fbpx

الهجرة لم تكن خياراً… لولا خيارات السلطة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أنا لست منتشراً ولا مغترباً، أنا مهجر ومن هجرني ليس احتلالاً اسرائيلياً أو سلطة بعثية ولا مجموعة تكفيرية، بل هم ستة زعماء أعرفهم جيداً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ أكثر من أربع سنوات وصلت أوراق الهجرة الخاصة بي الى السفارة الأميركية في بيروت وكنتُ ما زلت لم أبدأ بتخصصي الجامعي. 

سافرت الى الولايات المتحدة لفترة وجيزة حينها لإتمام المعاملات القانونية، ولكنني عدت بسرعة لقناعتي أن الهجرة تحمل استسلاماً للواقع وأنا اعتقدت أن الوضع الطبيعي هو بقائي في لبنان. 

أتممت دراستي في احدى جامعات بيروت وحاولت جاهداً ان أجد فرصة عمل تمنحني أقله الاستقلال المالي عن والدي الذي أنهكته أقساط ثلاث جامعات خاصة لإخوتي على مدى عقدين من الزمن. لم أكن أريد وظيفة العمر ولا الملايين، أردت فقط أن أعيش حياة عادية في بيروت التي عشقت كل تفاصيلها. 

في 17 تشرين الأول لاح بريق أمل رغم كل القتامة التي كنا نعيشها. 

مغادرتي اليوم للبنان ليست استسلاماً لهزيمة، بل أغادر لبنان مع مزيد من الغضب تجاه السلطة، ومزيد من الأمل بالعودة ولو بعد حين

وجدتني لا أفارق انتفاضة الشارع. لم أزر والدتي حينها لأكثر من شهر، وحين اتصلت بي معاتبة، قلت لها: “سفّرتي اثنين لبرة، بدك تسفّري الثالث؟ أنا ما شفتك هالشهر حتى ما شوفك كل العمر عشاشة التيليفون”. وبالفعل، بقيت في الشارع متنقلاً بين التظاهرات والساحات، حتى خارج ساعات العمل. بقيت مواظباً على النزول للساحات حتى  بعد أن خف الزخم وأصبحت التحركات أسبوعية. كنت أذهب عصراً وبشكل يومي برفقة شبان التقيتهم بعد 17 تشرين وسط بيروت. كنا نشرب القهوة سوية في ساحة رياض الصلح وكنا -وبكل ما للكلمة من معنى- نحلم بغد أفضل.

سرعان ما بدأ الأمل يخبو ويتحول الى مستحيل. بدأت معالم الأزمة الاقتصادية ترسم الصورة الجديدة مع الانهيار السريع للعملة الوطنية مقابل الدولار. أصبحت مدخراتي المتواضعة تساوي بضع ساعات عمل في أميركا أو أوروبا. شعرت باليأس من امكانية حصول تغيير حقيقي. 

حينها قررت الرحيل قي أقرب وقت ممكن ورغم اغلاق المطار حجزت تذكرة السفر على إحدى طائرات الإجلاء. لم يصدّق أحد من اصدقائي أنني سأفعلها، فالجميع كان يعرف أنني كنت من أشد المعارضين للهجرة.

 عادة ما يقيم المهاجر عشاء وداع للأصدقاء أما وداعي فكان غير تقليدي، كان يشبهني ويشبه تعلقي بالأمل بغد أفضل، ودعت العشرات من أصدقائي في احدى التظاهرات على جسر الرينغ على وقع هتاف: “يا غربة وينك وينك، رواد كرامة عينك”، شعرت حينها بالاستسلام للواقع وبالتخاذل أمام الشبان الذين سيتابعون المعركة. 

أقول اليوم أنني حاولت وسأبقى أحاول سواء داخل لبنان أما خارجه. 

في الآونة الأخيرة بدأ رموز السلطة وإعلامها بشن حملة علينا نحن من قررنا الرحيل، اتهمونا بنشر اليأس وكأن قدرنا هو أن نبقى في هذه البقعة لنشحذ الرغيف من مكاتب الأحزاب السياسية الموزعة على مختلف المناطق. 

كيف لي أن أبقى ومؤسساتكم جميعها تصرف الموظفين بشكل يومي وتقلص المعاشات باستمرار؟ كيف أبقى وأنا أرى حلمي  ببناء أسرة أو منزل في قريتنا وقد أصبح مستحيلا؟ كيف سنبقى أنا وغيري ونحنا نرى الشوارع التي كانت يوما تشبهنا أصبحت فارغة من روادها؟ كيف سنبقى ونحن نرى أقاربنا ينتظرون الموت على أبواب المستشفيات؟ 

سهل جدا على المنتفع من هذه المنظومة المهترئة أن يفضّل البقاء، ولكنه لو قرر مواجهة هذه السلطة سيعي أن لا مقومات للصمود له في هذا البلد. 

مغادرتي اليوم للبنان ليست استسلاماً لهزيمة، بل أغادر لبنان مع مزيد من الغضب تجاه السلطة، ومزيد من الأمل بالعودة ولو بعد حين لإسقاطها يوما ما، أنا لست منتشراً ولا مغترباً، أنا مهجر ومن هجرني ليس احتلالاً اسرائيلياً أو سلطة بعثية ولا مجموعة تكفيرية، بل هم ستة زعماء أعرفهم جيداً.