15 شهراً من الحرب على قطاع غزة كانت كفيلة بتحويل البيوت والعمارات الشاهقة إلى أكوام من الركام، فلم يتوانَ الجيش الإسرائيلي عن قصف البنى التحتية والمباني واستهدافها في الشمال والجنوب، فُتتت الحجارة تاركةً نحو 50 مليون طن من الركام والأنقاض بكل ما تحوي من ” شقى العمر” للفلسطينيين في غزة.
يقول مدير مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مهند هادي، إن هناك 170 ألف مبنى سُويت بالأرض، وهذا يعادل نحو 69 في المئة من إجمالي المباني داخل قطاع غزة، كان يعيش في هذه الوحدات أكثر من 1.8 مليون شخص، الآن جميعهم يحتاجون إلى مأوى جديد.
إزالة أولية… و14 عاماً للإعمار
أفاد مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة لـ”درج”، بأن العمليات الحالية لا تشمل إزالة أنقاض المباني المدمرة والركام، وإنما يقتصر الأمر على تنظيف الشوارع وفتحها، وعلى رغم بساطة المهمة الجارية إلا أنها تسير ببطء شديد ومقتصرة على إجراء جولات ميدانية لفتح الشوارع وتهيئة الطرق لتسهيل حركة المواطنين والمساعدات الإنسانية، وحتى هذه الجهود تواجه تحديات كبيرة بسبب نقص المعدات والجرافات والآليات للقيام بعمليات رفع الأنقاض بصورة فعالة وسريعة.
أما وزير الأشغال العامة والإسكان الفلسطيني عاهد فائق بسيسو، فيقول إن “إزالة الركام ليست مجرد عملية مادية أو فنية، بل هي خطوة أساسية نحو إعادة إعمار غزة وبناء مستقبل أفضل لأهلها”.
ووفق بيان لوزارة الأشغال، قال بسيسو إن “آليات إزالة ركام هذه الحرب يجب أن تأخذ في الحسبان اعتبارات كثيرة، تشكل عوائق إضافية في طريق إنجاز هذه المهمة، أبرزها الصواريخ والمقذوفات التي لم تنفجر”.
تعطيل البروتوكولات الإنسانيّة
على الرغم من توقّف الحرب ومرور أسبوعين على المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات، إلا أن الجيش الإسرائيلي لا يزال يعطل حتى اللحظة البروتوكول الإنساني ويمنع دخول المعدات والآليات التي تساعد في رفع الأنقاض وإزالة الركام.
يقول الناطق باسم بلدية غزة حسني مهنا لـ”درج”، إن نصيب مدينة غزة وحدها من الركام يعادل 15.5 مليون طن، وهذه الأرقام تعكس الكارثة الهائلة التي خلفتها الحرب، إذ دُمرت آلاف المنازل والمنشآت والبنى التحتية، ما يجعل عملية إزالة الركام واحدة من أكبر التحديات التي تواجه الفلسطينيين في المرحلة المقبلة، في ظل نقص الآليات والمعدات الثقيلة اللازمة للتعامل مع هذا الدمار الهائل.
يحتوي هذا الركام على أصناف متعددة، تشمل جثامين القتلى المفقودة أسفل المباني المدمرة، ومخلفات البناء مثل الإسمنت والخرسانة والحديد والطوب، ومخلفات مختلفة تشمل الألواح المدمّرة التي تحتوي على الأسبستوس ومواد كيميائية، ومخلفات ومقتنيات مدنية مثل الأثاث والبلاستيك والمعادن المختلفة ومقتنيات الفلسطينيين، وأيضاً والأشد خطورة مخلفات خطرة مثل الصواريخ غير المتفجرة والعبوات المفخّخة ومخلفات الجيش الإسرائيلي.
وأكد مهنا أن للبلديات خطة طوارئ وضعتها بالتنسيق مع الجهات الدولية والمحلية، للتعامل مع هذا الركام بشكل مناسب بما لا يشكل أي خطر على حياة الفلسطينيين أو على الصحة العامة.
وبيّن أنه في الوقت الراهن، يُنظر في خيارات عدة متعلقة بمصير الركام، في مقدمها إعادة تدويره واستخدامه في مشاريع البنية التحتية كإعادة بناء الطرق وغيرها، كما حدث بعد حرب عام 2008، والبحر هو خيار أخير ومحدود للغاية نظراً الى مخاطره البيئية الكبيرة على النظام البيئي البحري، لكن لا تزال الأمور قيد البحث والدراسة من المتخصصين والخبراء.
وأوضح مهنا أن عملية إزالة الركام ترتبط بشكل وثيق بتوافر الآليات والمعدات الثقيلة والتمويل اللازم لهذه المشاريع الضخمة، ووفق التقديرات الأولية، فإن عملية إزالة الركام قد تستغرق نحو 18 – 24 شهراً، وذلك يعتمد على توافر الإمكانات والمعدات الثقيلة والتمويل اللازم.
إعمار ملوّث بالمتفجرات!
يحتوي نحو 2.3 مليون طن من الحطام في غزة على مادة الأسبستوس التي يمكن أن تستخدم على نطاق واسع كعازل، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، وهي مادة محظورة في دول عدة، إذ يمكن أن تطلق جزيئات هوائية قد تسبب أنواعاً متعدّدة من السرطان.
وقدمت الأمم المتحدة موقعين في غزة لمثل هذا الحطام، أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب على طول السياج مع إسرائيل.
مدير مركز إدارة الأزمات والكوارث بالجامعة الإسلامية في غزة الدكتور زياد أبو هين يوضح لـ”درج”، أن جزءاً من الردم قد يصلح لاستخدامه كمصدات طبيعية في المناطق التي يحبس فيها انجراف البحر، أو عمل موانئ اصطناعية أو شوارع جديدة، ولكن لا يتم ذلك إلا بعد دراسة مدى تأثير مواد الردم الأسمنتية وصدأ الحديد على الثروة السمكية أو الثروة البحرية عموماً.
وتابع، لا بد أيضاً من دراسة المخلفات وتحديد نوعيتها، لأن الردم هذه المرة ليس عبارة عن مواد صلبة أو أسمنت فقط، وإنما فُجرت البيوت بما فيها من مواد عضوية وملابس ومواد بلاستيكية يفضّل أن تُفرَز كلياً ويتم التعامل معها كلّ على حدة.
أما عن التأثيرات البيئية لكمية الركام الهائلة التي خلفتها الحرب على الأرض وطبيعة التربة، فيبين أبو هين، أنها تعمل على اختلال وتوازن التربة في قطاع غزة، وهي تربة رملية هشة بطبيعتها، تتأثر بعوامل عدة، منها الرياح والانجراف والملوحة، وبالتالي فإن إزالة كمية التراب تعني إزالة مخلفات أو ملايين الأطنان من المخلفات، وسيؤدي تكسيرها ونقلها إلى انتشار الملوثات في الجو، ومن ثم الى تلوث الجو بدقائق الإسمنت وغيره من المركبات والجزئيات الدقيقة، وهذا سيعمل على تلوث الهواء لفترة طويلة جداً.
الخوف على المياه
هناك قلق بشأن تسرب الملوثات إلى المياه الجوفية والتغطية في بعض المناطق، وهذا يتطلب دراسات بيئية إلى جانب موافقة الدول المجاورة، وسيتم تحديد الموقع الدقيق بمجرد أن تقرر إسرائيل ما إذا كانت ستوسع حافة أمانها إلى كيلومتر واحد داخل غزة.
أما ناجي سرحان رئيس لجنة المشاريع في وزارة الأشغال الفلسطينية بغزة، فقال لـ”درج”، “يمكن التخلص من جزء من الركام في البحر ويمكن الاستفادة منه في الشواطئ تحديداً، كأن يكون ذا فائدة سياحية مستقبلية، والأمر متروك للخبراء لتقييم وتقرير آلية التعامل معه بشكل مناسب، وهناك تعاون بين وزارة الأشغال في غزة ولجنة إعمار فلسطين ومقرّها الأردن.
وتابع، “عموماً، من المفترض أن يكون تسلسل التعامل مع الركام على نحو يضمن سلامة إزالته من دون أضرار من خلال خبراء يفحصون المكان والتأكد من خلوه من أي متفجرات قابلة للانفجار، ومن ثم التعامل معه ونقله من مكانه إلى مكان آخر”.
ولفت الى أن عملية إزالة الركام ستتم أيضاً وفق استراتيجية معينة وحسب الأولوية التي ستركز غالباً على مركز القطاع، وهو مدينة غزة والشمال، بخاصة أنه الأشد دماراً، ما يعني التركيز على المناطق الأكثر حيوية، وهذا كله في حال توافرت المعدات وأدخلت الآليات الكاملة التي ستساهم في عملية الإزالة والتعامل مع الركام والاستفادة منه في عملية الإعمار”.
ونوّه سرحان إلى عدم قدرة الشركات الفلسطينية وحدها على التعامل مع الركام، فهي بحاجة الى الدعم الدولي، لا سيما أن حجم الدمار كبير جداً وبحاجة الى معدات وقوى كبيرة وتمويلات عالية للتعامل معه بشكل صحيح ومضمون، وذلك من خلال لجنة دولية أو عربية تساهم في التعامل مع ملف الإعمار.
الركام زاد البناء الجديد
من جانبه، أفاد نائب نقيب المهندسين الأردنيين المهندس فوزي مسعد لـ”درج”، بوجود مكتب في غزة تابع للهيئة العربية الدولية التي تعمل في فلسطين، والتي يوجد لها مكتب في الأردن اسمه اللجنة العربية الدولية للإعمار في فلسطين، وهذا الفرع يعمل على التمويل وتنسيق العطاءات والأعمال التي تقام في غزة بشكل عام، وليس فقط لرفع الأنقاض.
وتابع أن مهمة اللجنة الأساسية هي الإعمار، إلا أنه في الحرب الأخيرة شكّل الإعمار مهمة صعبة جداً، وبالتالي تحولت مهامها الى الإغاثة والإيواء وجمع التبرعات.
وأشار مسعد الى وجود توجهات من خلال دراسات عدة للاستفاده من الركام، خصوصاً أن غزة الآن بحاجة الى المواد البنائية بشكل كبير، وهذا له علاقة بالاستدامة، وذلك من خلال تقليل التخريب والاستفادة من كل ما هو ممكن من دون الإضرار بالبيئة، بخاصة في عملية التخلص منه.
وأكد أن من أهم الخطوات التي تسعى إليها اللجنة، هي إدخال الكسارات للاستفادة من الكميات الضخمة من الحجارة الكبيرة “الباطون”، مع الأخذ في الاعتبار بقايا المواد المتفجرة الكيميائية والمشعة العالقة في الركام، والتي قد تسبب الكوارث في حال عدم التخلص منها بشكل صحيح، رافضاً إلقاء الركام في البحر ومحاولة الاستفادة بأكبر قدر ممكن منها.