fbpx

“كورونا” يمنح الحكومة التونسية صلاحيات استثنائية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدو أن الآلة الحكومية تدور “بسلاسةٍ” يوماً تلو الآخر، مستفيدةً من التوقّف الجزئي لمجلس نوّاب الشعب أثناء الأزمة الصحية…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

إذ قرّر النوّاب إيقاف الاجتماعات المباشرة في اللجان والجلسات العامة، والتقليل من وتيرة أعمال التشريع والرقابة، والعمل من منازلهم. خفّف ذلك من الضغط السياسي الذي يُمارس على الفريق الحكومي، وتراجُع المشرّع إلى الصفوف الخلفية لخط المواجهة مع فايروس “كورونا”. قرّر مجلس نوّاب الشعب في جلسته العامة في 5 نيسان/ أبريل تفويض جزءٍ من سلطاته إلى رئيس الحكومة لمدّة شهرٍ واحد في المجالات المتعلّقة بمكافحة الوباء. أتاح ذلك التفويض لرئيس الحكومة صلاحيات استثنائية، وهو وضعٌ لم تشهده البلاد منذ قيام الثورة.

شهدت تونس في أواخر صيف 2019 وفاة شخصيّتين مهمّتين: رئيس الجمهورية بيجي قايد السبسي في 25 تموز/ يوليو، وزين العابدين بن علي في 19 أيلول/ سبتمبر. وقد ترك كل من هذين الرجلين أثراً في تاريخ الدولة المعاصر، كلٌّ على طريقته، وبوفاتهما تُطوى صفحتان مهمّتان من حقبة ما بعد الثورة.

صفحة جديدة في المقابل فتحت مع تشكيل حكومة لا تكون للمرة الأولى منذ عام 2011 حكومة “وحدة وطنية” كما كان الحال مع الحكومات السابقة. فعلى رغم نيلها ثقة مجلس النواب في شباط/ فبراير الماضي، إلا أن حكومة إلياس الفخفاخ تواجه معارضة برلمانية قد تضمّ ثلث النواب وهو أمرٌ معتاد في الأنظمة الديموقراطية، ولكنه غير معهود في تونس مع اعتياد الحكومات منذ عام 2011 كسب توافق يشمل معظم القوى البرلمانية. وهذا يحرج الحكومة الجديدة، مع عدم انتماء رئيسها للأغلبية البرلمانية، فيما يحظى بدعم أحزاب عدة قد لا تتفق معه سياسياً في جميع الملفات. 

وإذا كانت الانتخابات النيابية أظهرت نضوج الديموقراطية في تونس، فإن تشرذم البرلمان دفع البلاد إلى فراغ حكومي دام  أكثر من 6 أشهر. وخلال تلك الفترة، كلّف “حزب النهضة”، الحاصل على أكبر عدد من المقاعد في مجلس النوّاب، الحبيب الجملي بتشكيل أول حكومة، بموجب الإجراء المنصوص عليه في الدستور. وهي المهمة التي فشل فيها حين رفض مجلس النوّاب منحه الثقة بـ134 صوتاً معارضاً، و72 صوتاً مؤيداً، وامتناع ثلاثة أعضاء عن التصويت. 

وبذلك دخل رئيس الجمهورية قيس سعيد في سباقٍ مع الزمن؛ إذ تعيّن عليه أن يقوم “في مهلة عشرة أيام بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في مهلة أقصاها شهر، وهو الإنذار الدستوري الأخير، وينطوي على رهانٍ كبير، إذ ينصّ الدستور على أنه، في حال لم يمنح أعضاء مجلس نوّاب الشعب الثقة للحكومة للمرّة الثانية، يكون لرئيس الجمهورية الحقّ في حلّ مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخاباتٍ تشريعية جديدة.

فرض قيس سعيد، وهو لا يزال قليل الارتباط بالعادات والتقاليد الرئاسية إيقاعه، بأن طلب من جميع الأحزاب السياسية الممثّلة في البرلمان ترشيح أسماءٍ لتولّي رئاسة الحكومة. وخلافاً للمألوف، طالبهم بتقديم مقترحاتهم مكتوبة. وفي 16 كانون ثاني/ يناير، تلقّى الرئيس قائمة تضم اكثر من عشرة مرشّحين، وفي 20 كانون الثاني، استقرّ خيار سعيد على اسم إلياس الفخفاخ المقترَح من حزب “تحيا تونس” الذي يرأسه يوسف الشاهد، رئيس الحكومة السابقة.

ويعدّ اختيار إلياس الفخفاخ مفاجئاً لأكثر من سبب. فإضافة إلى كونه أحد منافسي قيس سعيد في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، كان الفخفاخ أحد المرشّحين الرئاسيّين الأقل شعبية إذا ما اعتمدنا على صحّة نتائج تلك الجولة. كما أنه لا ينتمي إلى أي حزبٍ سياسي ممثَّل في البرلمان، إذ كان مرشَّحاً في انتخابات الرئاسة عن حزب “التكتُّل”.

لم تكن المشاورات قائمة على برامج  بل على أشخاص، وهي ممارسةٌ أصبحت معتادة في تونس منذ عام 2011. إلا أن هذا لم يمنع الفخفاخ من تقديم موجزٍ لبرنامج عمل حكومته عشيّة جلسة التصويت البرلمانية على منحها الثقة. وهو يشبه إلى حدٍّ كبير برنامج رئيس الحكومة السابق لجهة تضمنه إصلاح الدولة واستكمال بناء اللامركزية لملاءمتها مع الدستور وإصلاح منظومات التربية والصحة والزراعة والطاقة والتكنولوجيا والاندماج في القارة الأفريقية، ما يوكِّد مرّةً أخرى التقارب السياسي بين الرجلين، ويفسّر الموافقة الضمنية التي أعطاها قيس سعيد لهذا التجديد الشكلي. استهجن نوّاب في البرلمان هذا التآزُر، ولكن في اللحظة الأخيرة، باركته “حركة النهضة” (الإسلامية) بعدما باتت مهدّدة بفقدان مكانتها كحزب أغلبيةٍ، إذا ما أقدم قيس سعيد على حلّ البرلمان في حال فشل النواب في التوافق حول الحكومة الجديدة.

هناك ديناميةٌ أخرى تثير الاهتمام في هذا المشهد السياسي الجديد، وهي تلك التي نراها بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نوّاب الشعب راشد الغنوشي. بوصفه رئيس “حركة النهضة”، يحمل هذا الأخير على عاتقه مهمّة الحفاظ على مصالح الحزب ومكانته السياسية، إلا أن فشل الحبيب الجملي في تشكيل الحكومة في مطلع العام وضعه في موقفٍ حرج، كرئيسٍ للحزب ورئيسٍ للبرلمان، لعجزه عن كسب تأييد الأغلبية وتمرير الحكومة التي اختار حزبه رئيسها.

واندلعت مواجهةٌ سياسية وإعلامية بين الرئيسين في كانون الأول/ ديسمبر 2019، حين أراد الغنوشي إنهاء المحادثات الخاصة بالحبيب الجملي التي دامت لشهرين حينما شدّد رئيس الجمهورية في غير مناسبة على ضرورة تشكيل الحكومة بشكلٍ عاجل، وهدّد صراحةً بحلّ المجلس إذا لم تتوافق الأغلبية.

يبدو أن ذلك الضغط المتبادل انقلب في النهاية لمصلحة قيس سعيد، حين اضطرّت “حركة النهضة” إلى التصويت لمصلحة الحكومة المقترَحة في 20 شباط. كان الحزب الإسلامي متمسّكاً بمنح حزب “قلب تونس”، ثالث كتلةٍ برلمانية، مجموعة من الحقائب، عملاً بما كان متّبعاً سابقاً في الحكومات الائتلافية. إلا أنه اضطر في النهاية إلى التنازل عن ذلك المطلب وعن ارتباطه المشروط بـ”قلب تونس”، بقبوله الانضمام وحيداً إلى الحكومة الجديدة.

فتحت هذه الحكومة المجال أمام شكوكٍ عدة حول قدرتها على جمع الأصوات الـ109 الضرورية لحصولها على الأغلبية، وتوقّع خبراء أن تمرّر كحكومة أقلية. ولكن في 20 شباط، حصلت الحكومة في جلسةٍ برلمانية امتدّت 7 ساعات على 129 صوتاً، مقابل 77 صوتاً معارضاً وامتناع عضوٍ عن التصويت. أتت تلك الأصوات من 5 كتلٍ برلمانية من أصل 8، وبضعة نوّاب مستقلّين. بالكاد يعطي هذا التقسيم المعارضة إمكانية استخدام قوّة الثلث المعطّل بـ73 نائباً، وهي القوّة التي تمكّنهم من ممارسة ضغطٍ كبير ككتلةٍ متجانسة.

لم تتولّ النساء في حكومة الفخفاخ سوى 6 حقائب وزارية من أصل 32 حقيبة؛ أي ما يعادل 18.75 في المئة، وهي نسبة ضعيفة مقارنةً بالحكومات السابقة، ولكن علينا أن نحتفي بتولّي ثريا جريبي وزارة العدل، لتكون بذلك أوّل امرأة تشغل هذا المنصب في تونس.

كما أن تنوّع الوزراء في الحكومة الجديدة أمرٌ يستحقّ الاهتمام؛ فلم يشغل من هؤلاء الوزراء مناصب حكومية من قبل سوى الثلث، وهو ما يجعلها بحقّ حكومةً بدماءٍ جديدة.

ما أن تولّى الفريق الجديد مقاليد الحكومة، حتى كانت عليه مواجهة تحدّياتٍ اقتصادية واجتماعية وبيئية وسياسية جمّة. إلا أن السياق سرعان ما ازداد تعقيداً بعد الهجمات التي وقعت في يوم 6 آذار/ مارس في تونس العاصمة بالقرب من السفارة الأميركية، ثم تفشّي وباء “كوفيد-19″، والذي يمثّل أكبر تحدٍّ للحكومة الوليدة. 

على الصعيد السياسي، يبدو مجلس نوّاب الشعب، والذي يمارس مهماته من بُعد منذ أكثر من شهرين، منقسماً أكثر من أي وقتٍ مضى، كما تتعالى أصوات أحزاب المعارضة التي تنادي بسحب الثقة من رئيس المجلس (وهو رئيس الحزب الحاصل على أكبر عددٍ من المقاعد، راشد الغنوشي)، ما يضعف الائتلاف الحكومي أكثر فأكثر.

من دون رابطٍ سياسي مباشر بين رئيسٍ منتخَب حديثاً وفريقٍ وزاري بدأ للتوّ عمله، كان يمكن أن يتأثّر التواصل بينهما بسهولة في ما يخصّ إدارة الأزمة الصحّية. لكن يبدو  أن الأمور سارت في الاتجاه الصحيح؛ إذ فرض رئيس الدولة حظر التجوال في أرجاء البلاد كافة في 17 آذار 2020، عملاً بالصلاحيّات التي تمنحها له المادة 80 من الدستور المتعلّقة بالاجراءات الاستثنائية. وفي اليوم التالي، اتّخذ رئيس الحكومة حزمة إجراءاتٍ صحّية وأمنية واقتصادية بموجب المادة 70 من الدستور.

وفي كل ظهورٍ إعلامي لهما، يحرص الرجلان على تنسيق رسائلهما وترتيب مداخلاتهما على هذا الأساس. في حوارٍ تلفزيوني أجري معه في 12 أيار/ مايو 2020، أجاب رئيس الحكومة عن السؤال الموجّه إليه حول علاقته بالرئيس قائلاً: “نحن نتقاسم القيم ذاتها، المشروع ذاته لتونس، الحس الاجتماعي ذاته، والإرادة من أجل التغيير ذاتها من دون ارتباط بأي لوبي. لقد أوصلته إلى الحكم ثقة الشعب وأنا مثله، هو اختارني. أدين بذلك له ولأكثر من 120 نائباً”. 

تلك الآلة الحكومية يبدو أنها تدور بسلاسةٍ يوماً تلو الآخر، مستفيدةً من التوقّف الجزئي لمجلس نوّاب الشعب أثناء الأزمة؛ حيث قرّر النوّاب إيقاف الاجتماعات المباشرة في اللجان والجلسات العامة، والتقليل من وتيرة أعمال التشريع والرقابة، والعمل من منازلهم. أسفر ذلك عن تخفيف الضغط السياسي الذي يُمارس على الفريق الحكومي، وتراجُع المشرّع إلى الصفوف الخلفية لخط المواجهة مع فيروس كورونا المستجدّ. حيث قرّر مجلس نوّاب الشعب في جلسته العامة المنعقدة في 5 نيسان/ أبريل تفويض جزءٍ من سلطاته إلى رئيس الحكومة لمدّة شهرٍ واحد في المجالات المتعلّقة بمكافحة الوباء. يتيح ذلك التفويض لرئيس الحكومة صلاحيات استثنائية، وهو وضعٌ لم تشهده البلاد منذ قيام الثورة.

من المتوقَّع أن تمتدّ التحدّيات الناجمة عن فايروس “كورونا” على المدى المتوسّط والبعيد، وستتجلّى في النواحي الاقتصادية والاجتماعية التي  على تونس مواجهتها، أسوة بالبلدان الأخرى. سيضع مراقبو الشأن السياسي التونسي ديناميّات السلطة تحت المجهر، ولن يتردّدوا في رصد قوّة التقارب بين رأسَي السلطة التنفيذية، أو على العكس، ضعفه، كما سيرصدون تحرُّكات رئيس البرلمان على الساحة السياسية، إضافة إلى تحرُّكات قادة كُتَل الأغلبية والمعارضة.

يبدو من التصريحاتٍ الإعلامية الأخيرة التي أدلى بها رئيس الوزراء أنه لا يزال واثقاً في قدرة فريقه على تخطّي الصعاب الناجمة عن الأزمة الصحية، وفي قدرته على الحفاظ على الروابط الاستراتيجية مع رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان بما يحفظ مصالح الجميع.