي فقط كل صباح، ونتناول على الغداء “مرقة الهوا” التي كانت مزيجاً بائساً من معجون الطماطم والبصل والماء، تُغلى على النار وتُقدمها لنا أمي في صينية مدورة، تثرد فيها الخبز اليابس القديم، وتنقعه بذلك السائل الأحمر، وتقدمه طبقاً لملء بطوننا الخاوية.

أحمد راضي في أحد مبارياته

كنت حزيناً جداً أنني لن أراه مرة أخرى، أنا الذي أريد أن أكون أحمد راضي عندما أكبر، وكنت أتخيلني وأنا ألعب كرة القدم في شوارع حيَّنا الفقير أنني هو، وأنَّ الشارع ملعباً دولياً، والأرصفة مدرجات عالية، مكتظة بالجماهير، كنت حين أتوغل في الكرة بملعب الفريق الخصم أسمع صوت المعلَّق الرياضي مؤيد البدري يصف مهارتي بالتوغل وتجاوز اللاعبين الصغار أمثالي. كانت الصور تدور في رأسي وأشعر بنفسي ممتلئاً بصوت الجماهير وتصفيقهم وصفيرهم، وحين تنتهي الهجمة بإحرازي هدفاً كنت أحتفل بالطريقة ذاتها التي احتفل بها أحمد راضي عندما سجل أهدافه في شباك: بلجيكا في نهائيات كأس العالم عام 1986، والسعودية وإيران واليابان، والكثير من الدول الأخرى على امتداد مسيرته اللامعة مع المنتخب الوطني، كنت أذهب راكضاً إلى الرصيف/المدرجات، وأرفع يدي اليمنى وأحيي الجماهير وافتح ذراعيَّ للأحضان والتهاني من أقراني في الفريق، الذين يغمرونني بأجسادهم الصغيرة.

كنَّا، نحن أطفال الحصار الفقراء، حين نُسأل عن أحلامنا التي نريد تحقيقها عندما نكبر أو ماذا نريد أن نكون، نجيب بعبارة واحدة، وكأننا اتفقنا على حفظها: طبيباً أو مهندساً أو لاعب كرة قدم مثل أحمد راضي، هذه كانت أحلامنا الكبيرة، في ذلك الوقت الذي كنا نلعب فيه حفاةً على الإسفلت، ولا نملك ثمن شراء أيَّ نوع من أنواع الكرة، حتى ذلك النوع الرديء جداً، كرة البلاستيك، لم نكن نستطيع اللعب بها لأنَّ ثمنها باهظاً بالنسبة لنا.

مثل كل الأحلام التي تعثرت بالفقر والحرب، لن يتحقق لقائي بأحمد راضي حارس أحلام الطفولة، لقد مات الكابتن أحمد وتبدد ذلك الحلم الذي ظل يضيء بين الحين والآخر، ليذكرني بأن الطفل فيَّ ما يزال يريد تحقيق أحلامه، مات أحمد راضي بوباء كورونا، الوباء الذي تفشى في العراق كما تفشى الحصار والفقر والحروب.

الكرة التي كنا نلعب بها كانت حكاية أخرى، نسرق جوارب أمهاتنا الطويلة، ونحشوها بقطع القماش، وهكذا حتى نكوَّرها وتصبح كرة ملءَ اليد، ثم نلقيها في الشارع ونبدأ بركلها حتى تتمزق، ثم نعود لسرقة جورب أخر من أمٍّ أخرى ونصنع منه كرة قدم تناسب أقدامنا الحافية، وكافيةً لخيالنا الطفولي بأننا نستطيع أن نكون أحمد راضي في شوارع العراق الفقيرة.

أبي كان يمنعنا من البقاء خارج البيت بعد مغيب الشمس، يتشاءم من الغروب كثيراً، ويغضب عندما نتأخر إلى الليل، فهو يعتقد أن الشياطين تخرج من مخابئها عند الغروب، لذلك كنت أضع خطةً مع مهند صديق طفولتي وجارنا الذي كانت عائلته ما تزال صامدة بوجه الحصار والفقر ولم يبع أبوهم التلفاز، فكنت عندما تبدأ أي مباراة للمنتخب الوطني أو نادي الزوراء، اتبع طريقة اللصوص في الذهاب إلى بيت مهند الذي يفصله جدار واحد فقط عن بيتنا.

أحمد راضي

الرقم ثمانية، كان يمثل بالنسبة لي رقم الحظ، وكنت أتفاءل به كثيراً، وأحبه بشكل خاص، وأتذكر أنني كنت أطلب من والدتي أن تصممه لي من قطعة قماش بالية، ثم تخيطه على أي قميص لي، فأنا حين ألعب كرة القدم لن أرتدي غير الرقم ثمانية، ولن أكون سوى مهاجماً، فهكذا كان أحمد راضي، ويجب أن أكون أنا أيضاً، وعادةً ما يكون في الفريق الواحد أكثر من لاعب يرتدي الرقم ثمانية، فجميع الأطفال كانوا يريدون أن يصبحوا أحمد راضي.

عام 1999 غيَّر المنتخب الوطني تصميم القميص الخاص به، بحيث اختار اللون الأسود لوناً رئيسياً للقميص والشورت، ثم يكون العلم العراقي على صدر اللاعب، بحيث ينزل من جهة القلب إلى الخاصرة اليمنى، وتُكتب كلمة “الله” الموجودة في العلم على قلب كل لاعب، وهذا كانت له دلالته بالنسبة للسلطة التي تحاول استغلال الرموز لتوجيه رسائل سياسية وقومية ودينية للشعب المحاصر في الداخل وللعالم في الخارج.

في صيف 1999 قررت فاعليات في مجموعة من الأحياء العراقية المشهورة مثل، 8 شباط و30 تموز والتأميم والقادسية والقادسية الثانية إقامة دوري لكرة القدم، وكانت التحضيرات لهذا الدوري مختلفة، بحيث يختار فريق كل حي زياً رياضياً موحداً ويكون نسخةً مقلدة عن أي منتخب أو فريق عالمي أو محليِّ يختاره الحي. حينها اختار فريق 30 تموز أن يرتدي قميص المنتخب الوطني، وكان الاتفاق أن يشتري كل لاعب يريد المشاركة قميصه الخاص الذي يحمل الرقم الذي يحبه، ومثل كل الأطفال ذهبت إلى أبي وأخبرته أنني أريد شراء نسخة مقلدة من قميص أحمد راضي، فكان رده أنه لا يملك ثمن القميص، وحتى لو كان بحوزته فإن شراء بعض البطاطا سيكون أكثر فائدة للعائلة.

أدري أنَّ أبي كان على حق، لكنني كنت أريد المشاركة في ذلك الدوري، لقد كان حلماً بالنسبة لي، فهو فرصة كبيرة لأكون لاعباً مشهوراً في المدينة، وسيعرفني جمهور أكبر وهكذا أمشي على الطريق الذي مشى عليه أحمد راضي نحو الشهرة وحب الناس، بالإضافة إلى أمر آخر وهو أنني سأتمكن من اللعب بكرة قدم (اوفيشال) وفي ساحة كبيرة وأمام جمهور لم أكن أراه إلا في خيالي.

بدأت مباريات الدوري، وكنت أجلس على المدرجات أشاهدها بمرارة، أشاهد الذين استطاعوا إقناع أهاليهم بشراء القمصان الرياضية وأحسدهم على امتلاكهم المال الكافي للطعام وشراء والثياب، كنت أتوق للنزول إلى ذلك الملعب الترابي الكبير، وأشعر باشتهاء لملامسة تلك الكرة الباهرة والجديدة، لكن الفقر كان لئيماً، وبشعاً حدّ أن كان يحرمني من ممارسة الحياة مثل الآخرين، طفولة ليس فيها تلفاز ولا قدرة على شراء كرة قدم ولا نسخة مقلدة من قميص اللاعب الذي أحبه، أيُّ طفولة هذه؟! وهكذا بدأت أكره هذا العالم.

جاءت الحرب، ثم تغيَّر كل شيء. كبرتُ بسرعة وسحقتني الحياة بكل قسوتها، وشاهدت موت أصدقائي الذين كانوا يريدون أن يصبحوا مثل أحمد راضي أيضاً. لم تمهلهم الحرب كثيراً، ولم يسعفهم العمر ليصبحوا لاعبين مشاهير، ولا حتى أشخاصاً بسطاء. وبقيت أنا كلما رأيت أحمد راضي على الشاشة أو في مقطع قديم منشور على الانترنت يقفز ذلك الطفل الفقير في رأسي، ويمر شريط طويل من الذكريات أمامي، فأركض فيه حافياً حتى أتعثر بالحرب والحياة.

الآخرون يعرفون أحمد راضي على هذا النحو: أسطورة كرة القدم العراقية، من مواليد بغداد عام 1964، يُلقب بالنورس لقدرته على التحليق عالياً مع الكرة، ويلقب أيضاً بالفتى الذهبي، فهو ينتمي للجيل الذهبي في الكرة العراقية، الجيل الذي صعد للمرة الأولى والأخيرة -لغاية الآن- على كأس العالم عام 1986، وهذا الفتى هو صاحب هدف العراق الوحيد في كأس العالم ذاك، وكذلك هو لاعب نادي الزوراء الذي أصبح رئيساً للنادي أيضاً، واحترف اللعب في نادي الوكرة القطري مطلع تسعينيات القرن الماضي.

هكذا يبدو الكابتن أحمد راضي للآخرين، لكنني أعرفه بشكل مختلف، أعرفه أسطورة ولكن بخيال الطفل الذي يضفي على الخرافة طابعاً جمالياً مهيباً، أتخيله دائماً وهو يحلّق أو يركض مثل ضوء في المجال، إنه سبب في تدفق الدم بعروقي، بعروق ذلك الطفل المتحمس كثيراً للانتصارات، الطفل الذي كسرته الخسارات مبكراً، فوجد في ذلك “النورس” منجاةً لأحلامه الساذجة.

ظلَّ أحمد راضي يحافظ على قيمته ومكانته الاعتبارية في داخلي، وظل بالنسبة لي النافذة التي أطلُّ من خلالها على طفولتي البائسة والحالمة، وبقيت أتمسك بالأمل الذي اعتقدت أنه سيمكنني من لقائه والجلوس معه لأسرد عليه حكاية طفولتي معه، وكيف كان بالنسبة دائماً حارس أحلام ذلك الطفل الصغير والفقير.

لكن؛ ومثل كل الأحلام التي تعثرت بالفقر والحرب، لن يتحقق لقائي بأحمد راضي حارس أحلام الطفولة، لقد مات الكابتن أحمد وتبدد ذلك الحلم الذي ظل يضيء بين الحين والآخر، ليذكرني بأن الطفل فيَّ ما يزال يريد تحقيق أحلامه، مات أحمد راضي بوباء كورونا، الوباء الذي تفشى في العراق كما تفشى الحصار والفقر والحروب.

منذ أن قرأت خبر وفاته، ورأيت ذلك الحزن الجماعي الرهيب عند العراقيين على فقدانه، وأنا لا أستطيع إقناع الطفل بداخلي أنه مات بالفعل، وربما لن أستطيع، إنه الآن في رأسي، يحتفل بكامل وسامته ورشاقته بأهدافه الغالية التي يحرزها مع المنتخب الوطني، إنه أبو هيا الذي أحببناه صغاراً وكبرنا على حبه، وتأثرنا بسمته اللطيف وأخلاقه العالية في الرياضة والسياسة والحياة.