fbpx

لبنان: وداعاً أيّتها الطبقة الوسطى!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نحن مقبلون على مرحلة جديدة في أساليب عيش اللبنانيين، لم نعهدها منذ عقود، إذ ستصبح مشتريات وخدمات كثيرة اعتاد عليها اللبنانيون من الماضي…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تضعف الذاكرة مع اشتداد الأزمات وتوغّلها، لكن ليس منذ زمن بعيد وافتنا الأحزاب والتيارات السياسية الكبرى في لبنان بشعارات انتخابية في حملاتها للفوز بمقاعد نيابية في انتخابات ربيع 2018، يدور معظمها حول إبراز قوة هذه الأحزاب والتيارات وتسويق أفكارها لبناء “لبنان قوي” أو “جمهورية قوية”، وإقناع جماهيرها بقدرتها على “حماية” لبنان عبر سواعد المحازبين أو من خلال الدعاء والتعويذات. لم يكد يجف حبر هذه الشعارات حتى بدأ البلد، بمجتمعه واقتصاده ودولته، يشعر بالتوهن والعجز والانحدار تدريجاً إلى وضع أصبح كارثياً، يناقض كلياً ما وعدت به هذه الأحزاب والتيارات وزعماؤها. فلبنان يمشي بخطى ثابتة نحو صدارة الدول الفاشلة، الآيلة إلى السقوط والتفكك، فلا أحزاب حمت من انزلاقه ولا قوة استطاعت أن تحصنه، ولا مؤسسات دستورية قادرة على اجتراح الحلول، وأفق المساعدات والمعونات الدولية مسدود عبر صندوق النقد الدولي أو غيره.

وما انهيار قيمة الليرة إلا أحد تجليات هذا السقوط، الذي سيضع لبنان في مرحلة التضخم المفرط، إذ سجل راهناً ارتفاعاً يقدر بـ363 في المئة، ما جعله يحتل المرتبة الثالثة عالمياً مقترباً من ‎زيمبابوي وربما فنزويلا التي تحتل المرتبة الأولى، ومتخطياً سوريا والسودان وإيران. ويحصل التضخم المفرط عندما ترتفع الأسعار أكثر من 50 في المئة في الشهر. أما الأسباب البنيوية لانهيار الليرة ولهذا التضخم المفرط في لبنان، فتعود إلى بؤس حالة الاقتصاد وغياب إنتاجيته، والفجوة السحيقة في المالية العامة المغطاة منذ عقود بالاستدانة (والمرتبطة بالفساد واقتناص السياسيين موارد الدولة كالغنائم)، ولسياسة تثبيت سعر الليرة لربع قرن من دون استيعاب كلفة التضخم السنوي. ويرتفع التضخم بشكل كبير، عندما تلجأ الدولة إلى المصرف المركزي لطبع الليرات بكميات كبيرة لتغطية احتياجاتها كالرواتب والأجور والمصاريف الأخرى من دون انتاجية حقيقية في الاقتصاد لدعم هذا الضخ الكبير من العملة الوطنية، كما هو حاصل الآن.

أصبحت قيمة الحد الأدنى للأجور نحو 85 دولاراً في الشهر، بعدما كانت قيمته 450 دولاراً – إذا احتسبنا سعر الصرف في السوق الموازي 8000 ليرة للدولار، كما تم تداوله في الفترة الأخيرة. أما “الراتب السنوي النموذجي” – وهو مؤشر للرواتب والأجور في بلدان العالم يستخدم بغرض المقارنة – فسينخفض من ما قيمته 1333 دولار شهرياً إلى 243 دولاراً شهرياً. والتراجع في قيمة “الراتب النموذجي” يجعل لبنان متأخراً عن معظم دول المنطقة، باستثناء إيران وسوريا، بعدما كان يتقدم عليها جميعاً في هذا الترتيب.

ماذا يعني ذلك؟

يعني ذلك أننا مقبلون على مرحلة جديدة في أساليب عيش اللبنانيين، لم نعهدها منذ عقود، إذ ستصبح مشتريات وخدمات كثيرة اعتاد عليها اللبنانيون  من الماضي، مثل شراء هاتف جوال جديد أو صيانة السيارة أو السفر للسياحة أو الاستعانة بمساعِدَة منزلية، وستشمل التغيرات أنواع غذائهم ومحتواه، إضافة الى اكسسوارات حب الظهور الزائف التي اعتاد عليها كثيرون. لعل بعض هذه الأمور يمكن الاستغناء عنه. لكن تكمن البلوى في تأثر ثلاث قضايا أساسية لطالما شكلت هدفاً لمعظم العائلات اللبنانية، بخاصّة الطبقة الوسطى، وجزءاً من مسار الترقي الاجتماعي: الصحة والتعليم والسكن، ثلاثة من أقانيم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لكنها ثلاثة قطاعات جلها مخصخص وتحت سيطرة مؤسسات ربحية. 

أصبحت قيمة الحد الأدنى للأجور نحو 85 دولاراً في الشهر، بعدما كانت قيمته 450 دولاراً.

في التعليم، حوالى 70 في المئة من الطلاب اللبنانيين هم في مدارس خاصة، غالبيتهم في مدارس غير مجانية، إذ تدفع الأسر اللبنانية كمعدل وسطي ما يقارب 2500 دولار سنوياً رسوماً مدرسية، أي ما قيمته الآن نحو 20 مليون ليرة بحسب سعر الصرف الموازي عند كتابة هذه المقالة، أي نحو 30 مرة الحد الأدنى للأجور أو 10 مرات الراتب النموذجي المذكور أعلاه. إذاً، وداعاً المدرسة الخاصة، إذ لن يكون للعائلات القدرة على الانتساب إليها وستحصل هجرة جماعية إلى المدرسة الرسمية، و”احلال” الطلبة اللبنانيين مكان أقرانهم السوريين الذين يرتاد معظمهم المدرسة الرسمية، والآن سينتقلون للمجهول، وستحصل بطالة غير مسبوقة عند المعلمين والمعلمات في المدارس الخاصة. هذا كلّه سيحصل بعد شهرين في ظل غياب مخيف لوزارة التربية في التحضير لما هو آتٍ. 

كذلك في الصحة، يسيطر القطاع الخاص على النظام الصحي فـ84 في المئة من أسرة المستشفيات ضمن مؤسسات خاصة أكثرها يبغى الربح،  ويساهم الفرد بنحو 750 دولاراً سنوياً كمعدل وسطي من كلفة الفاتورة الصحية، تذهب معظمها على شراء الدواء، وهي الكلفة الأعلى في دول المنطقة باستثناء دول الخليج. ويدفع اللبناني أكثر من 40 في المئة من كلفة الفاتورة الصحية من جيبه مباشرة، أي من دون مساهمة الهيئات الضامنة. هذا يعني أن معظم اللبنانيين لن يكون في مقدورهم الحصول على عناية صحية شاملة وسيعانون من تأمين أدويتهم، بخاصة إذا تحرر سعر الصرف. وهذا يعني أيضاً تقلص المستشفيات الخاصة وإقفال بعضها وهجرة أطبائها وعمالها الصحيين.   

أما في موضوع السكن، فستؤدي النائبة الآتية إلى تأزم كبير بين المستأجرين وأصحاب المأجور الذين دأبوا على إجراء العقود بالدولار. لا  إحصاءات دقيقة عن عدد الشقق المستأجرة، لكنها مقدرة بعشرات الآلاف، ويتوقع أن تنفجر قضية السكن مع تلاشي قدرة المستأجرين على الدفع بالدولار أو قيمته السوقية. فشقة إيجارها 800 دولار أميركي في الشهر أصبحت بحسب سعر الصرف الموازي، 6 ملايين و400 ألف ليرة، أي نحو 9.5 مرات قيمة الحد الأدنى للأجور. 

لعل السقوط الكبير للبنان هو في نهاية النموذج الاقتصادي/ النقدي/ المالي الذي اعتمد منذ عقود بخاصة في الأعوام العشرة الأخيرة. لكنه في الوقت عينه، ولعل ذلك يوازي ما سبق بأهميته، هو انهداد مدرسة احتفت بسيطرة القطاع الخاص وفضلته في المجالات الصحية والتربوية والسكنية.  

كتب ميشال شيحا، الأب الفكري للجمهورية اللبنانية ومنظر الليبرالية الاقتصادية اللبنانية عام 1951 عن وضع لبنان ومستقبله في العالم، وصفاً لما افتى به عن دور الدولة الفتية آنذاك قائلاً: “في هذا البلد (أي لبنان)، لحسن الحظ، لا تتعرض قيمة الأموال والأراضي والمؤسسات لعيوب الدولة. الناس هنا لا يقرضون الدولة بسهولة لأنهم يخشون من تبذيرها وتعثرها. علاوة على ذلك، من الأفضل ألا تصبح الدولة، قدر الإمكان، مدينة. فالدولة تهدد المجتمع بالانهيار عندما تنفق الكثير. وعندما لا تستطيع الدولة تأمين التزاماتها تلجأ إلى تخفيض قيمة العملة وتقليص ميزانيتها، بغباء وعشوائية وبلا رحمة تدمر مدخرات مواطنيها والبنى الاجتماعية”. ميشال شيحا لم يدرِ أنّ وَرَثَته أنهوا “بغباء وعشوائية وبلا رحمة” جهد سنوات من تعب الناس وضيّقوا الخناق على “البلد” في ذكرى مئويته.