fbpx

تونس: من يفك عزلة “حركة النهضة” بعد الآن؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما حدث هو أن الحركة أساءت قراءة الواقع واندفعت وراء نداء مصالحها الحزبية فوجدت نفسها في مواجهة الجميع تقريباً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تعيش “حركة النهضة الإسلامية”، اليوم، أكثر الفترات تعقيداً على الإطلاق منذ انخراطها في الحكم في تونس عام 2011، في ظل المتغيرات الحاصلة على الساحة السياسية في البلاد، التي يبدو أنها ستؤدي إلى عزل “النهضة”، حتى وإن ظلت شريكاً في الحكومة. فعلى رغم مساعي “النهضة” الدائمة لتجنب هذا المصير، إلا أن حصيلة الفترة الأخيرة وأحداثها، كانت ثقيلة ومربكة جداً للحزب الذي فقد حتى زمام المناورة التي دأب عليها لسنوات. 

ما حدث هو أن الحركة أساءت قراءة الواقع واندفعت وراء نداء مصالحها الحزبية فوجدت نفسها في مواجهة الجميع تقريباً. فبمجرد إعلانها نية الدخول في مفاوضات مع رئيس الجمهورية والقوى السياسية والاجتماعية من أجل تشكيل حكومة جديدة، تلقت رداً رافضاً وبشدة من الرئيس قيد سعيد. تلت ذلك إجابة حاسمة من رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ بالإعلان عن عزمه إخراج وزراء “النهضة” من الحكومة. ويبدو أن وقع ما حصل كان مدوياً فاختارت “النهضة” الردّ الخاطئ مجدداً بإعلانها نيتها سحب الثقة من حكومة الفخفاخ، ليرد الأخير بإقالة كل وزرائها من الحكومة ثم يقدم استقالته لرئيس الجمهورية وينهي طموحها بتشكيل الحكومة الجديدة. 

لم تتوقف أزمة الحركة عند هذا الحد، فحتى في البرلمان هناك ما يثير قلق النهضوين بعد اتفاق عدد من الكتل النيابية على سحب الثقة من رئيس الحركة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي. 

قراءة خاطئة

منذ تشكيل الحكومة لم تكن “حركة النهضة” راضية تماماً عن النسيج المكون لها وهو ما دفعها للدعوة بعد أشهر قليلة من بدء عملها إلى توسيع الحزام السياسي للحكومة بتشريك “حزب قلب تونس”، على رغم معارضة بقية المكونات إلى جانب الرئيس قيس سعيد. واستخدمت شبهة تضارب الفساد التي تلاحق رئيس الحكومة الياس الفخفاخ كذريعة لتتمسك بموقفها الذي تطور لاحقاً إلى الرغبة في تشكيل حكومة جديدة دون الاكتراث من جهة لكون ملف الفخفاخ ما زال بيد القضاء ولم يُحسم بعد، ومن دون مراعاة أن الظرف الاقتصادي والاجتماعي في البلاد لا يحتمل العمل بحكومة موقتة والذهاب إلى تشكيل واحدة جديدة.

وأمام رفض الفخفاخ الرضوخ لمطالبها تبنى مجلس شورى “حركة النهضة” قراراً يقضي بتكليف رئيس الحركة راشد الغنوشي بإجراء مشاورات مع رئيس الدولة قيس سعيد والقوى السياسية والمنظمات الاجتماعية، لتشكيل حكومة جديدة متعللاً بشبهات تضارب المصالح، التي أثيرت قبل أسابيع حول الفخفاخ. ولكن هذه الخطوة التي اعتمدتها الحركة كمناورة جديدة للضغط على شركائها في الحكم ودفعهم إلى القبول بشروطها، كان لها وقع القنبلة.    

البداية كانت مع رد الرئيس سعيد الرافض تماماً دعوة “حركة النهضة” إلى إجراء أي مشاورات لتغيير الحكومة، معتبراً أن هذا الخيار لا يتلاءم مع نص الدستور، إجابة أوردها بشكل مباشر وهو يتوسط أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة النقابية الأكبر في البلاد نور الدين الطبوبي، ورئيس الحكومة الياس الفخفاخ قبل استقالته.

وقال سعيد في رده إن الحديث عن مشاورات بشأن تشكيل حكومة جديدة هو من قبيل “الافتراء” وفيه مغالطة للرأي العام، مشدداً على رفضه التشاور مع أي طرف ما دام الفخفاخ، يمتلك كامل الصلاحيات، وما دام الوضع القانوني على حاله. 

رد سعيد على رغم وضوحه، إلا أنه حمل في طياته رسالة مهمة للحركة أولها رمزية حضور اتحاد الشغل في هذه المرحلة الدقيقة، وكأنه يقول إن النقابة الأكثر تأثيراً في البلاد تدعم خياراتنا، إنها شريكة اليوم وغداً، فاحذروا، وهو يعي جيداً وقع هذا اللقاء وهذه الرسالة. ثانياً أراد سعيد القول للنهضة إنها إذا شاءت فرض خياراتها وتغيير الحكومة فليكن ذلك وفق مسار دستوري سليم أي التوجه إلى البرلمان وتحصيل 109 أصوات وسحب الثقة منها. والحقيقة أن سعيد يدرك مسبقاً أن “النهضة” تجنبت المضي نحو هذا الخيار لصعوبة تحصيلها الأصوات اللازمة لهذه الغاية فحاول وضع حد لمناوراتها وفق آليات قانونية يفقهها جيداً.

“حركة النهضة” التي لم تستسغ منذ البداية دور الشريك العادي في الحكم لم تتردد في الضغط على الفخفاخ، مستخدمة ورقة تضارب المصالح لدفعه إلى التنازل والقبول بشروطها.

فحسابياً، تمتلك “حركة النهضة” وحلفاؤها المفترضون 100 نائب (54 نهضة و27 قلب تونس و19 ائتلاف الكرامة) فيما الكتل الأخرى المساندة مباشرة للفخفاخ والمناهضة لتوجهات “حركة النهضة”، والتي لن تصوت لمصلحة سحب الثقة، فتضم 101 نائب (الكتلة الديمقراطية 38 كتلة الإصلاح 16 والكتلة الوطنية11 وكتلة تحيا تونس 11 وكتلة المستقبل 9 والحزب الدستوري الحر 16) هذا إضافة إلى النواب المستقلين والبالغ عددهم 16، وهؤلاء يعارض أغلبهم “حركة النهضة”، ما يعني صعوبة اللجوء إلى هذا الخيار.

ولأن مجلس شورى “حركة النهضة” يدرك جيداً هذه الحسابات، لم يجازف في البداية بإخراج “كارت” الانسحاب من الحكومة ولا التوجه بطلب لسحب الثقة من الفخفاخ، واكتفى بتفويض رئيس الحركة للتشاور من أجل تغيير الحكومة. لكن موقف رئيس الجمهورية الحاسم أولاً، ثم بيان رئيس الحكومة الذي اتهم الحركة بمحاولات ضرب الاستقرار السياسي والحكومي بدعوتها إلى تشكيل حكومة جديدة، وتعهده بإجراء تعديل حكومي في الأيام القليلة المقبلة، سيستهدف وزراءها الستة في الحكومة، من العوامل التي أحرجت الحزب الإسلامي التونسي بل وأخافته. فهذا السيناريو المعلن من الرجلين كفيل بأن يضع الحركة خارج دائرة الحكم وأن تساق مكرهة إلى المصير الذي سعت بكل ما أوتيت من جهد ومناورة وتكتيك كي لا توضع فيه. لهذا سارعت بإعلانها أنها ستسحب الثقة من الحكومة على أمل بأن تعيد زمام الأمور إليها ولكنها أخطأت التقدير هذه المرة أيضاً، بعدما قطع الفخفاخ الطريق عليها مجدداً، بتقديم استقالته لرئيس الدولة وبالتالي إعادة مهمة تشكيل الحكومة الجديدة إلى قيس سعيد وفق دستور البلاد.  

“حركة النهضة” التي لم تستسغ منذ البداية دور الشريك العادي في الحكم لم تتردد في الضغط على الفخفاخ، مستخدمة ورقة تضارب المصالح لدفعه إلى التنازل والقبول بشروطها التي يتصدرها مطلب مشاركة “قلب تونس” في الحكم بكل ما يعنيه من ضمانات لها بأنها ستمسك أكثر بخيوط اللعبة كما تعودت دائماً، لأنها تعي أن هذا الحزب ستحكم به لا معه، لكن لا يبدو أن الأمور سارت كما أملت “النهضة”.

وهذا ليس بالمعطى الجديد إذ يعلم الجميع أن “النهضة” سعت منذ توليها الحكم في تونس لتكون الحاكم الفعلي لا مجرد شريك في السلطة ولهذا تحالفت إما مع شركاء حكمت بهم لا معهم وانتهى بهم الأمر مفككين على غرار تجربة حزبي “التكتل” و”المؤتمر” فترة الترويكا، أو شركاء يمكن ضربهم من الداخل وإضعافهم فيما تظل في كامل تماسكها كما حصل مع “حزب نداء تونس” الذي انتهى منقسماً إلى أكثر من كتلة. هذه الفلسفة التي اعتمدتها الحركة وأتت أكلها سابقاً يبدو أنها ستكون اليوم سبب عزلتها وربما إخراجها من الحكومة وذهابها مكرهة إلى دفة المعارضة حيث الدور الذي لا تريده بالمرة.

ففي ظل هذه المستجدات التي حصلت في وقت قياسي، تجد “حركة النهضة الإسلامية” نفسها في وضع صعب، ربما يكون الأكثر دقة منذ دخولها غمار الحكم منذ 2011 واشتدت عزلتها جداً، لا سيما بعدما فقدت كل وسائل المناورة المعتادة.

يقول الناشط السياسي والناطق الأسبق باسم رئاسة الجمهورية عدنان منصر لـ”درج” إن “عزلة النهضة حصلت سواء ظلت في الحكومة أو غادرتها، لأنه حتى في حال بقاء وزرائها فإنها ستكون في الحكومة من دون قرار وبحضور ضعيف بصورة المنكسر”.

ويضيف: “طيلة عقد كامل كان هدف الفعل السياسي للنهضة هو ألا تجد نفسها معزولة. الآن، وبغض النظر عن التفاصيل، تجد الحركة نفسها معزولة. هذه في نظري إحدى نتائج الخلط بين الكثرة والمضامين”.

يواجه راشد الغنوشي خطر سحب الثقة منه كرئيس للبرلمان بعدما تقدمت أربع كتل نيابية بلائحة سحب الثقة منه.

ويرى منصر أنه لم يكن من مصلحة الحركة سحب وزرائها من الحكومة على رغم قوة الصدمة التي تلقتها وذلك تلافياً لخسائر أكبر، معتبراً أن مشكلات الحركة تفاقمت بسبب تخليها عن الحساب العقلاني الذي اتبعته سابقاً، ما مكنها من البقاء في الحكم والانخراط في حسابات التعنت أكثر من أي شي آخر. 

ولم تتوقف المستجدات التي هزت أركان “حركة النهضة” عند دائرة الحكومة لتذهب إلى البرلمان، حيث يواجه راشد الغنوشي خطر سحب الثقة منه كرئيس للبرلمان بعدما تقدمت أربع كتل نيابية هي “الكتلة الديموقراطية” التي تضم حزب “التيار الديمقراطي” و”حركة الشعب” (38 مقعداً) و”كتلة الإصلاح الوطني” (16 مقعداً) و”كتلة تحيا تونس” (11 مقعداً) و”الكتلة الوطنية” (11 مقعداً) بلائحة سحب الثقة منه.

ويدعم “الحزب الدستوري الحر” (16 مقعداً برلمانياً) وعدد من النواب المستقلين هذه اللائحة التي أصبحت بحسب معلومات من كتل نيابية جاهزة لتقدَّم إلى مكتب البرلمان لتحديد جلسة عامة لمناقشتها بعدما تجاوز عدد النواب الذين وقعوا عليها 73 نائباً، وهو العدد المطلوب دستورياً لتمرير أي لائحة لوم لسحب الثقة، والتي تبقى بحاجة إلى 109 أصوات للمصادقة عليها.

ويؤكد الناشط السياسي عدنان منصر أن عدد الأصوات اللازمة لم يعد إشكالاً لأصحاب مبادرة سحب الثقة من الغنوشي، بعد لقاء رئيس الحكومة والجمهورية وأمين عام “اتحاد الشغل”، وبعدما حسمت كتل نيابية أمرها بعد حساب موازين القوى. “ولكن يبدو أن هناك محاولة لمنح راشد الغنوشي فرصة أخرى لتجنب الوصول معه إلى حالة من الإذلال، بمعنى أن يُمنح مخرجاً من دون سحب الثقة منه. لأن ما يحدث مع حركة النهضة إلى حد ما هو مسار إذلال فتكذيب ما أورده الغنوشي بشأن المشاورات وإخراج النهضة من الحكومة ومسار سحب الثقة من الغنوشي، كلها تمضي في اتجاه غير جيد، ففي السياسة لا يجوز إذلال الخصم بطريقة مبالغ فيها إلى حد تصبح فيه الأمور مسألة كرامة، ففي هذه الحالة يصعب التحكم في ما يحصل”.