fbpx

عن الثورة والوباء والعنصرية … نبحث دوماً عن الحكاية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تبحث الإنسانية أن تُخلد تجربتها أو سيرتها على شكل حكاية، فنقول: “كان يا ما كان، هناك حضارة الإنسان، لم تهتم جيداً وبدقة لمضامين وأخلاق حكاياتها، فانقرضت، وهكذا كانت حكايتها”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“دعني أقدم لك تعريفاً للإنسان، إنه حيوان حكاء، أينما ذهب لا يرغب في ترك يقظة فوضوية، ولا فضاء فارغ، بل سلسلة علامات من الحكايات. وعليه أن يواصل ابتكارها. فما دامت هناك قصة، تكون الأمور على ما يرام. وحتى في لحظاته الأخيرة، يقال، في اللحظة الحاسمة من سقوط مميت، أو حين يكون المرء على وشك الغرق، يرى حكاية حياته تمر أمامه سريعاً.”

من كتاب ووترلاند، غراهام سويفت.

نبؤة من حكايات الماضي

كان لافتاً للنظر في بدايات انتشار فايروس “كوفيد 19″، في نهاية العام الماضي، ومع استمرار توارد الأخبار عن تفشي الوباء في ووهان، كيف راح العالم يبحث عن أفلام سينمائية تناولت هذه الموضوعة، كديستوبيا أو كوارث انتشار الوباء. ومن بعدها بدأ البحث في التاريخ عن أوبئة أخرى عبرتها البشرية. لكن البداية، كانت للسينما الأكثر جماهيرية، ليظهر السؤال: لكن لماذا توقع الناس أن هناك فيلماً أو روايةً كتبت في الماضي تظهر، تتنبأ، أو تروي ما ستعيشه الإنسانية مع وباء “كورونا”. لماذا اعتبر البشر أن لا بد من حكاية سابقة تروي ما يحدث للتو. 

إنها ببساطة حاجة الإنسانية إلى الحكاية. 

تتعدد المسارب التي تدخل فيها الحياة على فكرنا وحياتنا، فالحكايات غير محصورة في الكتب والأفلام، بل أيضاً في المسرح في المسلسلات، وحتى في أكثر أنواع الصحافة موضوعية، أي التحقيقات الاستقصائية، كلها تقوم على الحكايات. وهناك الحكايات أيضاً التي نرويها عن أنفسنا، أو حكايات عن الآخرين، وحتى في حالة النوم فإن الذهن يستمر بتأليف حكايات الأحلام. كذلك تبنى الأسطوة، الدين، التاريخ، ونشرة الأخبار على إخبار الحكايات. لاحظ كيف تروي لنا الأفلام الوثائقية عن تاريخ الإنسانية على شكل حكاية.

يشبه الروائي جون كيسل علاقتنا بالحكايات كما الإدمان، هو يتراوح بين الحاجة والمتعة. لكن ما هو هدف الحكايات؟ لا شيء. فالدماغ لم يصمم من أجل القصة، لكن هناك عيوباً في تصميمه تجعله عرضة للحكايات. إن الحكايات، بكل ما فيها من تنوع وجمال، ليست سوى حوادث سعيدة لبنية العقل العشوائية. فقد تعلمنا القصص وتجعلنا أكثر عمقاً، كما تمنحنا البهجة أيضاً.

الأطفال يلعبون بالحكايات

يكبر الأطفال عبر اللعب، وفي اللعب يعيشون الحكايات. تقول المعلمة والكاتبة فيفيان بالي عن اللعب التخيلي عند الأطفال: “أياً كان ما يحدث في هذه الشبكة من الميلودراما، فإن المواضيع واسعة ومدهشة، من صور للخير والشر، والولادة والممات، والوالد والابن، والدخول إلى عالم الواقع وعالم الخيال والخروج منهما. ليس هناك حديث أطفال، فالمستمع يغرق في أبحاث لفرضيات فلسفية، وإيجاز عملي لألغاز الحياة”. إذاً، هي توضح أن لعب الأطفال هو عيش الحكايات عبر التخييل، وبالتالي التعلم عبر التخييل. يتكون وعي الطفل عبر اللعب وعيش الحكايات التي ترمز لمفاهيم الحياة وتجاربها.

إن لعب الأطفال التخييلي يضعهم في كل يوم أمام عالم لا بد أن يواجهوا فيه قوى ظلامية، فيهربون ويقاتلون من أجل حياتهم. لقد قامت إحدى التجارب على دفع الأطفال لكتابة قصص، فتتساءل المعلمة :”هلا حكيت لي حكاية؟”، أجريت التجربة مع أطفال بين 3 – 5 سنوات، وكانت النتيجة أن كل الحكايات التي رووها من سطر أو سطرين كانت تحوي مأزقاً أو مشكلة، بمعنى Plot، أو حبكة، وهي الإشكالية التي يجب مواجهتها في أي قصة أو لعبة.

تظهر مجموعة أخرى مؤلفة من 360 قصة، رواها أطفال ما قبل المدرسة، النوع نفسه من الخوف، قطارات تدوس جراء وهررة، وفتاة مشاكسة ترسل إلى السجن، وصغير أرنب يلعب بالنار ويحرق منزله. دفع ذلك باحث اللعب (بريان ستن-سميث) للكتابة: “تضم الحكايات التي يرويها شفوياً أطفال صغار، الضياع والتعرض للسرقة والعض والموت والدهس والغضب، واستدعاء الشرطة، والهرب أو السقوط. إنهم يصورون في قصصهم عالماً من التقلب والفوضى والكوارث الكبيرة”.

التجريب عبر شخصيات الحكايات

كذلك الأمر مع البالغين، فعبر فنون التخييل، كالمسرح والأدب والسينما، يتابع البشر حكايات الشخصيات الرئيسية في هذه الأعمال، وبالتالي يتسنى للبشر عبرها عيش تجارب في التفكير، التجريب، تقييم الثواب والعقاب، والحكم، من دون أن تقع النتائج مباشرةً على أحد إلا على شخصيات تخييلية. هكذا تساعدنا الحكايات في الأدب، والقصص والأفلام، على التعلم عبر مراقبة تجارب هذه الشخصيات المخلوقة فنياً لهذه الغاية، فأوديب هو من يلقى العقاب عنا، ووربن هود من يعيش عنا تجربة العدالة اللصوصية، ودون جوان يعملنا عقوبة المغوي اللاهي.

إن هذه الفرصة هي واحدة من المسوغات التقليدية للحكايات الأدبية. فترى المختصة في علم النفس التطوري جانت بيروي أن التجربة الغيرية قليلة التكلفة، وبخاصة التجربة العاطفية، وهي الفائدة الأولى من الأدب، فتكتب: “إن الأدب يقدم أحاسيس لا يتوجب علينا دفع ثمنها. فهو يسمح لنا أن نحب وأن نشجب، ونصفح ونأمل، ونجزع ونكره، من دون أي خطر تحمله هذه المشاعر عادةً”.

لا ننجذب إلى الحكايات جراء خلل ذهني أو بسبب عبثي، بل لأن في الحكايات مصلحة لنا ولطرق تفكيرنا ووعينا.

تأليف الحكايات ورويها هي تقنية افتراضية فعالة وقديمة اتبعتها الإنسانية على الدوام. وهي ابتكار حكايات تتطرق إلى المعضلات الكبرى للحياة البشرية. فحين نحمل كتاباً أو ندير التلفزيون، فإننا ننتقل إلى كون مواز، هناك الحكايات التي تدفعنا للاستجابة عبر إعمال الخلايا العصبية والنفسية والعاطفية والفكرية، ما يمنحنا الخبرة في التأقلم مع مشكلات الحياة. ويرجع هذا الأمر إلى أن الحياة البشرية، وبخاصة الحياة الاجتماعية، معقدة تعقيداً شديداً وتعج بالمخاطر، كما تسمح الحكايات لعقولنا بأن تتمرن على الاستجابة لأنواع التحديات التي تكون، مثلما كانت دوماً، حاسمة جداً في نجاحنا بوصفنا نوعاً. ومن هذه الزاوية، لا ننجذب إلى الحكايات جراء خلل ذهني أو بسبب عبثي، بل لأن في الحكايات مصلحة لنا ولطرق تفكيرنا ووعينا.

العنف والأخلاق

منذ كتابه “فن الشعر” نبه أرسطو إلى أن الحكايات التي ندعي أنها تحمل لنا عنصر المتعة، هي عملياً غير ممتعة في محتواها بالكامل، فالحكايات تحوي الخطر، والموت واليأس والقلق والإندفاع والعاصفة. وعند النظر إلى قوائم كتب القصص الأكثر مبيعاً، ستجد المجازر وجرائم القتل والاغتصاب. وكذلك يحضر العنف في برامج التلفزيون. لننظر إلى الأدب الكلاسيكي، فأوديب يفقأ عينيه، وتذبح ميديا أطفالها، فيما تكتظ مسرحيات شكسبير بالجثث النازفة. لكن العنف في الحكايات والقصص ليس غاية عبثية، بل هو يحمل عبرة أخلاقية، فالبطل يقتل لاستمرار الإنسانية وخيرها، بينما عنف الوغد هو جريمة تجب المحاسبة عليها وإزالتها لاستمرار الصلاح. إننا نتعلم عبر العنف في الحكايات النظام الأخلاقي، وكذلك القواعد القانونية. يكتب جوناثان غويتشل عن ذلك: “يحمل الأدب إلى المنزل رسالة تفيد بأن العنف مقبول فقط في ظروف محددة، لحماية الطيب والضعيف من السيئ والقوي. صحيح أن بعض ألعاب الفيديو، مثل غراند ثفت أوتو السرقة الكبرى للسيارات، تمجد الشر، لكن هذه الألعاب هي الاستثناءات الشهيرة التي تؤكد القاعدة العامة”.

الأحلام حكايات الليل

يقارن الروائي جون غاردنر الحكايات الخيالية بالأحلام المتواصلة والمفعمة بالحيوية. ويعرف الباحثون الحلم عادة بوصفه “هلوسات حسية حركية كثيفة ذات بنية سردية”. 

الأحلام في الحقيقة هي حكايات ليلية، تركز على البطل، وهو من يرى الحلم عادة والذي يصارع لتحقيق رغباته. ولا يستطيع الباحثون أن يتحدثوا عن الأحلام من دون استحضار المفردات الأساسية في علم السرد، مصطلحات حكائية مثل: الحبكة، الموضوع، الشخصية، المشهد ووجهة النظر والمنظور.

يحاول الدماغ أثناء النوم القيام بتنظيم المعلومات الواردة، فيتم ترتيبها في سرديات. وبحسب نظرية الاصطناع العشوائي للأحلام، تعاني هذه المتجاورات الحكائية، خللاً، فهي لا تدرك أبداً أن ازدحام الدماغ النائم وضجيجه لا معنى له. لكن بدلاً من ذلك، تتفاعل مع هذا الازدحام مثلما تتفاعل تماماً مع المعلومات التي تدخل أثناء ساعات اليقظة، محاولة تحويلها إلى سرد متماسك. يكتب عالما النفس في جامعة ميتشيغان مايكل فرانكلين ومايكل زايفور: “يصوغ الوقت الذي نمضيه في أحلامنا، بلا شك، الهيئة التي ستتطور بها أدمغتنا، ويؤثر في ميولنا السلوكية المستقبلية. إن الخبرات التي نجمعها من الحلم على مر أيام حياتنا ستؤثر قطعاً في لياقتنا الكلية، ليس بوصفنا أفراداً فحسب بل بوصفنا جنساً”، وبالتالي هو يوضح أن الأحلام تحمل خبرات فكرية وعاطفية ونفسية يعيشها العقل عبر السرد الحلمي. 

التربية والأخلاق عبر الحكايات

لا شك في أن كتب الديانات التوحيدية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، تقوم على رواية الحكايات في قسم كبير منها، فلو نقلب صفحات هذه الكتب سنجدنا أمام مجموعات قصصية: قصة نزول الإنسان إلى الأرض، والطوفان، وسدوم وعمورة، وإبراهيم وإسحاق، وصلب المسيح والقيامة. ونزول الملاك جبريل على محمد وتلاوته أن الله خلق الإنسان من علقة دم. وقد توصل كهنة العالم قديماً، إلى الاستنتاج الذي أكده علم النفس في وقت لاحق: “إذا أردت لرسالة أن ترسخ في العقل البشري، ضعها في قصة”.

طرد الفيلسوف الإغريقي (أفلاطون) الشعراء والحكائين من جمهوريته المثالية، لنشرهم مواد فاسدة، إلى جانب خطاياهم الأخرى. لكن أفلاطون كان مخطئاً، فالأدب بشكل عام أخلاقي بقوة. وعبر الحكايات تتناقل الإنسانية المعرفة والتجربة والأخلاق. فعبر الحكايات التي تعاقب الشرير وتكافئ الطيب، نتعلم من تجارب الأسبقين. الأدب في جوهره، كما رأى ليو تولستوي وجون غاردنر، هو أخلاقي بعمق، فتحت كل ذكائه، يميل الأدب إلى الوعظ وتكون مواعظه عادة مقبولة بحق. يظهر ذلك بوضوح في اللغة العربية، حيث تعني كلمة “أدب”، النوع الفني- النصي الذي هو الأدب، ولكنه أيضاً مجموعة الأخلاق والضوابط السلوكية التي تحكم على سلوك الفرد.

لماذا نكتب حياتنا على شكل حكايات؟

إن حياة أي واحد منا تكتب على شكل حكاية. إن كتب السير الذاتية أو المذكرات، أو الكتب التي تروي حياة الأشخاص تؤلف وفق قواعد القصة الواضحة، سنجد فيها المسارات الحكائية، وأحداث السقوط والنهوض. لذلك يرى بعض النقاد أن معظم كتب المذكرات، يجب أن تصنف في قسم الأدب في المكتبات. إذ لا يروي كتاب المذكرات قصصاً حقيقية، بل هي قصص تتصنع الحقيقة. ويقال بالعربية “إن الإنسان حكايته”، بمعنى أنه وبعد وفاة المرء تصبح حياته مروية مثل الحكاية والتي على أساسها يتم الحكم على حياته، أفعاله، وأخلاقياته. هكذا تتحول كل حياة بشرية، بكل امتلائها بالأفعال، والأحداث، والقرارات، والتجارب الفكرية والذهنية والنفسية والتجارب العاطفية، كلها تتخلص في حكاية المرء أي سيرة حياته. 

الحكايات التي تصنع أحداثاً تاريخية

عرفنا في القرون الماضية الحكواتي، فلقد كان سرد الحكايات دوماً نشاطاً اجتماعياً بالغ الأثر. ولعشرات الآلاف من السنوات قبل اختراع الكتابة، رويت الحكايات فحسب حين يجتمع راوٍ بمستمعين. ولم تصبح الكتب رخيصة بما يكفي لتعويض جهل الجماهير، إلا بعد اختراع طباعة الصحف. ولذلك، ولألفيات عديدة رويت الحكايات شفاهياً، إذ يجذب الرواي أو الممثل جمهوراً، يوحدهم عقلياً وعاطفياً، ويكشف أمامهم جميعاً الرسالة نفسها.

تواصل الحكاية إنجاز وظيفتها القديمة في ربط المجتمع، بتعزيز مجموعة من القيم المشتركة، وتقوية روابط الثقافة المشتركة في الحاضر وفي المستقبل. فمازالت تجري من حولنا أحداث سياسية واجتماعية بناءاً على حكايات انتشرت في المجتمع، فحكاية التونسي بو عزيزي أشعلت شرارة الربيع العربي، وحكاية أطفال درعا أجرت تحولات في التاريخ السوري، وكذلك حكاية التي يرويها فيلم صور عن الأميركي من أصول افريقية جورج فلويد، التي أشعلت شرارة المظاهرات مؤخراً في أميركا ضد الممارسات العنصرية. كل هذه الأحداث انتقلت بناءاً على تأثر البشر بحكايات. وليس المهم في الحكايات صدق وقوعها من عدمه، حقيقتها أو زيفها، بل المهم هي درجة تأثيرها في المجتمع.

كما يروي كل منا سيرة حياته على شكل حكاية، فكذلك الحال على مستوى الإنسانية جمعاء. تبحث الإنسانية أن تُخلد تجربتها أو سيرتها على شكل حكاية، فنقول: “كان يا ما كان، هناك حضارة الإنسان، لم تهتم جيداً وبدقة لمضامين وأخلاق حكاياتها، فإنقرضت، وهكذا كانت حكايتها”.