fbpx

لبنان في ظل حكومة الخراب العظيم…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

باتت الحكومة اليوم خالية الوفاض، ولا تملك أي مسألة يمكن الرهان عليها في وجه الأزمة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يمكن وصف المشهد الاقتصادي الذي وصلت إليه البلاد بغير عبارة “الخراب العظيم”. جولة ميدانيّة قصيرة في بعض متاجر العاصمة تكفي لرؤية ظواهر لا يمكن أن يراها المرء إلا في حالات النكبات الكبرى: نصف الرفوف فارغة، والنصف الآخر يملؤه ما يقل الطلب عليه. بإمكانك أن تجد على الرف المخصص للكاتشاب مثلاً، بعض زجاجات الكاتشاب الحار المتبقية، من دون أن تجد زجاجة الكاتشاب العاديّة التي تريدها، والتي يطلبها عادةً معظم الزبائن. في رف المايونيز، لا تجد سوى القليل من زجاجات المايونيز “الدايت”، فيما يعلمك القيّمون على المتجر أن المايونيز العادي “مقطوع” لديهم منذ أكثر من يومين. تنشر كبرى المتاجر في العاصمة لافتات تذكّرك بأن شراء أكثر من قطعة من هذه السلعة أو تلك ممنوع، وهو تقنين يذكّرك سريعاً بالكابيتال كونترول الذي فرضته المصارف في بداية الأزمة. الأسعار اليوم ضعف ما كانت عليه منذ شهر، وبعض السلع كاللحوم مثلاً بات فوق قدرات معظم الأسر، وهو ما دفع ببعض المتاجر إلى الاستغناء عن عرضها في البرادات. 

ضغط نقدي وإفلاس سياسي

صارت البلاد في قلب النكبة الاقتصاديّة إذاً. الاقتصاديون يملكون بعض التفسيرات: نحتاج لما يزيد عن 600 مليون دولار شهريّاً للاستيراد، فيما لا يزيد المتوفّر عن نحو 150 مليون دولار فقط، بحسب أرقام الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمّود. شح الدولار إذاً يدفع بسعر الصرف صعوداً، ويدفع المستوردين إلى تقنين عمليّات الاستيراد، ويدفع المجتمع بأسره إلى مشهد كارثي وحزين. باختصار، أصبحت المشكلة أكبر من مشكلة إفلاس قطاع مالي وخسائر في الميزانيّات المصرفيّة، كما أصبحت أبعد من مشكلة حقوق المودعين في المصارف، تحوّلت الأزمة الماليّة والاقتصاديّة إلى مأساة اجتماعيّة لا يمكن إخفاؤها.

في قلب العاصفة، تبدو الحكومة مفلسة تماماً. رئيسها يكتفي بتقاذف المسؤوليّات مع حاكم المصرف المركزي، ويكرر التساؤل عن سبب عدم مبادرته إلى ضخ الدولار للسيطرة على سعر الصرف، فيما يجمع الخبراء على أن المطلوب في هذه المرحلة تقنين استخدام الدولار، لا ضخّه. يصعّد الوزراء الحملة لدفع المصرف المركزي إلى ضخ الدولار عبر شركات الصيرفة، فتتحوّل الخطّة إلى مشاهد هزليّة على شكل طوابير من المواطنين الذين يتدافعون لشراء الدولار بالسعر المدعوم لبيعه لاحقاً في السوق السوداء. تفلس الحكومة أكثر، فيرفع رئيسها نبرته متحدّثاً عن مؤامرات وحصار ورسائل مشفّرة وتدخّلات دبلوماسيّة، ولعبة دولار مكشوفة ومعروفة. كل شيء يدل على أن الحكومة لم تعد تملك ما تراهن عليه فعلاً، فيما يكتفي رئيسها اليوم باستعراضات إعلاميّة، لملء المشهد والإيحاء بوجود خطّة ما، من قبيل الاجتماع بوفود صينيّة للتباحث بخطط غير واقعيّة ولا تتناسب مع طبيعة الانهيار الحاصل. 

ما حصل لم يكن نتيجة مؤامرة أو حصار فعلاً، على ما يؤكّد جميع العارفين بتطوّرات الأزمة الماليّة اللبنانيّة، بل مجرّد نتيجة طبيعية لطريقة تعامل السلطة مع هذه الأزمة، ولنوع الخيارات التي اتّخذتها منذ نيلها الثقة في المجلس النيابي، إضافة إلى الغياب الواضح لقدرتها على قيادة المرحلة.

مسار الفشل

حين جاءت الحكومة في البداية، كانت تستطيع السير بخيارات كثيرة للتعامل مع الأزمة القائمة، كما كانت تستطيع المزاوجة بين مسارات عدة للمعالجة، كي لا تحصر نفسها بعدد محدود من الرهانات. لكن كان من الواضح أنّ ثمّة مجموعة من الاستشاريين الذين اندفعوا منذ البداية للرهان على مسألة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وذهبوا بعيداً في حصر الخيارات الحكوميّة في مسألة الدخول ببرنامج قرض مع الصندوق. أغلب الظن، كان الرهان على الصندوق منطلقاً من مسألتين: قدرة الصندوق على فرض الإصلاحات الاقتصاديّة المطلوبة تحت ضغط الأزمة الماليّة، وقدرة الالتزام ببرنامج مع الصندوق على توفير صدقيّة لمساعي الحكومة للحصول على دعم من أطراف دوليّة أخرى. مع العلم أن الكثير من الجهات، كفرنسا والاتحاد الأوروبي، ربطت توفير القروض والمنح للبنان بدخوله في برنامج مع صندوق النقد. في كل الحالات، كان من الواضح أن مجموعة الاستشاريين هذه تجاهلت إلى حد بعيد تأثير أصحاب المصالح الماليّة والسياسيّة في الحكومة التي يفترض أن تنطلق نحو المفاوضات مع الصندوق، وهو ما ظهر بوضوح في مراحل لاحقاً. 

في أي حال، كان الرهان على الصندوق هو ما أفضى تحديداً إلى اختيار “لازارد” استشارياً للحكومة في صوغ خطّتها الماليّة، التي أرادت منها الحكومة أن تكون قاعدة للتفاوض مع صندوق النقد. واختيار “لازارد” لم يكن إلا لخبرتها الطويلة في التعامل مع هذا النوع من الأزمات، وفي إتقانها استخدام لغة الصندوق ومعرفتها بأولويّته. 

ولذلك، كانت خطّة التعافي المالي الشهيرة التي صاغتها الحكومة منسجمة مع هذا الهدف، إذ كان عيبها الأساسي تغاضيها عن التعمّق في الحلول المطلوبة لمعالجة مكامن الخلل الأساسيّة في بنية الاقتصاد اللبناني، وهو ما يمكن تفسيره بكون الحكومة لم تكن تستهدف سوى الحصول على دعم الصندوق على أساس هذه الخطّة. لكن من ناحية المعالجات الماليّة المطلوبة، تمكّنت الخطّة من تحديد حجم الخسائر المتركمة في القطاع المالي بشكل جريء وصريح، كما قامت بتحديد المعالجات والخيارات القابلة لامتصاص هذه الخسائر لاحقاً. عمليّاً، ذلك كله لم سوى نتيجة لعمل شركة “لازارد”، التي كانت تعمل أساساً أن صندوق النقد لن يوافق على أي خطّة لا تضمّن التحديد الصريح لحجم الخسائر التي تراكمت في ميزانيّات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة. مع العلم أن الخطّة أثارت منذ البداية حفيظة المصارف وحاكم مصرف لبنان، لجرأتها في كشف حجم الخسائر الموجودة في الميزانيّات، وذهابها باتجاه مقاربات لا تعجبهما من التعامل مع جزء من الخسائر عبر الاقتصاص من رساميلهما.

في قلب العاصفة، تبدو الحكومة مفلسة تماماً.

بعد نشر الخطة، وانطلاق المفاوضات مع الصندوق، سرعان ما عرف أصحاب المصالح من مصرفيين وسياسيين أن هناك ضرورة للتحرّك لحماية مصالحهم في النظام المالي، قبل تحوّل هذه الخطّة أمراً واقعاً. سرعان ما أعلن حاكم مصرف لبنان أمام وفد الصندوق اختلافه مع الحكومة في تقدير حجم الخسائر، ثم انطلق مسار مستقل في مجلس النواب من خلال لجنة تقصّي الحقائق، التي أطاحت بأرقام الحكومة وخطّتها الماليّة، وتبنّت معظم المقاربات التي ذهبت إليها جمعيّة المصارف ومصرف لبنان. عمليّاً، حظي عمل هذه اللجنة تحديداً بإجماع مختلف الكتل النيابيّة، والرؤساء الثلاثة، وهو ما عنى عمليّاً أن جميع المقاربات التي تبنّتها خطة الحكومة، والتي كان يمكن الرهان عليها لإنجاح مسار التفاوض مع صندوق النقد، باتت من الماضي. 

انهيار الرهان الأخير

بعد هذه التطوّرات، بات واضحاً لوفد صندوق النقد أن القوى السياسيّة الأساسية في البلاد غير مستعدّة للدخول في مسار يكشف حجم الخسائر ويعالجها، كما بات واضحاً بالنسبة إليهم أن خطة الحكومة لا تحظى بدعم المجلس النيابي، الذي يعود له أمر إقرار عشرات القوانين المطلوبة لتنفيذها. باختصار، أدرك وفد الصندوق أن المفاوضات باتت مضيعة للوقت، وهذا تحديداً ما قاله رئيس وفد الصندوق للوفد اللبناني في الاجتماع الأخير بين الطرفين، وهذا ما ألمحت إليه مديرة الصندوق حين أعلنت أن لا سبب يدعو إلى التفاؤل بتقدّم المفاوضات بين الصندوق والدولة اللبنانيّة. ولذلك، دخل مسار التفاوض مع الصندوق حالة من الموت السريري، بانتظار قيام الحكومة بإعادة ترتيب أوراقها مع المجلس النيابي والكتل النيابيّة التي دعم مسار عمل لجنة تقصّي الحقائق. عمليّاً، لم يكن انهيار المفاوضات نتيجة الإنقلاب على خطّة الحكومة فقط، بل نتيجة تراكم الكثير من الإشارات التي أوحت بعدم وجود الجديّة في تطبيق أي من الإصلاحات التي يتحدّث عنها الوفد اللبناني، فيما مثّل الانقلاب النيابي على خطّة الحكومة القشة التي قسمت ظهر البعير. 

عمليّاً، باتت الحكومة اليوم خالية الوفاض، ولا تملك أي مسألة يمكن الرهان عليها في وجه الأزمة. مع العلم أن استقالات حصلت، كاستقالة مدير عام الماليّة آلان بيفاني ومستشار وزير الماليّة وعضو الوفد اللبناني المفاوض هنري شاوول، توحي بأن ثمّة تقهقراً واضحاً للفريق الذي عمل على خطّة الحكومة، التي مثّلت آخر ما يمكن البناء عليه للتفاوض مع الصندوق. وهكذا، تبدو الصورة سوداويّة جدّاً، مع إدراك الجميع أن تعثّر التفاوض مع صندوق النقد سيعني انسداد أفق أي جهد للحصول على دعم مالي من أطراف دوليّة، خصوصاً أن الجهات الدوليّة التي عرضت القروض والمنح في مؤتمر سيدر باتت تربط دعمها اليوم بإمكان نجاح المفاوضات مع وفد الصندوق.

انقلاب الأدوار

في العادة، يمثّل صندوق النقد الكابوس الحقيقي بالنسبة إلى محدودي الدخل في الدول التي يتدخّل فيها، لا سيما نظراً إلى نوعيّة الشروط التي يفرضها، والوصفات المعلّبة التي يلجأ إليها تقنيو الصندوق عند التعامل مع الأزمات الماليّة والنقديّة. في الحالة اللبنانيّة، ثمّة مشهد سريالي تكوّن تدريجاً، فأصبح انهيار المفاوضات مع الصندوق خبراً مقلقاً للغالبيّة الساحقة من اللبنانيّة، بالنظر إلى عدم عمل الحكومة على تحضير أي خيارات بديلة يمكن اللجوء إليها اليوم. أما الأكثر غرابة، فهو أن تكون نظرة الصندوق مع كل مساوئها، أقرب إلى مصالح اللبنانيين وهواجسهم من البديل المطروح أمامهم من الكتل المسيطرة على المجلس النيابي.

 بات واضحاً لوفد صندوق النقد أن القوى السياسيّة الأساسية في البلاد غير مستعدّة للدخول في مسار يكشف حجم الخسائر ويعالجها.

فما تطرحه هذه الكتل، والذي تسير على هديه الحكومة اليوم بعد سقوط خطّتها، ليس سوى إبقاء الوضع الراهن من خلال تجاهل الخسائر الفعليّة، والتعامل معها وفقاً للطريقة التي ينتهجها مصرف لبنان، أي طباعة النقد لدفع الودائع الدولاريّة بالليرة اللبنانية، وطباعة النقد لتمويل إقراض مصرف لبنان للحكومة. ومع هذا النقد كلّه الذي يُضَخّ بالليرة في السوق اليوم، لا يمكن انتظار سوى المزيد من تدهور سعر الصرف، والمزيد من المآسي الناتجة عن الأزمة النقديّة التي تضرب البلاد. في أي حال، ما يحصل لا يبشّر بالخير أبداً. 

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.