fbpx

لبنان : عن علي الذي انتحر على كرسي الرجل الذي يحمل اسمه

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حين لم ينفع الإحتجاج والصراخ وكل سبل المقاومة الأخرى، لم يتبق لعلي سوى جسده كوسيلة لإعادة تمثيل العنف القاتل الذي تمارسه المنظومة المافيوية التي تحكمنا بكل احزابها، و ليس آخرها سياسة الذل والتجويع الحاصلة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أمرّ بمكان انتحار علي الهقّ، ذلك المكان الأليف الذي أعرفه  جيداً، تلك العتبة التي خطوت فوقها آلاف المرات، المكان الفاصل  في شارع الحمرا ما بين مقهى الدانكن ومترو المدينة. أتسائل لم اختار علي تلك الزاوية على وجه التحديد؟ هل كان  له ذات الألفة مع المكان، أم  صدف أنه المكان الذي انتهت فيه كل محاولاته للحياة ونجحت محاولته الأخيرة للخلاص منها. 

ألتقي بالصدفة بـ(علي.ف)، أحد  العاملين في مترو ومسرح المدينة ، لم أره يوماً بمثل تلك الحالة، يجول هائماً في عتمة الطريق المنقطع عنه التيار الكهربائي، يصلني صوته في العتمة و كلانا ينظر إلى العتبة المقابلة، ننظر إليها بخوف وقلق كمن يخاف من الغواية. أسأله إذا كان يعرفه، يجيب بأنه لم يره من قبل ثم يتابع الحديث: “لقد جلس في مكاني على الكرسي الأبيض حيث اعتدت الجلوس، لف رأسه بقماشة  كي لا تتطاير الدماء ثم هوى إلى الأرض. “يتابع علي: “ركضت حينها لكن لم أشأ النظر إلى وجهه فكان واضحاً أن تلك كانت رغبته، ألا يراه أحد.” 

يا لها من مصادفة غريبة، أن يختار علي الهق أن ينتحر من على كرسي الرجل الذي يحمل الإسم ذاته، بدون علم منه. أهو تبادل أماكن أو تبادل حيوات! المصادفة الأخرى أن يشابه اسمه طبعاً اسم علي شعيب، الذي رافق طيفه وسيرته  ثورة 17 تشرين منذ بداياتها. 

 بخلاف  تلك المصادفات التي قد تكون قدرية، لم يترك لنا علي الهق مجالاً للشك في أي تفصيل آخر فقد كان همه، وفق كل الدلائل التي خلفها ورائه، أن يُفهَم انتحاره على ما هو عليه  فعلاً، فلم يكن صرخة اخيرة  للإستغاثة بل كان انتحاره هو الصرخة المجردة، صرخة مدوية في وجه قوى فاسدة لا يردعها شيء. فحين لم ينفع الإحتجاج والصراخ وكل سبل المقاومة الأخرى، لم يتبق لعلي سوى جسده كوسيلة لإعادة تمثيل العنف القاتل الذي تمارسه المنظومة المافيوية التي تحكمنا بكل احزابها، و ليس آخرها سياسة الذل والتجويع الحاصلة. 

صرخ علي “يعيش لبنان حراً مستقلاً” وأطلق تلك الرصاصة الأخيرة وقضى. ليس من معنى آخر لفعله سوى التضحية بالنفس، فهو اختار “الإستشهاد”  بكامل إرادته وقراره الحرّ. ترك سجلّه العدلي النظيف وكتب “أنا مش كافر”. وكأنه تنبأ مسبقاً بكلّ ما سيحاك ضده لتشويه سيرته. ترك لنا عمداً ربما أن نكمل السطر التالي. نخمن أنه “بس الجوع كافر” طبقاً لأغنية زياد الرحباني الشهيرة، لكنها قد تكون أيضاً رسالة موجهة لكل من سيسعون لتكفيره من محتكري الشهادة، وممن لا يتعرفون على “الذلة” لمّا أدركتنا فعلاً. 

لسخرية القدر غالباً ما يكون المنتحرون أشدّنا إيماناً بالحياة، فيستحيل عليهم العيش ضمن ما هو شبه حياة، شبه وطن، شبه حرية. 

يبدو لي، وللغرابة، أن في انتحار علي فعلٌ من الإيمان المحض، و حبٌ لهذا الوطن  لشدته ينكأ جراحنا. كان يدرك أن تلك الرصاصة هي طلقة الإيمان الأخيرة وأن موته هو الصرخة الأخيرة، فإما يكون لها الأثر المدوي أو تموت معه وما تبقى له من إيمان، انتحر ربما كي لا يخسره. ولسخرية القدر غالباً ما يكون المنتحرون أشدّنا إيماناً بالحياة، فيستحيل عليهم العيش ضمن ما هو شبه حياة، شبه وطن، شبه حرية. 

لا أعرفُ  شيئاً عن عمل علي أو حياته، لكنني أحس أنه شاعر على نحو ما، ولا أقصد ذلك من باب مديح الشعراء. بل هو الشاعر الحقيقي الخام، ليس بما كتب، بل بذلك الإيمان المطلق الذي يحمله في داخله والذي دفع حياته ثمناً له، ففي انتحاره موقف بطولي كأنه من خارج هذا الواقع وهذا الزمن.

علي الهق يعيدنا إلى علي شعيب بلا شك، وإلى سير بطولات باتت منسية في هذا الواقع البائس الذي يخاصمنا مع اوطاننا، ويلفظنا خارجها . صحيح أن علي الهق لم يقتل على أرض معركة، بل في مكان قد يبدو أقل مجداً بكثير، في زاوية معتمة، كتلك المحاصرين فيها جميعاً، و في ذلك لم يتبادل المكان مع علي الآخر فحسب، بل معنا جميعا.  

لا أستطيع أن أنسى ما قاله لي (علي.ف) عن أن علي الهق  لفّ وجهه بقماشة  كي لا تتطاير الدماء وتلوث المكان. أيمكن للرجل و في لحظات حياته الأخيرة أن يفكر بتفصيل كهذا؟ أن يشغل باله تعب الذين سينظفون دماءه النازفة من بعده؟ يصعب تصديق ذلك لكن كل ما في تفاصيل انتحاره يشير إلى تجرد تام من الذاتية، فهو فعل من المقاومة البحتة. حتى عبر تغطية وجهه، كأنما يقول لنا: “أنا الجندي المجهول فلا تبكوني بل استعيدوا هذا الوطن من خاطفيه ومدمريه وسارقيه”. 

موجع إيمانك ياعلي، موجع ايمانك بهذا الوطن، وموجع إيمانك بنا فنحن لا ندري إن كان يستحق أو كنا نستحق. لكن تلك الرصاصة الأخيرة التي أطلقتها جاثمة على قلوبنا إلى أن ترتد صوب قتلتك، إلى أن يسقطوا عن كراسيهم واحداً تلو الآخر، ونخرج من تلك الزاوية المعتمة المحاصرين فيها جميعاً التي باتت هي الوطن.