fbpx

الفاشية الأميركية في الأفلام وأغاني البوب الشهيرة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يعتقد البعض أن ثقافة البوب الهائلة، هي نوعٌ من القمع الفكري والاحتكار التعبيري اللذين تعتمدهما هوليوود وأمثالها، عبر فرض هيمنةٍ معينةٍ تبني ثقافة استهلاكٍ عنصريةٍ وذكوريةٍ ولا تسمح للصوت الآخر بالوصول.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بالتوازي مع التحركات الاحتجاجية التي انطلقت في الولايات المتحدة الأميركية بعد مقتل رجلٍ من أصولٍ أفريقيةٍ على يد الشرطة، تصاعدت أصواتٌ من الداخل والخارج الأميركي، تندد بالطبيعة الفاشية للنظام الأميركي، وتحاول نزع الغطاء عن السراب الديموقراطي والحريات المدنية الزائفة التي خدعتنا كلنا. لا شك في أن التاريخ الأميركي حافلٌ بالانتصارات الحقوقية والمدنية، والتي في كثيرٍ من الأوقات كانت بصيص أملٍ على منبر حقوق الإنسان. لكن في الوقت نفسه، تحتل الولايات المتحدة الأميركية مرتبةً عاليةً لجهة عدد المواطنين/ات المسجونين/ات، معدل جرائم القتل، التحريض العنصري، تفاوت نوعية المعيشة بين المواطنين/ات من العرق الأبيض والأعراق الأخرى. اللافت في الموضوع هو أن هذه الأصوات ليست بجديدةٍ، ولم تنتظر حدوث أي انتفاضةٍ لتتصاعد. فلقد كان هذا الجدال قائماً في دوائر المثقفين/ات في بدايات وأواسط القرن العشرين، وتحديداً في مجالات الفن والسينما والإعلانات.

في هذه الدوائر، قال مفكران بارزان من الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت (هوركهايمر وثيودور أدورنو) أن الولايات المتحدة الأميركية، وبعدما لجآ إليها هرباً من النازية، كانت دولةً فاشيةً مبطنةً. في حين برز فيه اليمين الفاشي وأحكم قبضته الحديدية على أوروبا، كانت الولايات المتحدة تتغنى بديموقراطيتها وبنظامها الداعم للحريات والفنون، ما شكل في ذلك الوقت، نقيضاً للشيوعية الستالينية. 

ثيودور أدورنو

حدثت نقلة حياتية واجتماعية في حياة هذين المفكرين من أصول يهودية، دفعتهما إلى التأقلم مع المجتمع الأميركي، وكانت بمثابة محفزٍ إجباري للاطلاع على الوجه الآخر للغرب الحديث. ففي حين كانت تساؤلاتهما في البدء عن سبب فشل المجتمع الغربي في اللحاق بقطار الثورة الذي قد ركبه الروس قبلهم، سرعان ما تغيرت منهجية التفكير إلى أسئلةٍ حول تركيبة المجتمع الغربي الحداثوي، وعلاقات القوة القائمة فيه ودور وسائل الإعلام والثقافة الشعبية، التي كانت في أوج تطورها التقني. لاحظ أدورنو وهوركهايمر أن عصر التنوير أزاح الأساطير والميثات وأحل مكانها المنطق والعقل، إلا أن ذلك لم يكن في أي لحظةٍ تحرراً للبشرية، إنما هو استبدالٌ للقيود؛ فما كان أسطورةً، تحول إلى عقلانيةٍ حداثويةٍ تسعى إلى السيطرة والهيمنة على الإنسان والطبيعة معاً. لذلك، إن فهم موقف هذين المفكرين يصبح أكثر وضوحاً عندما ننظر للوظيفة التي يؤديها كل من الثقافة والفن في المجتمع بالنسبة إليهما.

يعتقد أدورنو وهوركهايمر، أن الفن والثقافة، يشكلان الوجه البارز الذي من خلاله يمكننا النظر إلى العلاقات الاقتصادية والاجتماعية القائمة. فهما يشكلان تعبيراً حميماً وخاصاً عن رغبات الأفراد وتطلّعاتهم، والبعد الوحيد للتحرر من السيطرة التي تهدد الإنسان في جميع نواحي حياته. إضافة إلى ذلك، فقد اعتبرا أن الفن أداة انعتاق وهو نشاطٌ يمكن أن يعبر عن الحرية. هذا ما أشار إليه أدورنو في كتابه “النظرية الجمالية” عندما قال: “الفن يمثل ذلك الفكر المغاير نوعياً عما هو موجودٌ في الواقع، وأفق تحقيق عالمٍ إنساني أفضل تزول فيه تناقضات الواقع القائم.”

يرى أدورنو وهوركهايمر أن القوى الهائلة لثقافة البوب الأميركية، غدت نوعاً من التعدي على مساحات الناس التعبيرية.

لذلك، إن هذا الموقف، أي ارتباط مفهوم القوة بغايةٍ أساس وهي تحقيق السيطرة، ما كان يعبر عنه الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون بقوله “المعرفة قوة”؛ فهو ينظر إلى الطبيعة والإنسان والفن باعتبار كل عنصر مجالاً للتحكم من خلال التوظيف التقني والعلمي، وبهذا تنتفي علاقة الإنسان الأولية بالطبيعة أو الفن، لتحل محلها علاقةٌ نفعيةٌ استخداميةٌ وسائليةٌ وأداتيةٌ، حولت الطبيعة والجماليات إلى مواد قابلة للاستخدام والانتفاع.

ما يشكل الأهمية الكبرى هنا، هي كيفية تسرب هذه الرؤية إلى الفن وكيفية معالجة المفكرين للأمر. فعلى سبيل المثال، تتجلى هذه العلاقة في يومنا هذا بنمط إعادة إنتاج الأفكار وتكريس ثقافةٍ إنتاجيةٍ هائلةٍ ومتكررةٍ من أفلامٍ ومسلسلاتٍ متماثلةٍ، أفقدتنا الحس الإبداعي بسبب تشابهها. فكما السلعة التي تنتج بكمياتٍ هائلةٍ وبمساعدةٍ تكنولوجيةٍ، تفقد شيئاً فشيئاً اللمسة البشرية، كذلك تتحول أعمال الفن إلى أعمالٍ اغتربت عن صانعيها/ صانعاتها وعن هدفها الأولي الذي كان يعتبر إغناءً للتجربة البشرية. فنلاحظ أن شركات الإنتاج ومنصات البث، في عمليةٍ متواصلةٍ من إنتاج أجزاء جديدةٍ وإعادة إحياء أفلامٍ ومسلسلاتٍ مر عليها الزمن؛ أعمال مثل أفلام Marvel  وDC  وStar Wars، إضافة إلى مسلسلات الجريمة المشهورة وما إلى ذلك، تُنتج وتصنع بغزارةٍ بعد أن أثبتت نجاحها وتعلق الناس بها. هذه الإنتاجية المتكررة هي من ناحيةٍ تحويلٌ لمسار الفن إلى نفعي اقتصادي، ومن ناحيةٍ أخرى تضعنا أمام مشهدٍ ضيقٍ حيث يصبح التعبير الفني خاضعاً لقوانين التبادل التجاري، يذوب فيها شيئاً فشيئاً حتى تنحصر الأفق ويصبح التعبير والتحرر بواسطة الفن غير ممكنين، إذا لم يتصاحبا مع نجاحٍ تجاري وإقبالٍ هائل. من هنا، يرى أدورنو وهوركهايمر أن القوى الهائلة لثقافة البوب الأميركية، غدت نوعاً من التعدي على مساحات الناس التعبيرية. فهما لا ينتقدان الاستمتاع بالأغاني أو الأفلام المشهورة، بل كل ما في الأمر أن الجهة المنتجة لهذه الثقافة تسوق للفن لسببٍ واحدٍ ألا وهو الإنتاج الهائل والربح السريع. في منظومةٍ كهذه، تُصنع الأعمال الفنية لتباع وتُستهلك بأي طريقة. ولكيلا يُتهم بالنخبوية الفنية، ميز أدورنو الثقافة الشعبية التي هي وليدة شعبٍ أو ثقافةٍ ما وتحظى بالاهتمام والانتشار لارتباطها بهذا الشعب أو هذه الثقافة، عن ثقافة البوب التي تُصنع، كما ذكرنا سابقاً، لتُسوق وتباع وتحقق الأرباح فقط. 

انطلاقاً من هذه المفاهيم، اعتبر المفكران أن ثقافة البوب الهائلة، هي نوعٌ من القمع الفكري والاحتكار التعبيري اللذين تعتمدهما هوليوود وأمثالها، عبر فرض هيمنةٍ معينةٍ تبني ثقافة استهلاكٍ عنصريةٍ وذكوريةٍ ولا تسمح للصوت الآخر بالوصول، بسبب تفاوت القدرات المادية بين شركات إنتاجٍ ضخمةٍ وفنانين مستقلين. لذلك، رفض المفكران المساواة بين فكرة ثقافة البوب (أي الـpopula /الشائع) والديمقراطية، وإن مجرد الحق في الانتخاب لا يحمي من الهيمنة الممنهجة بطرقٍ ووسائل متنوعةٍ، والتي تشكل أساس المجتمع الأميركي. بالنسبة إليهم، الولايات المتحدة تعطي المواطنين/ات ضمانةً دستوريةً لحرية المواطنين/ات الأميركيين/ات، ولكنها في الوقت عينه تهدد الحرية الشخصية عبر استخدام الإعلام المرئي والمسموع وتقنيات صناعة الأفلام لفرض مُمَاثلةٍ شعبيةٍ في الأفكار والآراء. 

أغاني البوب وأفلام Avengers قد لا تؤذي أي أحدٍ، أو تسبب باعتقاله/ها لسنواتٍ من دون محاكمةٍ، ولكنها لا تساهم في بناء رأي عام نقدي أو نضوجٍ سياسي لدى الأفراد يساعدها في تخطي محنها. وأحياناً، تعمل على إخفاء حقيقة العالم الواقعي، وبالتالي تساهم في تضليل الناس. كما يعتبر البعض أن هذا نوعٌ آخر من الفاشية، يمكننا من فهم السياق الحالي للتحركات في أميركا والتي بدأت تتجلى فيها سِمات القمع الفعلي والجسدي للناس.