fbpx

عن عصر صناعة الرغبة والديكتاتوريات المستنيرة (4): وَصفة آنـــّا فــرويد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اعتقدت آنا فرويد أنّ بإمكانها تحرير أطفال برلنغهام وتخليصهم من اضطراباتهم بتغيير شكل العالم في أذهانهم وتصويره كحالة طبيعية، اعتقدت أنّ بإمكانها أن تدخل بيئتهم الخاصة، تتحدث مع والدتهم، ترافقهم إلى المدرسة، أن تُحيط بكل عالمهم الخارجي-الحقيقي وتؤثر فيه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هرباً من النازية، وبينما كانت دائرة العنف والقتل تزداد اتساعاً في فيينا عام 1938، هربَ عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد، وابنته “آنا”، وأفراد آخرون من عائلته إلى لندن حين كانت بريطانيا تستعد آنذاك للحرب، وفي 1939، بعد اندلاعها بثلاثة أسابيع، مات، متأثراً بسرطان الفكّ.

كان فرويد يرى أنّ في الأعماق السحيقة للنفس البشرية ثمة رغبات ومخاوف غير عاقلة وخطيرة، إن لم تتم السيطرة عليها فستودي بالمجتمعات نحو الفوضى… تَمخّضت عن أفكاره تلك العديد من الأطروحات الجادّة والمفصليّة في علم النفس، الاجتماع، الاقتصاد، السياسة، وقبل كل شيء التاريخ؛ بدءاً من استغلال إدوارد بيرنيز لها في ابتكار مهنة “العلاقات العامة” أو “البروباغندا”، مروراً بأفكار الكاتب السياسي الأمريكي البارز والتر ليبمان في “الرأي العام” حين دعا إلى ضرورة وجود “نخبة” لقيادة “القطيع الحائر”، ومروراً كذلك بوزير الدعاية النازية جوزيف غوبلز الذي ألهمته كتابات بيرنيز في حشد الجماهير وتعبئتها… وليس انتهاءاً -حتى الآن- بالحرب العالمية الثانية.

يتابع هذا المقال سلسلة تُنشر في درج تحاول توضيح كيف استَخدمَ مَن بِيدهم زمام الأمور نظرياتِ فرويد ليَحكموا الجموع “الخَطِرة” منذ بداية عصر الديموقراطية الشاملة، والإجابة كذلك على سؤال: كيف اتخَذَت الحضارة الإنسانية ذاك المنعطف الذي أودى بها اليوم ضحيّةَ صُنّاعِ الرغبات، شركاتِ الإنتاج، الاستهلاكية العالمية، وسائل الدعاية، ومن ثم الديكتاتورية بشكلها “المستنير” الحديث.

سيغموند فروند

من بين ما فعلته الحرب العالمية الثانية أنها غيّرت تعريفَي (الديموقراطية) و (الشعب) لدى الحكومة الأمريكية، سياسيون واستراتيجيون صدّقوا بصحّة فرضيّة فرويد أنّ في الأعماق السحيقة للنفس البشرية توجد رغبات ومخاوف غير عاقلة وخطيرة، وأن تلك المخاوف والرغبات أَطلقت الغرائزية التي قادت لوحشية ألمانيا النازيّة، وتركت دلائل فظيعة ومُرعبة في معسكرات الموت وغرف الغاز…. ولكي تتصدى الحكومة الأمريكية لاحتماليّة حدوث ذلك مجدداً سارعت تبحث عن وسائل للسيطرة على ذاك العدو الخفي داخل العقل البشري.

اعتقدَ من هم على رأس هرم السلطة في الولايات المتحدة أن السبيل الوحيد لتحقيق الديموقراطية وخلق مجتمع مستقر يكمن في قمع الهمجيّة القابعة أسفل سطح الحياة العادية للمواطنين، داخل (اللاوعي الأمريكي) والإنساني عموماً.

في صميم القصّة ثمة أدوار محورية لابنة سيغموند فرويد “آنا”، وابن أخيه ” إدوارد بيرنيز ” الذي أسّس مهنة العلاقات العامّة.. سيتم استخدام أفكارهما من قبل الحكومة الأمريكية، أصحاب المشاريع الكبرى، ووكالة الاستخبارات المركزيّة (CIA).. كل ذلك لتطوير وسائل التلاعب والتحكّم في العقلية الأمريكية، وبالتالي “خلق مجتمع ديموقراطي مستقر”.

مع احتدام القتال الشرس في الحرب العالمية الثانية، كانت إدارة الجيش الأمريكي تواجه أعداداً هائلة من الانهيارات العصبية بين الجنود، تقول التقديرات أن 45% من الجنود الأمريكيين آنذاك تم إخلاؤهم من المعركة وإعادتهم إلى الولايات المتحدة بسبب معاناتهم من مشاكل ذهنية، الأمر الذي دفع إدارة الجيش الأمريكي نحو الأفكار الجديدة آنذاك في التحليل النفسي.

قامت إدارة الجيش الأمريكي بالعمل على فيلم تسجيلي بواسطة كاميرات مخفيّة لتجربة شملت العديد من الجنود ممن تم إخلاؤهم.. الفيلم متوفر على نتفليكس  بعنوان “Let There Be Light 1946” لدى مقابلة أحدهم يَسأل المحلّل: 

  • يُذكر هنا في سجلّك أنّك أُصبت بحالات صُداع ونوبات بكاء
  • نعم يا سيّدي، أعتقد أن تَحليلك يُسمّيها (نوستالجيا)
  • بمعنى آخر: “التوق للوطن”
  • نعم يا سيّدي، إنها استثارت عندي قبيل الحرب بقليل، عندما استلمتُ صورة لحبيبتي…

آسف لا أستطيع المتابعة (يجهش بالبكاء)

  • لا عليك
  • أنا لا أفتعل ذلك، أرجو أن تصدّقني
  • أنا أصدّقك بالفعل، إنّ إظهار مشاعرك مفيد جداً
  • أتمنى ذلك سيّدي ..
  • إنها تشرح لك صدرك
  • حسناً سيّدي، لأكون صادق تماماً معك: 

أنا مُغرم بحبيبتي، لقد كانت الشخص الوحيد الذي أعطاني الإحساس بأهميّتي 

وبمساعدتها لي كنّا قادرين على تجاوز عقبات كثيرة …

كانت تلك التجربة هي المرة الأولى التي تنال فيها مشاعر وقلق الإنسان العادي أهميةً كبرى على مستوى حكومي؛ في العمق كان عدد كبير من علماء التحليل النفسي اللاجئين من وسط أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية قد اشتغلوا مع أطباء نفس أمريكيين لتهيئة وتوجيه المشروع، أحدهم كان البروفيسور وعالم النفس التشيكي مارتن بيرغمان، يقول: “عندما قدمت لأمريكا أوّل مرّة اشتغلتُ في الطب النفسي مع جنود يحاولون إعادة تأهيلهم، وسافرت بالقطار من الساحل الشرقي حتى الغربي، كنتُ فضولياً جداً لمعرفة كيف تسير الأمور داخل تلك المدن الصغيرة التي يمر بها القطار… لكن بعد السنوات التي قضيتها مع الجنود، صرت على دراية بما يفعله الأفراد في تلك المدن، إذ رأيت العديد منهم قادمين من هناك، تفهّمت طموحاتهم وإحباطاتهم وما إلى ذلك… وكأن أحَداً دعاني لرحلة ثريّة جداً داخل الروح الأمريكية”.

استخدمَ علماء التحليل النفسي وسائل طوّرها فرويد للعودة بأولئك الجنود إلى ماضيهم، كانوا يعتقدون بأن الانهيارات العصبية التي تعرّضوا لها لم تكن النتيجة المباشرة للمعركة، إنما ضغطُ المعركة قد أثار ببساطة كل ذكريات الطفولة القديمة لديهم، ذكريات قَوامُها مشاعر ورغبات كانوا قد دفنوها عميقاً… بالنسبة للمحللين النفسيين كان ذلك البرهان الدامغ على صحة ما جاء به فرويد، أن النفس البشرية تقودها باطنياً قوىً بدائية غير خاضعة لمعيار العقل. 

يذكر بيرغمان كذلك أن “الحرب العالمية الثانية كانت تجربة رئيسية غاية في الأهمية، لقد اكتشفتُ الدور الهائل الذي يلعبه اللاوعي في حياة معظم الناس.. يمكنني القول بأني تعلّمت أنّ النسبة بين اللاعقلاني والعقلاني في الولايات المتحدة الأمريكية تميل لصالح اللاعقلانية إلى حد كبير… ثمة تعاسة ومعاناة أكبر بكثير مما كنتُ أظن في البداية، إنه بلد أتعس مما قد يتصوّره المرء من الإعلانات والدعايات، إنه بلد إشكالي”.

حين انتهت الحرب العالمية الثانية احتفلت الولايات المتحدة الأمريكية بالنصر على أنه انتصار للديموقراطية، لكن خلف الكواليس كان صُنّاع السياسة قلقين من تداعيات تحليل الجنود، إذ بدأت تلك التحليلات تُظهر وجود قوى ودوافع غير عقلانية، ما حدثَ في ألمانيا كان يؤكد ذلك بالنسبة لهم، لقد أظهر تواطؤ العديد من المواطنين العاديين الألمان في عمليات القتل الجماعي خلال الحرب أظهرَ مدى سهولة أن تطفو تلك القوى على السطح، وتقوّض الديموقراطية بسهولة.

اقتنعَ المخططون الاستراتيجيون وصنّاع السياسة الأمريكيون بنتائج تلك التجارب على الجنود، أنَّ بمقدور البشر التصرّف بلاوعي نهائيّاً جرّاء تلك المشاعر الباطنية الخام، المزدحمة، غير الناضجة، وغير المتوقعة؛ وأنّ تلك الفوضى القابعة داخل النفس الإنسانية بوسعها أن تصيب المؤسسات الاجتماعية والمجتمع كله بالمرض، اعتقدوا أنّ في الطبيعة الإنسانية جانباً مدمّراً لايمكن تصديقه، أرعبتهم فكرة أن المواطنين الأمريكيين قد يتعاملون مع الواقع بالطريقة نفسها التي تعامل بها الألمان العاديون مع النازية، لذا فقد أرادوا تجنّب حدوث ذلك.

كان المُراد إذاً خلق (نفْس إنسانية جديدة)، تستوعب قيم الديموقراطية، وقادرة على الصمود في وجه أعدائها، وقد تعهّد المحللون النفسانيون لصنّاع السياسة بذلك، أنه يمكن للبُنية الداخلية للنفس البشرية أن تتغيّر لتُصبح أكثر مسانِد حر، وعائِل حيويّ للديموقراطية.

المواطن النموذجي

لم يعتقد المحللون النفسانيون أنهم قد فهموا تلك القوى الخطرة فحسب، إنما كيفية التحكّم بها وقَولَبتها، اعتقدوا أنّ بإمكانهم استخدام أساليبهم لــ (خلق أفراد ديموقراطيين) بعد أن فشلت الديموقراطية في فعل ذلك بمفردها (فاز الحزب النازي بانتخابات ديموقراطية، وبدعاية انتخابية تتوعّد بهجر الديموقراطية).

لم يكن سيغموند فرويد ولا الناقد السياسي “والتر ليبمان” هما مَصدر تلك الفكرة (فكرة خلق أفراد جدد/ ديموقراطيين) إنما “آنّا” ابنة فرويد التي كانت قد هاجرت مع أبيها إلى لندن قبيل اندلاع الحرب… بعد وفاته صارت آنّا قائداً مُعتبراً لحركة التحليل النفسي العالميّة، أخذَت على عاتقها تحقيق حُلم أبيها، أن تكون أفكاره مُعترفاً بها عالميّاً، وتمحوَرَت كل حياتها حول نشر التحليل النفسي.

خلافاً لفرويد الذي تصوّر دورَ التحليل النفسي في حثّ الناس على فهم دوافعهم اللاواعية، اعتقدت آنا أنه بالإمكان تعليم الأفراد كيفية (التحكّم) بتلك القوى الداخلية لديهم، وقد توصّلت إلى ذاك الاعتقاد عن طريق تطبيقها أدوات التحليل النفسي على الأطفال، بدءاً بأطفال صديقتها المقرّبة “دورثي برلنغهام“.

كانت برلنغهام مليونيرة أمريكية قد خرجت من زواج فاشل في العشرينيات؛ في العام 1925 أحضرت أبناءَها الذين كانوا يعانون نوبات اضطراب إلى آنا فرويد في فيينا حيث بدأت علاقتهما في ذلك الوقت.. حين هربت عائلة فرويد إلى لندن لحقت بهم برلنغهام واستأجرت منزلاً قريباً، ثم انتقلت في العام 1940 وأطفالها للعيش مع آنا بعد وفاة سيغموند… ما يهمّنا هو ما خلُصَت إليه آنا من تصوّرات، وأثر ذلك على برامج التأهيل النفسي في الولايات المتحدة الأمريكية.

خرجت آنا فرويد من تحليلها لأطفال برلنغهام بنظرية حول كيفية التحكم بالمحركات الداخلية للسلوك، كان الأمر بالنسبة لها بسيطاً: أن تُعلّم الأطفال ضرورة الالتزام بالقواعد المقبولة اجتماعياً، أنه إذا ما اتّبعَ أطفال برلنغهام بدقّة قواعد السلوك الاجتماعي المقبول فَسَيتعاظَم الجزء الواعي من أذهانهم (الأنا)، وستتعزز بذلك قدرة ذاك (الأنا) في صراعه للسيطرة على اللاوعي، وأنه في المقابل إنْ لم يستطيعوا التكيّف مع هذا (الأنا الجديد) فسَتَظَل الغلَبَة في أنفسهم للقوى اللاواعية والخطيرة.    

اعتقدت آنا فرويد أنّ بإمكانها تحرير أطفال برلنغهام وتخليصهم من اضطراباتهم بتغيير شكل العالم في أذهانهم وتصويره كـ حالة طبيعية، اعتقدت أنّ بإمكانها أن تدخل بيئتهم الخاصة، تتحدث مع والدتهم، ترافقهم إلى المدرسة، أن تُحيط بكل عالمهم الخارجي-الحقيقي وتؤثر فيه، وتحرص على أن ينمو الأطفال على امتداد ما يُعرّفه المجتمع بأنه (العادي) و (الطبيعي) و (المقبول).

عاد أطفال برلنغهام إلى الولايات المتحدة، واستقروا هناك لينعموا بـ (حياة سعيدة) دون أن يُدركوا أن تجربتهم تلك كانت على وشك أن تصبح نموذجاً لتجربة اجتماعية ضخمة على مستوى سكان الولايات المتحدة الأمريكية كلها.

في العام 1946 قام الرئيس الأمريكي هنري ترومان بتوقيع “المرسوم الوطني للصحة العقلية” الذي يهدف للتعامل مع “التهديد غير المرئي للمجتمع الأمريكي”، وقد كان وليداً ونتيجة مباشرة عن اكتشافات المحللين النفسيين للجنود وقت الحرب.

أقرّ المشروع بأنّ الملايين من الجنود الأمريكيين الذين تمت إعادتهم، والذي هم أصلاً “عيّنة إحصائية تمثيليّة عن عامة السكان” قد عانوا اضطرابات ومخاوف خفيّة، وأنه يجب التعامل “بسرعة وعلى الفور” مع هذا الخطر باعتبار هذا التعامل “أولوية فيدرالية” والخطر “مشكلة وطنية”، بهدف “الحيلولة دون أمراض اجتماعية في أمريكا مستقبلاً”.

من بين المخططين الرئيسيين للمرسوم كان الأخوان (كارل و ويليام مينينغر)، وهما طبيبان شهيران، كانا المؤسسين في وقت سابق عام 1941 لــ مؤسسة مينينغر التي كانت تضم عيادة، مصحّة، ومدرسة للطب النفسي (صارت في الفترة التي تلت مرسوم الرئيس ترومان أكبر مركز للتدريب على الطب النفسي في العالم)، في إطار تطبيق مرسوم الصحة العقلية ولِسدّ فجوة النقص الحاد في أعداد خبراء التحليل النفسي بدأ الأخوان مينينجر بتدريب المئات من العاملين في المجال.

اعتقد كارل مينينغر المتوفّى في تموز/ يوليو 1990، والذي يوصف بكونه “عميد الطب النفسي الأمريكي” أنه يمكن تطبيق أفكار صديقته المقرّبة آنا فرويد على نطاق واسع، ليس للأطفال فقط إنما البالغين أيضاً، إذ يَعتبر كارل أن المرضى النفسيين هم بشر معزولون داخل أنفسهم، أرهقتهم تقنيات تربوية ومعيشية خاطئة، إضافة إلى مناورات هوجاء قاموا ويقومون بها للحفاظ على سلامتهم (العاطفية)، بمعنى أنه يَعتبر المرض النفسيَّ مُستَحَثّاً من قبل المجتمع، لذا يشدد على ضرورة خلق بيئة إنسانية خاصة لهم كي يعيشوا فيها، بيئة تتلائم مع وضعهم، وهو بذلك يختلف مع سيغموند فرويد الذي يرى بأن المرض النفسي هو نتيجة لصراع داخل العقل وأن العلاج النفسي يكمن في جلسة العلاج نفسها، لا في خلق بيئة أخرى… ستصبح هذه البيئة التي يشدد على خلقها الدكتور مينيغر الولايات المتحدة كلها… كان الرجل يحب القول بأنه  “فرويدي أكثر من فرويد نفسه!”.

في أواخر الأربعينيّات بدأ المشروع الضخم في الولايات المتحدة لتطبيق أفكار التحليل النفسي على الجماهير، مئات مراكز الإرشاد النفسي تم إنشاؤها في المدن، كانت مجهزة بأطباء نفسيين كانت مهمتهم تتمحور حول (التحكم بالقوى الخفية داخل العقل الأمريكي)، وتم تدريب آلاف الاستشاريين لتطبيق أدوات التحليل النفسي في الإرشاد الزوجي، وتم إرسال الموظفين الاجتماعيين لزيارة منازل الناس، وتقديم الاستشارة بخصوص البُنية النفسية “السليمة” للحياة الأسريّة الأمريكية.

وراء كل هذا كانت فكرة آنا فرويد الرئيسية، أنه إذا تم تشجيع الأطفال على التأقلم مع القوالب المقبولة للحياة الأسريّة والمجتمعيّة عندئذٍ سيتعاظم (الأنا) لديهم، ما يمكّنهم من السيطرة على كل ما يُخالج أنفسهم، وكل ما من شأنه أن يهدد سلامة هذه القوالب المجتمعية واستمراريتها وآلية عملها.

رأى القائمون على المشروع بأنه يمكن جلب الأفضل للمجتمع من خلال تغيير الناس عبر تغيير الطريقة التي تعمل بها عقولهم، أن يتم تعظيم دور (الأنا) لديهم في استيعاب وتبنّي الأمور بوصفها (مقبولة اجتماعياً) حتى لو كانت غير متلائمة مع ما يجول في الداخل، أنَّ الطريق إلى السعادة يَكمن في التأقلم مع العالم الخارجي الأمريكي الذي يعيشون فيه دون تشكيك، لذا يجب أن تتم إعاقة كل النوازع والبواعث (الخارجة عن المألوف) بواسطة (أناهُم الصارم)، بحيث لا يتورّطون في سلوك يدمّر أنفسهم أو يؤذي مَن حولهم. 

اعتبروا كذلك أن الشخص السعيد والمتّزن هو ذاك الشخص الذي يستطيع التحكم بعواطفه ورغباته ونوازعه، الشخص الأمريكي السعيد هو من لا يعبّر عما يجول في داخله إلا حين يتعلّق الأمر بالشغف، الأمريكي هو سيّد شغفه بأسلوب الحياة الأمريكية، وهو (العاطفي، لكن بطريقة لائقة)… إلخ.

المستهلك النموذجي

كان ذلك باختصار بداية تسارع نفوذ التحليل النفسي في الولايات المتحدة… من جهة أخرى كان المحللون النفسيون على أهبة الاستعداد للدخول في عالم الـ Big Business، واستخدام أساليبهم ليس فقط لخلق (مواطنين نموذجيين)، إنما (مستهلكين نموذجيين) أيضاً.

تحدّث مقال سابق عن كيف كان إدوارد بيرنيز أول من أقنع المؤسسات الأمريكية بقدرتها على بيع المنتجات بواسطة ربطها بالمشاعر اللاواعية لدى الناس… في هذا المقال ستقوم مجموعة من المحللين النفسيين بأخذ ما بدأه بيرنيز واختراع (أساليب متكاملة) لإدارة العقل اللاواعي للمستهلك بقيادة طبيب نفسي نمساوي-أمريكي يدعى “إيرنست ديكتر“.

وُلد ديكتر -كما فرويد- لأسرة يهودية في فيينا، توقّف تعليمه المبكّر وهو في الـ14 من عمره بسبب صعوبات مالية كانت تواجهها أسرته، ما دفعه للعمل كبائع في متجر تجزئة، ورسام لافتات، والكثير من المهن الأخرى ليتمكن من تعليم نفسه، درس الأدب لاحقاً في السوربون بباريس، ونال الدكتوراه في علم النفس من جامعة فيينا عام 1934، اشتغل بالقُرب من فرويد حيث افتتح “معهد النفس-اقتصادي” أجرى فيه أبحاثاً عدة، منها ما تطرّق للعادات الغذائية لدى سكان فيينا، ما عرّضه في نهاية المطاف لمضايقات أمنية. 

في العام 1938 هرب ديكتر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأنشأ “معهد البحث التحفيزي” في قصر قديم شمال نيويورك، وقد كانت فكرة المعهد أن يكون متخصصاً في المجال البحثي لمعرفة (لماذا يسلك الناس ما يسلكونه، لماذا يشترون ما يشترونه، ولماذا يتجاوبون مع الدعاية بالطريقة التي يتجاوبون بها)، يقول ديكتر: “إننا لا نذهب ونسأل الناس مباشرةً لماذا يشترون ولماذا لا.. ما نحاول فعله هو فهم الشخصية كاملة، فهم الصورة الذاتيّة للمستهلك، إننا نستخدم كل مصادر علوم الاجتماع الحديثة، إنّ عملنا يفتح الباب أمام أساليب نفسيّة تحفيزية لبيع أيّ منتج جديد”.

ديكتر أيضاً، كان يرى أن الأمريكيين في العمق موجودات غير عاقلة، لا يمكن الوثوق بها، أنّ دوافعهم الحقيقية لشراء المنتجات كانت متجذّرة في رغباتهم ومشاعرهم اللاواعية، لذا فقد أراد إيجاد طريقة للكشف عما أسماه “الذات السرّية للمستهلك الأمريكي”.

بنى ديكتر غرفةً خاصة لإجراء تحليل نفسي جماعي على مواطنين أمريكيين للتنقيب عن دوافعهم اللاواعية تجاه عملية الشراء والمنتجات، عما إذا كانت دوافع جنسية، نفسية، اجتماعية، محاولة يقوم بها المستهلكون لطلب المكانة، أو نيل إقرار الآخرين لهم بأحقّية الامتياز، أو دوافع أخرى… 

اخترع ديكتر، وللمرة الأولى، أسلوباً كاملاً للتنقيب في لاوعي المستهلكين للبحث عن رغباتهم الخفيّة والدفينة تجاه المنتجات.. كان معهده مجهّزاً بتلفاز وعروض إعلانية متنوعة لمنتجات مختلفة، حيث يمكن لضيوفه أن يتفاعلوا، يناقشوا، ويقوموا بالمحاكاة التي يريدونها، ما لبثت تلك التجمّعات في معهده أن صارت محور الاهتمام على نطاق واسع في الولايات المتحدة، خصوصاً بعد الدراسة المعمّقة التي أجراها لصالح أغذية Betty Crocker.

كالعديد من مصنّعي الأغذية في بداية الخمسينيات، ابتكرت Betty Crocker التابعة لشركة الأغذية الأمريكية العملاقة General Mills مجموعة جديدة من الأطعمة سهلة التحضير، لكن، وعلى الرغم من أنّ المستهلكين كانوا قد أخبروا مُستَطلعي الرأي في الأسواق بأنهم سيرحّبون بالفكرة، إلا أنهم رفضوا شراءها حين تم عرضُها، تحديداً (خلطة الكعك)، لذا فقد قام ديكتر بإجراء بحث معمّق على مجموعة من السيدات، وخلُص إلى نتيجة مفادها أنهن شعرنَ بالذنب لشدة سهولة تحضيرها.

من خلال بحثه، فهم ديكتر ما يعوق استهلاك ربات البيوت للخلطة، وهو أنّهن أردن أن يُهوّنّ على أنفسهنّ بشراء كعكة سهلة التحضير لكنهنّ شعرنَ بالذنب، لذا فقد اقترح على الشركة أن ما يجب فعله هو إزالة عائق الشراء بتخليص السيدات من شعورهن بالذنب واستبداله بــ (إحساس المشاركة)، ويكمن ذلك في التنويه ضمن الإرشادات أنّ على ربة المنزل (إضافة بيضة). 

بالتأكيد، حققت الفكرة نجاحاً منقطع النظير، وتمخّضت عنها العديد من الدراسات والتقنيات في علم نفس المستهلك، لعل أبرز معالمها اليوم ما يسمى بـ تأثير إيكيا، والذي يفترض أن “الجهد المبذول لإتمام عمل ما، يَمنح حصيلة العمل النهائية قيمة إضافية”، وقد سمّي بهذا الاسم نسبة لدراسة لدى جامعة هارفارد منشورة عام 2012

نجاح ديكتر غير المسبوق قاد إلى اندفاع المؤسسات ووكالات الإعلان لتوظيف المحللين النفسيين الذين وعدوا أصحاب الشركات بكسب الملايين عبر ربط المنتجات بالرغبات الخفية لدى الناس… ديكتر نفسه صار مليونيراً شهيراً، أجرى بحثاً تسويقياً طوال ستة أشهر لصالح شركة Mattel بعد أن أزعج شكل (الدمية باربي) بنهديها البارزين سيدات المنازل لأنه بدا “إباحياً وضاراً بالفتيات الصغيرات”، وخلُص إلى أنه على العكس، عوضاً عن التخفيف من صفات باربي، على ماتيل التأكيد عليها، بوصفها ذات منظر جذاب، وأنه يجب على الأمهات اعتبارها أداة لتعليم بناتهن أهمية المنظر و “الأنوثة”، وهو ما أكسب الدمية شهرتها العالمية بعد ذلك.

لكن ديكتر كان مقتنعاً بأن عمله كان أكبر بكثير من مجرّد التأثير على عمليات البيع، كـ آنا فرويد، كان يرى أنه يمكن استخدام البيئة لتقوية الشخصية الإنسانية، وأنّ للمنتجات القدرة على الكشف عن الرغبات الداخلية، وإعطاء الناس شعوراً بالهوية المشتركة مع من حولهم، أنَّ البحث في الرغبة وصناعتها هي استراتيجية لـ “خلق مجتمع مترابط ومستقر”، أسماها ديكتر “استراتيجية الرغبة”، وذلك في كتابه الشهير الذي يحمل العنوان نفسه (The strategy of desire) المنشور عام 1960.

نجاح ديكتر غير المسبوق قاد إلى اندفاع المؤسسات ووكالات الإعلان لتوظيف المحللين النفسيين الذين وعدوا أصحاب الشركات بكسب الملايين عبر ربط المنتجات بالرغبات الخفية لدى الناس…

يقول: “عليك أن تعرف أنّ الإنسان الحديث يُحاول في الكثير من الأحيان التخلّص من إحباطاته عبر زيادة الإنفاق على إرضاء ذاته، الإنسان الحديث مستعدٌ أبداً لأن يمتلئ زَهواً بصورته الذاتيّة عبر شراء المنتجات التي تتكامل وإيّاها”؛ ويرى أنّ تعريف الإنسان لنفسه بواسطة منتَج استهلاكي قد يحمل قيمة علاجية، ويساعد الإنسان في تحسين صورته الذاتية ليصبح أكثر أمناً، ويمتلك الثقة للخروج إلى العالم، وأنَّ من شأن ذلك أن يعود على المجتمع كله بالخير!.

كان صعود نفوذ التحليل النفسي في الولايات المتحدة تتويجاً استثنائياً لآنا فرويد وأفكارها التي اشتغلت على ترويجها بجدّ… بعد مغادرة أبناء برلنغهام إلى الولايات المتحدة اشترت هي ودورثي بيتاً ريفياً في قرية تدعى  Walberswick على الساحل الشرقي لبريطانيا، وهناك عاد الأبناء والأحفاد لزيارة دورثي الوالدة والجدّة… 

في العمق لم تكن الأمور تسير على ما يرام، اثنان من أبناء دورثي حلّلتهما آنّا مطلع الثلاثينيات (بوب و مابي) كانا يعانيان انهيارات عصبية، انهار زواجهما، أدمنَ “بوب” على الكحول، وعانت “مابي” من نوبات قلق واكتئاب حادة… يبدو أنّ وصفة آنا فرويد لآل برلنغهام لم تنجح، إذ اتّضح أن سبب الزيارة كان رغبةً منهم لاستكمال المزيد من جلسات التحليل النفسي مع آنا.

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.