جيمس أوبراين وإيليا لوزوفسكي – مؤسسة “مكافحة الجريمة المنظمة والفساد” occrp
واجهت عائلة الصحافية المقتولة الكثير من المضايقات ومقاومة الحكومة والثقافة الراسخة للإفلات من العقاب؛ تقول أختها في هذا السياق: “لا وقت للحزن”.
كل مأساة وطنية، هي أيضاً مأساة إنسانية.
في الذكرى الخامسة لحادثة القتل الوحشية التي تعرضت لها دافني كاروانا غاليزيا، يجدر بنا أن نتذكر أنه قبل أن يبكي الآلاف من الصحافيين الاستقصائيين في جميع أنحاء مالطا، فإن أول من فُجع بها هم أفراد عائلتها.
تتذكر أختها كورين فيلا قائلة: “كانت مفعمة بالحياة؛ لن يدرك الناس مدى إبداعها، ومدى ضخامة حياتها في ما وراء مدونتها… لقد أنتجت مجلة رائعة غنية بالأشياء الجميلة والديكورات الداخلية البديعة والأطعمة الرائعة؛ وغير ذلك”.
ويتذكر ابنها ماثيو شغفها بعلم الآثار، إذ يقول: “كانت تلك أول درجة جامعية حصلت عليها وهي في الثلاثينات من عمرها؛ كنت أنا وإخوتي نتبعها إلى محاضراتها مثل ثلاث بطات صغيرة”.
“عندما كبرت قليلاً، كنت أذهب للتنقيب معها. كان كل واحد منا يشعر وكأنه يخوض مغامرة كبيرة. كان الكشف عن شيء لم يره أحد منذ آلاف السنين يمنحنا إثارة كبيرة، ولكن الأفضل من ذلك هو سماع شرح والدتي لما كان عليه، وكيف وصل إلى هناك”.
في وقت لاحق، حولت شغفها بالكشف عن الأحداث التاريخية المتعاقبة إلى مجال آخر؛ ألا وهو الصحافة الاستقصائية. عملت دافني مراسلة وكاتبة عمود لعقود، لكن مدونتها الاستقصائية “Running Commentary”، هي التي بنت شهرتها.
تروي المدونة قصصاً عن الجريمة والفساد على مستوى عالٍ، تتخللها سخرية وانتقادات لاذعة، وقيل إن قراءها كانوا أكثر من قراء أي صحيفة في البلاد. ويذكر كثر من المالطيين أن مطالعة المدونة كانت أول شيء يفعلونه كل يوم.
لكن قبل خمس سنوات، بعد ظهر يوم الاثنين، خمد كل ذلك؛ الصحافية البالغة من العمر 53 سنة تأخرت عن موعدها في البنك. وكانت قد خرجت للتوِّ من المنزل، ووعدت ماثيو بأنها ستعود في غضون ساعتين.
يتذكر ذلك قائلاً: “ضغطت على زر التشغيل على الكمبيوتر المحمول لمواصلة الموسيقى التي كنت أستمع إليها؛ وبعد ذلك سمعت دوي انفجار، وعرفت على الفور أنها كانت سيارة مفخخة”.
المشهد الذي وجده في الخارج كان مروعًا؛ سيارة والدته مشتعلة، وأشلاء جسدها متناثرة على الأرض.
قال ماثيو في وقت لاحق: “عندما حُمت حول السيارة، قلت في نفسي على الفور؛ هؤلاء الأوغاد؛ من المؤكد أنها قُتلت بسبب شيء كتبته عنهم”.
هذا هو المكان الذي تتحول فيه مأساة الأسرة إلى مأساة وطنية. لم تكن كاروانا غاليزيا مجرد صحافية استقصائية؛ ففي مالطا، كانت هي نموذج ومثال للصحافية الاستقصائية.
باستمرارها في النشر على Running Commentary، والتوقيع باسمها، وهو ممارسة استثنائية وجريئة في مالطا، وضعت كاروانا غاليزيا نفسها نداً لنظام راسخ من السلطة والامتيازات الراسخة. لقد حاربت طوال حياتها، وتعرضت للمضايقات، ومحاولات إحراق منزلها عمداً، وقتل كلابها، وعشرات من دعاوى التشهير.
بعض من هذه المضايقات- بما في ذلك تلك الدعوى التي رفعها رئيس الوزراء السابق جوزيف مسقط ووزير السياحة السابق كونراد ميزي- لا تزال مستمرة حتى اليوم. وعندما يُسمع اسمها في المحكمة، يجب على فرد مكلوم من عائلتها الإجابة.
يشير أنصار كاروانا غاليزيا إلى هذه الدعاوى القضائية المستمرة على أنها علامة على مدى عمق الكراهية التي تتعرض لها- حتى بعد وفاتها- من قِبل من كشفت فسادهم في أعمالها الصحافية.
ليس ذلك بمستغرب؛ إذ استهدفت منشوراتها الضخمة في كثير من الأحيان مسقط ومسؤولين كبار آخرين، متهمة إياهم بالتلاعب والفساد وموجهة سهام نقدها إلى ثقافة الإفلات من العقاب على أعلى المستويات في الدولة المالطية. من بين الموضوعات التي غطتها في سنواتها الأخيرة، كانت خطة وضعتها حكومة مسقط لبيع جوازات سفر مالطية للأثرياء الأجانب، والشركات الخارجية المشبوهة التي أنشأها كبار أعضاء الحكومة، وشائعات تردد وزير من الوزراء على بيت دعارة ألماني.
وعلى رغم أنها لم تكن قادرة على إنهاء كل هذه التقارير قبل وفاتها، فقد استمر عملها على يد مجموعة من وسائل الإعلام، بما في ذلك مؤسسة “مكافحة الجريمة المنظمة والفساد”، بقيادة مجموعة الصحافة الفرنسية Forbidden Stories.
مما لا يثير الدهشة، أن متابعة خيوط أدلتها قد أدت إلى العديد من التحقيقات المدوية؛ فقد أجري التحقيق في مخطط جواز السفر الذي حققت فيه بتهمة تلقي رشاوي؛ كما اتُهم رئيس أركان وزارة مسقط بغسيل الأموال والاحتيال والفساد في القضية التي كتبت تقريراً عنها؛ والبنك الذي أجرت حوله تحقيقاتها تبين أن بنات الديكتاتور الآذربيجاني إلهام علييف قد استخدمنه بالفعل لغسيل الأموال.
إضافة إلى ذلك، قالت كاروانا غاليزيا إن كبار المسؤولين لجأوا إلى شركة إماراتية تُدعى 17 Black، من أجل نقل أموال غير مشروعة، برغم أنها لم تكن قادرة على اكتشاف التفاصيل أو معرفة من يقف وراء هذه العملية.
اتضح لاحقاً أن الشركة مملوكة ليورجن فينيش، وهو رجل أعمال ذو علاقات جيدة، وفاز بحصة في امتياز بناء محطة كهرباء رئيسية جديدة. كشفت رسائل البريد الإلكتروني المسربة أنه قد وقع الاختيار على 17 Black، لإرسال الأموال إلى الشركات الخارجية في بنما التابعة لرئيس أركان وزارة مسقط – كيث شمبري – ووزير الطاقة آنذاك، كونراد ميزي، الذي كان له دور فعال في الترويج لامتياز محطة الطاقة.
في مواجهة هذه المصالح الراسخة والقوية، تطلب السعي لتحقيق العدالة من جراء مقتل كاروانا غاليزيا- والتعامل مع الفساد الذي كرست حياتها لفضحه- معركة طويلة وصعبة.
تحققت أهم النجاحات على مدى السنوات الخمس الماضية بفضل عوامل عدة؛ الحملات المستمرة التي شنتها منظمات حرية الصحافة، ونشاط المواطنين المالطيين الغاضبين، واهتمام كبار القادة الأوروبيين.
ولكن في قلب كل ذلك كانت عائلة كاروانا غاليزيا. بمعنى ما، تمثلت مساهمتهم في تحويل مأساتهم الشخصية إلى مأساة عامة، من حزن خاص إلى قضية مدنية، وبذلك تمكنوا من تحقيق بعض الانتصارات المهمة.
منذ البداية، ركزت الأسرة على حمل الحكومة على إجراء تحقيق عام مستقل في مقتلها، وفي ثقافة الإفلات من العقاب التي جعلت ذلك ممكناً.
كانت الرياح المعاكسة قوية؛ ففي المشهد السياسي المستقطب في مالطا، كان حزب العمال الحاكم وأنصاره يقاومون أي محاولات للمساءلة. حتى النصب التذكاري الذي أقامه المؤيدون أمام محكمة العدل كان موظفو الحكومة يفككونه كل ليلة.
ولذا، قادت مؤسسة “دافني كاروانا غاليزيا”، التي أسستها عائلة الصحافية بعد مقتلها، حملة شرسة شملت البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية ومجلس أوروبا ومؤسسات دولية أخرى.
وانضمت إلى المعركة منظمات حرية الصحافة مثل “مراسلون بلا حدود”، و”المادة 19″، و”لجنة حماية الصحفيين”. وفي وطنها في مالطا، ضغطت منظمات المجتمع المدني الجديدة من أجل محاسبة المسؤولين.
تُحيِي منظمات حرية التعبير ومكافحة الفساد ذكرى دافني كاروانا غاليزيا باحتجاج أمام سفارة مالطا في لندن، مطالبة السلطات في مالطا بتقديم قاتليها إلى العدالة.
تحقيق مستقل
وأخيراً، في أيلول/ سبتمبر 2019، أعلنت الحكومة المالطية، رداً على الضغوط التي واجهتها على جبهات متعددة، عن إجراء تحقيق مستقل في مقتل كاروانا غاليزيا. لقد استغرق الأمر حملات مستمرة وفترة طويلة من المفاوضات، وصفتها عائلتها بأنها “واحدة من أكثر المعارك إيلاماً على الإطلاق”، قبل تعديل معايير ذلك التحقيق ليصبح مستقلاً وعلنياً وشاملاً بشكل كامل.
حتى في ذلك الحين، لم تكن المعركة قد انتهت بعد. فبالرغم من أن التحقيق تلقى شهادات مكتوبة وشفوية مما يقرب من 150 شاهداً، من بينهم أفراد الأسرة والصحفيين والمسؤولين ومنظمات المجتمع المدني، فقد عانى التحقيق من قلة عدد الموظفين وقلة الموارد: لم يكن هناك محامون أو محققون، ولم يتم بثه على الهواء مباشرة، ولم يكن هناك حتى موقع على شبكة الإنترنت لتسجيل معلومات التحقيق. واضطرت الأسرة وداعموها إلى الاستمرار في حربهم، في مواجهة حملة التشهير التي تقودها وسائل الإعلام الموالية للحكومة، والمضايقات على وسائل التواصل الاجتماعي من قِبل المتصيدين المسيئين، لضمان سير التحقيقات بشكل مستقل وعدم إنهائها قبل اكتمالها.
على رغم هذه التحديات، شكَّل التحقيق مرحلة فارقة. وبفضل قيادة أحد القضاة العاملين وقاضيين متقاعدين، ومع التمتع بالسلطة اللازمة لإرغام الشهود على الإدلاء بشهاداتهم، تصدرت القضية والقضايا الأكبر الكامنة وراءها- وهي الإفلات من العقاب، والمشكلات المتعلقة بسيادة القانون وحرية الإعلام- الصفحات الأولى.
كانت نتائج التحقيقات التي نُشرت في تقرير من 435 صفحة في تموز/ يوليو الماضي، دامغة. فقد وجد التقرير- الذي صدر باللغة المالطية فقط، مع قيام المؤسسة بدفع تكاليف الترجمة إلى اللغة الإنكليزية- أن مقتل كاروانا غاليزيا كان مرتبطاً بعملها الصحافي، وأن الحكومة تتحمل المسؤولية عن الظروف التي حدثت فيها تلك الفاجعة، نظراً إلى أنها هيأت “مناخاً من الإفلات من العقاب، ينبع من أعلى المستويات في صميم الإدارة… وامتدت أذرعه وانتشرت في الكيانات الأخرى مثل المؤسسات التنظيمية والشرطة”.
إقرأوا أيضاً:
وخص التقرير موسكات باعتباره المسؤول عن تشجيع مثل هذا المناخ، الذي “اعتمدت عليه عناصر الجريمة المنظمة أياً كانوا، والذي سهل عملية الاغتيال بالتأكيد”.
وقدم التحقيق أيضاً عدداً من التوصيات، منها إصلاح القوانين المتعلقة بوسائل الإعلام، والجرائم المالية، وعرقلة سير العدالة، وإساءة استغلال المناصب، وتعزيز حماية الصحافيين، ومعالجة مشكلة الدعاوى القضائية الظالمة المرفوعة ضدهم، والاعتراف دستورياً بالصحافة المستقلة بوصفها ركيزة من ركائز المجتمع الديمقراطي.
تقول ريبيكا فينسينت من منظمة “مراسلون بلا حدود”، “لقد كان إجراء التحقيق العام هو الأمر الأصعب الذي ناضلنا من أجله”، مضيفةً، “إذا ما تم تنفيذ توصياته على النحو اللائق، فقد يشكل ذلك نموذجاً للبلدان الأخرى التي تتعامل مع مثل هذه الحالات”.
بيد أن الآن بعد أن انتهى التحقيق، أصبح تنفيذ هذه الإجراءات يقع على عاتق الحكومة المالطية. وهذا هو ما يتواصل فيه نضال عائلة كاروانا غاليزيا اليوم.
لفترة من الوقت، بدا أن الغضب الشعبي بسبب مقتلها قد يكون كافياً لحث الحكومة على اتخاذ إجراءات هادفة. فبينما كان التحقيق لا يزال في مراحله الأولى، اهتزت مالطا بسبب احتجاجات شعبية لم يسبق لها مثيل. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أُلقي القبض على فينيش، رجل الأعمال الحاصل على امتياز بناء محطة توليد الكهرباء، على متن يخته للاشتباه في قيامه بتدبير مقتل كاروانا غاليزيا. واندلعت نظاهرات غاضبة في اليوم التالي استمرت لأسابيع، مدفوعة بفشل رئيس الوزراء جوزيف موسكات في إقالة مرؤوسيه المتهمين بالفساد. ونتيجة لذلك، استقال كل من موسكات وميزي وشيمبري من مناصبهم.
بيد أن الأنظمة مثل نظام مالطا لا تتغير بين عشية وضحاها، أو حتى في غضون بضعة أشهر. أعرب روبرت أبيلا، الذي تولى رئاسة الوزراء إثر استقالة موسكات، أنه “ليس هناك إفلات من العقاب” في مالطا، وبالرغم من أنه اعتذر مراراً وتكراراً لعائلة كاروانا غاليزيا، فإنه لم يلتزم بالتنفيذ الشامل لتوصيات التحقيق.
وفي وقت سابق من هذا العام، رفض حزب العمال الحاكم مشروع قانون قدمته المعارضة بناءً على توصيات التحقيق العام. وبعد بضعة أشهر، أُعيد انتخاب حزب العمال لولاية ثالثة، حيث أشارت استطلاعات الرأي إلى استحسان الجمهور تعامل الحكومة مع جائحة كورونا وإدارتها لاقتصاد مالطا المتنامي.
تقول فينسينت، “لقد حاول [رئيس الوزراء] أبيلا أن ينأى بنفسه عن سلفه من نواح عدة. لكنها الحكومة نفسها مع وجوه جديدة… الوضع يتلخص في الإرادة السياسية. وبعد مرور خمس سنوات من العمل عن كثب على هذا القضية، أرى أن الحكومة تفتقر إلى الإرادة السياسية اللازمة لضمان عدم تكرار حدوث ذلك مرة أخرى”.
تشعر كورين فيلا، شقيقة كاروانا غاليزيا، بالإحباط أيضاً بسبب عدم تحقيق تقدم في القضية. قائلةً، “لا يوجد اعتراف عام بأن الدولة قد فشلت”. مضيفةً، “يبدو الأمر كما لو أن التحقيق العام مجرد تقرير آخر. لا يتعدى كونه وسيلة لإكمال جميع الخطوات بطريقة روتينية والانتهاء من الأمر”.
لقد عقدت العزم هي وباقي أفراد الأسرة على المضي قدماً، وقد شجعتهم رؤية المجتمع المدني ينتبه للمشكلات المتأصلة في البلاد. تقول كورين فيلا، “منذ اللحظة الاولى، علمنا أننا سنواصل هذا النضال لوقت طويل، ولن يكون هنالك وقت للحزن”.
لكي تتحقق العدالة في مالطا، يجب أن تظل الإرادة الشخصية سياسية لفترة طويلة قادمة.
تتعاون مؤسسة “مكافحة الجريمة المنظمة والفساد” OCCRP مع مؤسسة “دافني كاروانا غاليزيا” لتدريب الصحفيين المحليين على الصحافة الاستقصائية.