fbpx

دماء محمود درويش في “هآرتس”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

انتظرت أن أقرأ النصوص الدرويشية التي تؤكد تدمير الشاعر أصوات النساء وصناعة التاريخ الوطني الذكوري من خلال شعره، لكنني لم أر غير كليشيهات مرمية هنا وهناك

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
رجاء الناطور

لم أسمع من قبل بالصحافية الفلسطينية من الداخل الفلسطيني رجاء الناطور، محررة الموقع العربية في جريدة “هآرتس” الإسرائيلية. عندما تداول أصدقاء مقالتها الأخيرة التي تعلن عزمها على “ذبح” محمود درويش لذكوريته، فرحت كثيراً، ليس للذبح بل لأنني حلمت بمقالة لكاتبة نسوية وفلسطينية خصوصاً، تتعامل مع شعر محمود درويش من منطلق نسوي ومع شخصية الشاعر كامرأة وتحديداً بعد الضجة التي أثارتها مقالة الشاعر الكوردي السوري سليم بركات. وهي مقالة قال فيها بركات إن لدرويش ابنة لم يعترف بها من سيدة متزوجة.


قلت، عظيم فها هي كاتبة فلسطينية ناقدة للشعر وممتلئة بوعي “فمينيست” يؤهلها لكي ترى ما لا يمكن لكاتب ذكر أن يراه، فهذه فعلاً حقيقة لا يمكن تجاهلها.
عام 1981 كنت في زيارة إلى جامعة بيرمنغهام في الشمال الغربي من لندن. هناك التقيت في سهرة، شابة مغربية تعد دراسة عن الذكورة والأنوثة في الشعر العربي، قديمه وحديثه. دار النقاش في آخر السهرة بيني وبينها حول شعر الحب والغزل عند العرب في الجاهلية والمراحل اللاحقة، إلى أن وصلنا إلى نزار قباني. ذكّرتني رجاء الناطور بتلك الشابة الباحثة الجادة. كانت الباحثة المغربية تريد محو شعر الحب من كتاب الشعر العربي، لأنه شعر ذكوري فاقع فشعرت بالرعب!


قلت لها، على الأقل فلنترك هذا الشعر في متحف الشعر بدلاً من أن نمحوه فللأجيال الحق في قراءة ما كتبه الأوّلون، ولهم الحق في أن يتلمسوا دربهم بأنفسهم، وسألتها، لماذا تفرضين نفسك وصية على الآخرين فقد تظهر أدوات تحليلية في المستقبل تخالف ما ذهبت إليه؟ من يدري فالزمن يتبدل والأفكار تتبدل والمصالح تتبدل والمنابر تتبدل؟ ولكن الباحثة أصرّت على موقفها وإن كانت وجدت في طلبي إحالة شعر الحب الذكوري إلى متحف الشعر، دعابةً راقت لها. كانت تلك الأمسية آخر عهدي بالباحثة وكنت في كل يوم من ما يقرب 40 عاماً أراجع أرشيف الشعر العربي القديم والحديث لأطمئن على مصير شعر الحب، فأجده ما زال هناك فأبتسم لذكرى ذلك النقاش في بيرمنغهام.

حملت سكاكينها الحادة لتذبح الشاعر والأب انتقاماً لاستعصاء فهم اللغة العربية وراحت تنتقم بعبرية فصحى لكل الخيبات المتداخلة. ولم تعطنا قصيدة واحدة جديدة أو قديمة تعلل بها مفاهيمها الجندرية التي قدمت فيها درويش


حاولت أن أجد ترجمة لمقالة رجاء الناطور المنشورة بالعبرية في “هآرتس”، ولكن للأسف لم أعثر إلا بعد أيام على الغبار المثار حولها على ترجمة بالإنكليزية وضعتها الناطور بفخر واعتزاز كبيرين على صفحتها الفايسبوكية وهي منشورة في صفحة الرأي في الجريدة.
بعد قراءة المقالة انتابتني خيبتان. الخيبة الأولي حين وجدت مقالة لا علاقة لها بالنقد الأدبي ولا علاقة لها بشعر محمود درويش ولا علاقة لها بالكتابة الصحافية المتينة المقنعة الموضوعية حتى، وهي كما كل مقالات الرأي عموماً مكثفة الانغماس بالذات والنرجسية الفائضة، ولكن كان لا بد أن تستند إلى نصوص تقدم للقارئ نماذج تؤكد أو تبرر تلك الهجمة الصاعقة التي أطلقت عليها هجمة ذبح محمود درويش، التي تشبه أسماء الهجمات العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، باستعاراتها اللغوية مثل “الرصاص المصبوب” و”الجرف الصامد” و”عمود السحاب”…
تفتتح رجاء الناطور مقالتها باعتراف مرعب في استعاراته السيكولوجية فهي تعترف بأنها مدمنة على ذبح البقر المقدس من كل نوع، الجندري وما له علاقة باللون، وأنها منذ زمن طويل كانت ترغب في ذبح محمود درويش الشاعر القومي الفلسطيني، الرب، القديس، الفوق كل نقد، سياسياً أو أدبياً. وتطمئننا رجاء الناطور خوفاً على مشاعرنا، بأنها ستكون حادة وقاطعة ولن نرى الدماء!


فاتحة مرعبة حقيقةً وتدل على شخصية مهووسة بذاتها، ولولا أنها تكتب في جريدة إسرائيلية لقال المرء إنها داعشية تعشق دماء أعدائها. ولو أن رجاء ناطور كتبت ما كتبت في منبر غير إسرائيلي ولنقل في جريدة بريطانية مثلاً أو في الهند لقامت القيامة عليها ليس بسبب ذبحها محمود درويش، بل لأنها تعلن بكل غرور أنها مدمنة على ذبح البقر المقدس، فمن يقدس البقر غير الهندوس؟ لا أريد الذهاب إلى المجاز فالمجاز حتى وأنت تكتب شعراً ويبدو ذكورياً، تحاسب عليه. كيف بإمكان امرأة عربية “فيمنيست” أن تعلن إدمانها ذبح البقر المقدس وتهين طائفة دينية، أتباعها حوالى ملياري شخص، أي أكثر من 15 في المئة من سكان العالم، ألا يشير هذا إلى غباء عنصري وهي التي تريد ذبح العنصرية الجندرية واللونية؟
ثم عندما تحصر ما هو مقدس بالجندرة واللون ألا ترى أنها نسيت أو تناست البقرات المقدسة العنصرية الاستعمارية القاتلة مصادرة حقوق أكثر من 12 مليون إنسان وأقصد بقرة إسرائيل المقدسة، الصهيونية وفكرة تشويه معنى معاداة السامية التي صارت اليوم جريمة يتهم بها كل من ينتقد ممارسات إسرائيل الاستعمارية المحتلة التي تضطهد شعب رجاء الناطور الفلسطيني.

في منتصف الثمانينات في لندن، حكت لي سيدة فلسطينية نسوية راديكالية أنها كانت في مؤتمر نسوي عالمي لناشطات نسويات من جنسيات مختلفة، وكانت تلك السيدة التي لا تزال تعيش في لندن إلى اليوم، من أبرز المتحدثات في المؤتمر. اقتربت منها أثناء الاستراحة سيدة إسرائيلية مشاركة هي الأخرى في أعمال المؤتمر، وراحت تحدثها بودٍ فما يجمعهما كامرأتين كثير. وفي نهاية الحديث قالت الإسرائيلية للفلسطينية: ألا تعتقدين بأن المرأة الإسرائيلية أقرب إليك من الرجل الفلسطيني؟ أجابتها الفلسطينية بصرامة: هل تعتقدين أن امرأة إسرائيلية مجندة في الجيش الإسرائيلي وتحمل سلاحاً في الأراضي المحتلة، ستفرّق بين الرجل الفلسطيني والمرأة الفلسطينية حين تطلق الرصاص على المحتجين ضد الاحتلال؟
انتهى الحوار بين المرأتين ولكن الحوار الذي فتحته رجاء الناطور لن ينتهي.
كنت أتمنى أن تتطرق الناطور إلى فكرة الصهيونية العنصرية وفكرة حق إسرائيل على أرض فلسطين وطرد الشعب الفلسطيني وحق اللاجئين في أرضهم ضمن الفئات المقدسة التي أدمنت على ذبحها بسكين حادة حتى إن لم نشاهد الدم.


وتتجلى الخيبة من هذا المقال العصابيّ في أنني انتظرت أن أقرأ النصوص الدرويشية التي تؤكد تدمير الشاعر أصوات النساء وصناعة التاريخ الوطني الذكوري من خلال شعره، لكنني لم أر غير كليشيهات مرمية هنا وهناك، حتى أننا إذا غيرنا اسم محمود درويش ووضعنا اسم شعبان عبد الرحيم أو أبو حسين بياع الفول أو والت ويتمان لما تغير في المقالة شيء.
كيف للقارئ العبري وهو جمهور قراء رجاء الناطور على ما أعتقد في إسرائيل أو خارجها وإلى حد ما جزء من الجمهور العربي الملم باللغة العبرية، كيف لهذا الجمهور أن يعرف نماذج ذكورية محمود درويش من خلال شعره أو كيف شكّل الوعي الوطني بذكوريته “الكريهة” وكيف أخرس أصوات النساء الفلسطينيات في التاريخ الفلسطيني الحديث، من دون تقديم نماذج من شعره تدلل على ما صرخت به الصحافية؟
لا أريد أن أذهب الى الإشارات الفرويدية التي قدمتها الصحافية لنكتشف سذاجة التعامل مع شعر درويش في أول كتاب تناولته من مكتبة أبيها “حصار لمدائح البحر”، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1984. وسوف نتوقع أنه وصل إلى الداخل على الأقل بعد سنة من تاريخ صدوره، وصادفته الناطور وكانت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، وهي من مواليد 1972، وصدمت لأنها لم تفهم كلمة واحدة منه بحسب مقالتها. فأصيبت بالإحباط أمام الطلاسم التي جاءت في الكتاب وعلى ما يبدو أن الناطور لم تقرأ بعد ذلك محمود درويش قراءة تدل على تجاوز لحظة الإحباط التي أصابتها في بداية مراهقتها.

ومع ذلك فما أن نشر سليم بركات مقالته الشهيرة في 6 حزيران/ يونيو الماضي، حتى أحست بأن الفرصة العظيمة جاءتها لتنتقم من إحباطها وخيبتها من عدم فهم الكتاب الشعري الأول الذي عثرت عليه في مكتبة والدها. فحملت سكاكينها الحادة لتذبح الشاعر والأب انتقاماً لاستعصاء فهم اللغة العربية وراحت تنتقم بعبرية فصحى لكل الخيبات المتداخلة. ولم تعطنا قصيدة واحدة جديدة أو قديمة تعلل بها مفاهيمها الجندرية التي قدمت فيها درويش، فراحت ترد على المدافعين عن درويش في موقعة سليم بركات، وتحشد كل ما أوتيت من قوة داخلية وخارجية لتقوم بمجزرتها الدموية. حتى أنها كذبت على جمهورها وجمهور الجريدة بالاستعانة بمقالة لصحافي أردني اسمه موسى حوامدة كتبها قبل أكثر من 7 سنوات، متهماً درويش بالسرقة الأدبية. وقالت إن المقالة مكتوبة رداً على المدافعين عن الشاعر أمام مقالة سليم بركات التي كُتبت عام 2020، وهذا ما يدل على تزييف للحقائق واستغلال جهل القارئ العبري.


الخيبة الثانية مهمة بالقدر نفسه، وهي كيف لجريدة مثل “هآرتس” واسعة الانتشار وتكتب فيها نخبة من الأقلام الليبيرالية الجادة في إسرائيل ويتابعها جمهور قراء من العالم، أن تسمح بمقالة ركيكة وخالية من أي تحليل موضوعي ومبنية بناءً كاملاً على مواقف كراهية مسبقة للشاعر الفلسطيني الذي كرّس قضية شعبه في المشهد الثقافي الكوني، وأن تترك صحافية ضعيفة الإمكانات البحثية تلجأ إلى الكذب والتزوير لتأكيد رؤيتها المشوهة والتشويهية، وأن تعبث بسمعة الجريدة إذا لم تكن الجريدة نفسها متواطئة في تلك الحملة الدموية التحطيمية ليس لمحمود درويش نفسه شاعراً ومثقفاً فلسطينياً وحسب، بل للثقافة الفلسطينية نفسها في لحظة تاريخية يخوض فيها الفلسطينيون أشرس معركة تستهدف وجودهم برمته.
قد نذهب بعيداً في تحليل هذه الظاهرة، ونقول إن هناك رغبة لا واعية لدى النخبة الإسرائيلية في القضاء على درويش الذي استطاع على أرض واقع الشعر العالمي أن ينتصر على الرواية الصهيونية كلها، التي لم تقدم شاعراً واحداً يستطيع أن ينافس حضوره طوال العقود الطويلة الماضية.





حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!