fbpx

سوريا حيث الانهيار الاقتصادي يقتل… لا “كوفيد-19”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سلطت أزمة “كوفيد-19” الضوء على مواطن الضعف الهيكلية الراسخة في الاقتصاد السوري وعصفت بما كان باقياً من قدرته على مجابهة الضغوط الجديدة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
  • هذا الموضوع تم اعداده بالتعاون مع Pulitzer Center

أصدر الرئيس السوري في 11 حزيران/ يونيو 2020 مرسوماً يقضي بإعفاء رئيس الوزراء عماد خميس من منصبه الذي شغله منذ عام 2016، وكلّف بدلاً منه حسين عرنوس بمهمات رئيس مجلس الوزراء إلى جانب حقيبة وزارة الموارد المائية. جاء القرار بإقالة خميس، بعدما شهدت الفترة الماضية تدهوراً سريعاً في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. ومن هذا المنطلق، يُمكن اعتباره الضحية السياسية الأولى في سوريا لأزمة “كوفيد-19”.

جاء قرار الإقالة على رغم أن عدد السوريين الذين ثبتت إصابتهم بفايروس “كورونا” لم يتجاوز 146 حالة فقط حتى 10 حزيران. بعد نحو ثلاثة أشهر على بداية تفشي الوباء، وفي حين اشتدّت في بادئ الأمر مخاوف من احتمال تسبب الجائحة في أضرار فادحة، يبدو أن “كوفيد-19” لا يزال تحت السيطرة إلى حد كبير.

لا شك في أن التقارير الواردة حول هذا الموضوع ناقصة وغير وافية، علاوةً على أن انخفاض أعداد الإصابات يُعزى في الأساس إلى إجراء عدد ضئيل للغاية من الاختبارات، إلا أن روايات الأطباء السوريون أكدت بالفعل انخفاض معدلات تفشي الوباء في مختلف أنحاء البلاد. فضلاً عن أن الوجود واسع النطاق للمنظمات الغربية والدولية، سواء في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة أو خارجها، يجعل من الصعب على السلطات المحلية إخفاء تفشي الفايروس في أي حال.

مأساة اجتماعية واقتصادية

العواقب الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على الفايروس كانت مأساوية بالفعل.

بدأت السلطات السورية اعتباراً من منتصف آذار/ مارس فرض إجراءات تقييدية مختلفة. فقد أرجأت الانتخابات البرلمانيّة التي كان من المقرر إجراؤها في نيسان/ أبريل الماضي، وقلصت عدد الموظّفين في الإدارات العامّة، وأغلقت المدارس والجامعات وأماكن العبادة وأماكن الترفيه والأعمال التجارية، وعلقت الرحلات الدوليّة وأغلقت المعابر البريّة مع لبنان والعراق والأردن. وزادت صرامة القيود المفروضة على الحركة تدريجاً. وحظرت أيضاً السفر بين المدن الكبيرة وضواحيها ومنعت التنقل بين المحافظات. وفي 25 آذار، فرضت حظر تجول يومي من السادسة مساءً حتى السادسة صباحاً.

كما هو متوقّع، كانت التداعيات الاقتصادية والاجتماعية هائلة. فقد أدت هذه الإجراءات إلى انخفاض كبير في النشاط التجاري، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة أسعار السلع الاستهلاكية، بينما أدى إغلاق الحدود الدولية إلى توقف المعاملات التجارية والمالية مع العالم الخارجي. فضلاً عن أن المزارعين لم يتمكنوا من بيع منتجاتهم في الأسواق، وتوقف إنتاج المصانع، وأغلقت الفنادق والمطاعم نشاطها بالكامل.

بحلول منتصف نيسان/ أبريل، ازداد وضوح آثار الأزمة. فقد كتب المهندس فارس الشهابي، عضو مجلس الشعب السوري ورئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، على صفحته على “فايسبوك”، منشوراً قال فيه، “نتمنى ألا تصل إجراءات الحظر والإغلاق بشرائح الدخل المحدود إلى الاختيار بين المخاطرة بالموت بالكورونا أو بالموت جوعاً…! وقتها ستخرج الأمور عن السيطرة…!”. في هذه الأثناء، قال كفاح قدور، أمين سر غرفة تجارة وصناعة طرطوس، إنه إذا استمرت القيود فإن ذلك قد يتسبب في انهيار وإفلاس شركات كثيرة.

نظراً إلى أن الحكومة لا تنشر سوى قدر محدود للغاية من البيانات، فلا يوجد حتى الآن تقييم دقيق للتأثير الاقتصادي والاجتماعي الناجم عن هذا الإغلاق. ولأن تدهور الأحوال الاقتصادية يُعزى إلى عوامل متعددة، من بينها الأزمة المصرفية اللبنانية، وتداعيات الدمار الشامل الذي شهده الاقتصاد، فمن الصعب أن نُحمل جائحة “كوفيد-19” خصوصاً مسؤولية تدهور مؤشرات اقتصادية واجتماعية محددة. ارتفاع الأسعار، وانخفاض قيمة العملة السورية في سوق الصرف الأجنبي، وتضاعف قيمة الدولار في السوق السوداء مرتين بين أوائل آذار وأوائل حزيران، أو على سبيل المثال، الانخفاض الحاد في عدد الحاويات الواردة عبر مرفأ اللاذقية، والذي يشير إلى تدني معدلات التجارة الخارجية، يرجع ذلك كلّه إلى مزيج من هذه العوامل، والتي تُعد جائحة “كوفيد-19” مجرد واحدة منها.

يُمكن أن يُعزى بعض هذه الصعوبات تحديداً إلى إجراءات الحظر. فعلى سبيل المثال، كانت التحويلات النقدية والزوار الأجانب، وبخاصة من لبنان وإيران، مصدرين مهمين للعملة الأجنبية. وأدت تدابير الإغلاق إلى وقف هذه الأنشطة، ما أفضى إلى نقص العملات الأجنبية وارتفاع قيمة الدولار.

تدابير محدودة للتخفيف من حدة الأزمة

أعلنت الحكومة عن إجراء بعض التدابير للتخفيف من حدة التأثيرات التي تفرضها الأزمة. فعلى سبيل المثال، زادت الحكومة سعة الإنترنت الشهرية بنسبة 50 في المئة لتسهيل العمل من المنزل، وأعلنت أنها ستُخصص 100 مليار ليرة سورية للمساعدة في دعم النشاط الاقتصادي، من دون أن توضح بالتحديد كيف تخطط لإنفاق هذه الأموال.

شملت التدابير الأخرى تأجيل سداد الشركات بعض الضرائب، وتخفيف متطلبات تمويل الواردات، وبدء ما أطلقت عليه الحكومة “الاستراتيجية الوطنية للاستجابة لحالات الطوارئ الاجتماعية”. تستلزم هذه الاستراتيجية دفع مبلغ إجمالي قدره 100 ألف ليرة سورية لمن فقدوا وظائفهم أثناء الوباء. وفي غضون أيام سجل نحو 200 ألف شخص أسماءهم، وفي منتصف أيار/ مايو، أعلنت الحكومة أنها ستبدأ في صرف الأموال إلى دفعة أولى تضم 20 ألف شخص. وفي منتصف نيسان، بدأت الحكومة تخفيف إجراءات البقاء في المنزل.

من المثير للاهتمام أن الحكومة السورية لم تتلق دعماً اقتصادياً ومالياً كافياً من حلفائها. صحيح أنه لم يكن من المنتظر أن تقدم إيران قدراً كبيراً من المساعدات، بسبب الوضع الاقتصادي المزري الذي تعاني منه البلاد، لكن حتى روسيا والصين لم تبديا سوى قليل من التضامن. فقد قدمت روسيا 50 من أجهزة التنفس الصناعي و10 آلاف أداة لإجراء التحليل الخاص بفايروس “كورونا” فحسب، في حين أرسلت الصين دفعتين من المساعدات الطبية.

حتى أن الولايات المتحدة قدمت مساعدات أكثر من ذلك. ففي 16 أيار، أعلنت عن تقديم إمدادات طبية وأدوية بقيمة 31 مليون دولار إلى دمشق، في حين خصص الاتحاد الأوروبي حزمة مساعدات كبيرة للغاية للاجئين في دول الجوار.

المصائب لا تأتي فرادى

لا تكمن خطورة أزمة “كوفيد-19” على الاقتصاد السوري في تأثيرها المباشر على الأنشطة التجارية فحسب، بل في حقيقة أن الوباء تفشى فيما تشهد البلاد عدداً كبيراً من الصعوبات والأزمات التي ساهمت بدرجة كبيرة في تقويض قدرة مؤسسات الدولة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه المواطنين، والتخفيف من حدة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي يعاني منها السكان.

من الصعب معرفة متى بدأت تحديداً دوامة الهبوط الأخيرة التي انزلق فيها الاقتصاد. هل كان ذلك في منتصف عام 2018 عندما أدرك عدد متزايد من السوريين أنه لن تحدث انتعاشة شاملة للاقتصاد في أيّ وقت قريب، أم كان ذلك في منتصف عام 2019 مع بداية ممارسة ضغوط على رامي مخلوف، رجل الأعمال الذي ظل مستثنى تماماً لفترة طويلة من قرارات السلطات التعسفية، التي كان يعتبرها قطاع الأعمال بمثابة تحذير مفاده أن لا أحد في مأمن وأنه من الأفضل نقل الأصول إلى خارج البلاد، طالما كان ذلك ممكناً، أو ربما كان ذلك عندما سن الرئيس الأميركي قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين في نهاية عام 2019. 

بدأ هذا الهبوط على الأرجح مع اندلاع أزمة القطاع المصرفي اللبناني في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، التي تسببت فجأة في منع سحب مبالغ كبيرة من الأموال السورية الموجودة في المصارف اللبنانية، وأنهت دور هذا البلد الصغير بصفته بوابة سوريا إلى العالم الخارجي في ما يخص المعاملات التجارية والمالية.

لذلك، شهدت الأوضاع الاقتصادية السورية تدهوراً سريعاً بالفعل في الوقت الذي انتشر فيه “كوفيد-19″، وعانت قوة السكان الشرائية من انخفاض سريع، وتضاعفت قيمة الدولار في السوق السوداء فعلياً (من 600 ليرة إلى 1200 ليرة)، بين تموز/ يوليو 2019 وآذار 2020.

جاءت جائحة “كوفيد-19” لتعصف بدرجة كبيرة بما كان باقياً من قدرة سوريا على مواجهة الضغوطات على الاقتصاد والميزانية الحكومية وسعر صرف العملة وأيضاً قدرة السكان على التحلي بالصبر. ففي غضون أيام من بداية حزيران، تخطى سعر صرف الدولار حاجز الألفي ليرة ثم حاجز 3 آلاف ليرة، متسبباً في حالة ذعر بالأسواق وحدوث نقص في أصناف كثيرة من المنتجات الغذائية والأدوية. وامتدت التحديات التي أسفر عنها الوباء لتصل إلى المشهد السياسي. ففي أوائل حزيران، نزل متظاهرون في مدينة السويداء الواقعة جنوب البلاد إلى الشوارع للاحتجاج على الأوضاع الاجتماعية القاسية وكذلك المناداة بسقوط النظام في مشهد يذكرنا بالأيام الأولى للثورة في آذار 2011.

تحديات هائلة

ما الذي سيحدث إذا واجهت سوريا موجة ثانية أشد فتكاً من الوباء؟ البلاد سجلت 23 حالة إيجابية جديدة بين 3 و10 حزيران، وهي واحدة من أعلى معدلات الإصابة الأسبوعية منذ بداية الأزمة. وحتى 12 حزيران، أضيفت 18 إصابة جديدة إلى القائمة. وعلى رغم أن هذه الأرقام لا تزال قليلة، فإنها تشكل زيادة متسارعة تلت قرار الحكومة تخفيف إجراءات الإغلاق سعياً منها إلى تعزيز النشاط الاقتصادي.

أشار تقرير واسع الانتشار أعدته كلية لندن للاقتصاد في آذار، أن عدد وحدات العناية المركزة المزودة بأجهزة تنفس صناعي، في جميع أنحاء سوريا سواء المناطق الخاضعة لسيطرة النظام أو التابعة للمعارضة، يبلغ 325 وحدة فقط، نصفها تقريباً في دمشق واللاذقية. وعلى رغم أن هذه الأرقام زادت بالتأكيد منذ ذلك التاريخ، فمن الواضح أن نظام الرعاية الصحية في سوريا غير مستعد لمواجهة العواقب المترتبة على انتشار واسع النطاق للوباء.

سلطت أزمة “كوفيد-19” الضوء على مواطن الضعف الهيكلية الراسخة في الاقتصاد السوري وعصفت بما كان باقياً من قدرته على مجابهة الضغوط الجديدة. وأظهرت أيضاً أن نظام الرعاية الصحية في البلاد ليس أفضل حالاً. أما في ما يتعلق بالسكان، فإن حقيقة أن بعضاً منهم تجرأ على النزول إلى الشوارع للاحتجاج على أوضاعهم، تعد دليلاً واضحاً على حالة الإرهاق والفقر التي وصلوا إليها.

في حال انتشار موجة ثانية أشد فتكاً من وباء “كوفيد-19” في سوريا، فإن العواقب الاقتصادية والاجتماعية قد تكون مُدمِرة، وستمثل آثارها السياسية تحدياً بالغاً للنظام السوري.