fbpx

العراق: جلال ذياب كاسر عصا العنصرية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عاش أجداد جلال ذياب في مناطق المستنقعات في البصرة، معرضين للأوبئة الفتاكة في بيئة تتسم بالقسوة المناخية، فضلاً عن عملهم المرهق في استصلاح الأراضي وتجفيف المستنقعات كان طعامهم لا يكفي لمواجهة ظروف العمل كـ”عبيد”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هذه الحكاية قد تبدو أقرب إلى فيلم سينمائي منها إلى الواقع. كثيرون ربما ستُدهشهم معرفة أن في العراق حكاية كهذه، وأن بلاد الرافدين فيها حوالى 400 ألف أفرو- عراقي، أي أنهم عراقيون ذوو بشرة سوداء يعيشون في مختلف أنحاء البلاد، وخصوصاً في البصرة في الجنوب. وأن هناك رجلاً دفع حياته في مواجهة سياسيات التمييز العنصري ضد الأفرو- عراقيين، وهذه حكايته.

حين التقيته عام 2009 كان جلال ذياب، مؤسس “حركة العراقيين الأحرار”، قد علّق صورتيّ مارتن لوثر كنغ وباراك أوباما على حائط مدرسته لتعليم فقراء العائلات الأفرو-عراقية بعد فوز الرئيس أوباما بمعركة الرئاسة الأميركية. وكانت الصورتان تشيران إلى صحوة هوية غير متوقعة في مناطق الأقلية الأفرو-عراقية في البصرة تتحدث عن عراق آخر “ممكن” يتم تخيّله في نضال المدافعين عن المساواة ومكافحة التمييز العنصري. وبقوة إلهام هذه “الأيقونة” استيقظ التاريخ الذي تم إسكاته في كتب المؤرخين العرب المسلمين لهذه الفئة المستبعدة والمهمّشة، مع طمس قصص خطف وشراء أجداد جلال من أفريقيا ونقلهم إلى العراق على يد تجار الرقيق العرب، فضلاً عن إسكات صوت ثورتهم التي طُمرت في كتب التاريخ العربي.

حين وزّع الخلفاء المسلمون في العصور الأموية والعباسية مقاطعات شاسعة على قادة الجيوش المحاربة التي غزت العالم في أقاصي الشرق والغرب، استخدم هؤلاء القادة “ذوي البشرة السوداء” في إصلاح الأراضي وزراعتها. عمل عشرات الآلاف منهم في ظروف قاسية، انتهت إلى ثورتهم في أكثر من مناسبة، استمرت أشهَرها والمعروفة بـ”ثورة الزنج” مدة 15 عاماً (بين سنة 869 – 883)، التي انطلقت في مدينة جلال ذياب نفسها (البصرة). وقد رافقت القمع الذي واجهته الثورة إجراءات لتقويض القوة السوداء المتمردة على سلطة خليفة المسلمين. 

وقد يكون الانتقام السلطوي بعد ذلك من الثوريين الدّاعين إلى المساواة هو السبب في دفن هذا التاريخ وطمره. إذ إن هناك ندرة في ما كُتب عن الأفريقيين التعساء هؤلاء، ولا تتوفر محاولات بحثية معاصرة تعكس معطيات جديدة؛ هناك استثناءات قليلة مفيدة في رسم خلفية تاريخية عنهم، مثل كتاب المؤرخ والوزير العراقي السابق فيصل السامر “ثورة الزنج” الصادر عن مؤسسة المدى، في بغداد، عام 2000، وهو في الأصل نسخة معادٌ طبعها من دراسة السامر التي نُشرت لأول مرة في بغداد عام 1952.  وبعد نشرها بنحو تسع سنوات ظهرت دراسةٌ أخرى في بيروت حملت عنوان “ثورة الزنج وقائدها علي بن محمد” للباحث أحمد علبي في 1961. عدا ذلك يمكننا القول إن أحفاد الأفرو-عراقيين لم يكتبوا قصص عذابات أجدادهم. في المقابل، برزت صورة سلبية عنهم وعن ثورتهم في كتب التاريخ الاسلامي، ولم يتحرر من تأثيرها حتى الباحثون والمؤرخون المسلمون المعاصرون.

أما الكتابات التي تمردت على قولبة الثورة وأصحابها، فكانت تستند إلى حس ثوري أو بالأحرى عكست قراءة يسارية الطابع لحراك ذوي البشرة السوداء بوصفه ثورة اجتماعية ضد الظلم والسلطة الغاشمة في الفترة العباسية، كما تناولها الكاتب اليساري اللبناني حسين مروة في كتابه “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”. 

عاش أجداد جلال ذياب في مناطق المستنقعات في البصرة، معرضين للأوبئة الفتاكة في بيئة تتسم بالقسوة المناخية. وفضلاً عن عملهم المرهق في استصلاح الأراضي وتجفيف المستنقعات كان طعامهم لا يكفي لمواجهة ظروف العمل كـ”عبيد”، وكانت بنيتهم الاجتماعية مفككة بسبب عيشهم بعيداً من أوطانهم الأصلية. وتعيّن عليهم نقل الملح على ظهور البغال إلى الأسواق، ومنهم من عمل في بيوت التجار والأغنياء والمتنفذين. وبعدها أصبح أطفالهم جزءاً من تركة ورثها أغنياء البصرة ورؤساء عشائر الجنوب وإقطاعيو العوائل المتنفذة، وتراكمت قصصهم عبر القرون لتكشف عن ثقافة لم نتحرر من رواسبها وتأثيرها حتى اليوم.

هناك ندرة في ما كُتب عن الأفريقيين التعساء هؤلاء، ولا تتوفر محاولات بحثية معاصرة تعكس معطيات جديدة

كان جلال ذياب – الذي أطلق عليه لقب “مارتن لوثر كنغ العراق” بعد اغتياله عام 2013 –الرجل الذي أحيا كل هذا التاريخ المستتر الذي أغفلته كتب التاريخ، وربط بين الذاكرة الجريحة لماضي الأفرو-عراقيين وبين وعود التحرر منها في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي. كما جذب الانتباه إلى قوة أخرى للتغيير، يساهم الأفرو-عراقيون من خلالها في إثراء تنوع العراق وتعدديته بحيويتها المدهشة، إذ غالباً ما استعمل الأفرو-عراقيون عناصر ثقافتهم الشفهية للحفاظ على هويتهم عبر الزمن، وانتقلت طقوسهم من مؤسسيها إلى أبنائهم لتحافظ على ذاكرتهم وتصبح عامل تسلية وسط الظلم. ومن أبرزها طقوس النوبان (من النوبة في جنوب مصر)، وطقوس الحبوش (من الحبشة أيّ إثيوبيا حاليّاً). وهناك طقوس أخرى تعود إلى المناطق الساحلية من كينيا، وقبائل البمباسا تحديداً، وهي طقوس جاءت من طريق تجارة الرقيق في عصر الدولة العباسيّة الأوّل، أيّ بين عامي 750 و785. وبعد استقرار هؤلاء “الرقيق” في البصرة، بدأوا تكوين مجتمعهم الصغير وممارسة طقوسهم. وتستدل ثورة يوسف، الخبيرة في التراث الشعبيّ للأفرو-عراقيّين، على أصولهم الأفريقية بالطقوس الشعبيّة التي يمارسونها منذ قرون في أماكن خاصّة يطلقون عليها تسمية “المكايد”، وفي مناطق محدّدة من محافظة البصرة، منها قضاء الزبير وقضاء أبي الخصيب. وكتبت الخبيرة التي تنتمي إلى مجتمع البصرة الأفريقي أطروحتها للدكتوراه عن هذه الطقوس.

كاد هذا الحراك من خلال شخصية جلال ذياب يتحول إلى ثورة اجتماعية ضد التمييز العنصري، محاولاً استعادة صدى مطالب “ثورة الزنج” بالعدالة الاجتماعية، وربط نضال الثوار القدماء بالمطالب المعاصرة لأحفادهم الذين لا يزالون يعيشون في البصرة. وفي ظل انشغال وسائل الاعلام في التركيز على صور العنف الطائفي وعدم الاستقرار في البلاد، لم ينتبه أحد إلى سر المعجزة الصغيرة التي تحدث في البصرة، إذ أسّس جلال ذياب، مع رفاق له، أول إطار سياسي في الشرق الأوسط يعبّر عن ذوي البشرة السوداء.

كان جلال ذياب هو الثوري الذي تجرأ على كسر عصا المتنبي في مجتمع الأفرو-عراقيين، فقد كانت أوضاع هؤلاء المنسيين راكدة إلى حين ظهور الجانب الثوري في شخصية جلال

بدأت مطالب الحركة تتطور على يد جلال للتّمثيل ضمن نظام الكوتا، أسوة بغيرهم من الأقليات، سواء على صعيد البرلمان الوطني أو على صعيد الحكومات المحلية. لكن يبدو أن نضالهم لم يسفر عن تحقيق نتائج ملموسة. سالم شعبان كان أبرز المرشحين من الحركة الذين خسروا الانتخابات غير مرة. وسالم رياضي معروف، حاز بطولة آسيا في الملاكمة عام 1971، ترشح عام 2010 ونال ما يزيد على ألفي صوت، كما حصل زملاؤه على أصوات متفاوتة، لكن لم ينجح أي منهم في الحصول على مقعد في مجلس المحافظة، “فقد كانت التيارات والأحزاب المنافسة تمتلك موارد هائلة ووزعت أموالاً وإعانات دفعت الناس للتصويت لهم، في حين لم نتملك نحن سوى وُعودنا الانتخابية”، يقول سالم. لكن ما لا يفصح عنه سالم هو خوف الأحزاب والتيارات السياسية المسيطرة على الأرض من خسارة أصوات الأفرو- عراقيين من خلال تقدم مرشحين افرو- عراقيين للانتخابات، وهذا ربما يفسر اغتيال جلال ذياب عام 2013، والذي شكل ضربة قاصمة لطموح هذه الأقلية المهمشة اجتماعياً، الأمر الذي ترك أثره على الناشطين الآخرين الذين كانوا يعملون مع جلال أو بشكل مستقل عنه، من الذين حاولوا نشر الوعي في صفوف هذا المجتمع المهمش.

ذابت هوية الأفرو- عراقيين المميزة بسبب وجودهم في كنف العشائر العربية المسلمة في جنوب العراق، وارتباطهم بموروثها الشعبي، واتباعهم معتقداتها الدينية ومذاهبها وأعرافها، وتفرقوا إلى مذاهب فأصبحوا شيعة وسنة، وتحول بعضهم إلى اليسار عسى أن يجد في ظل أيديولوجيا كونية تقبلاً يخلصه من الإحساس بالدونية، ومنهم من انخرط في الأحزاب القومية العربية التي وصلت إلى السلطة في أكثر من بلد عربي عساه يجد في ذلك تعويضاً واعترافاً. وصعد نفوذ أحزاب الإسلام السياسي بعد عام 2003 التحق بها الأفرو-عراقيون، لكن من دون أن يسفر ذلك عن تحسّن في أحوالهم.

خلال لقائي أحد أعضاء الحركة عام 2012، حدّثني عن معاناته في المدرسة من احتفاء الأساتذة والتلاميذ بقصيدة المتنبي الشهيرة في هجاء كافور الإخشيدي (عيد بأي حال عدت يا عيدُ)، فكانت نظرات الأطفال تنهال عليه جلداً، كلما تردد في الصف البيت الشهير “لا تشتر العبد إلّا والعصا معه/ إن العبيد لأنجاس مناكيد”. كانت عصا العقاب في المدرسة بالنسبة إلى هذا الطفل وغيره من الأطفال من ذوي البشرة السوداء، أهون كثيراً وأخف في ضرباتها من تلك العصا المتخيلة التي وردت في قصيدة المتنبي. يقول “كنت أعاني من هذا البيت الشعري الذي تحول إلى خيمة كئيبة تغطي حياتي، لم يكن أحد من حولي يشعر بأن هذا البيت الشعري يتحول عصا حقيقية تضرب روحي وتحطمها، فما أن يخرج الأستاذ من الصف حتى يلتفت إليّ الطلاب بالسؤال: أيها العبد أين عصاك؟”.

كان جلال ذياب هو الثوري الذي تجرأ على كسر عصا المتنبي في مجتمع الأفرو-عراقيين، فقد كانت أوضاع هؤلاء المنسيين راكدة إلى حين ظهور الجانب الثوري في شخصية جلال، الذي عمل على تحدي ثقافة تقليدية قائمة على السمع والطاعة معرّضاً تمظهراتها الدينية للمساءلة، إذ إن جلال كان يرى أن قراءة حرفية للنص الديني سوف تظل تعطي شرعية لأوضاع السود المهينة، على رغم الدساتير التي تُكتب، وجلسات البرلمان التي تُعقد، والصناديق التي تُنتصب في كل دورة انتخابية، والضجيج الذي يعلو كل مساء لدعاة الديمقراطية والتمدن في ظل الاحتلال الأميركي.

كان جلال ذياب بمثابة نبي أو شفيع أو “بابا” للسود العراقيين، ظهر لكي يعلن عقيدة جديدة، فقد أصبحت جمعيته “أنصار الحرية الإنسانية” مثل كنيسة فقيرة، كانت مقراً يزوره “المؤمنون” بقضيته وينالون بركة ولادتهم الجديدة، ويشاركون في النشاطات المفيدة التي يقيمها جلال كتعليم المهن الحرة واللقاءات الثقافية والإجتماعية، وقبل أن يتنبّه جلال إلى رمزية المكان التي أخذ يحتلها في صناعة هوية سوداء، تحوّل المبنى إلى مزار “مقدس”، واصطبغ جداره في منطقة الآثار في الزبير بالحناء.

قبل ظهور “البابا” جلال كان الناس يلجأون عادة إلى شيوخ العشائر إذا حصل خلاف أو حدثت مشاجرة، ومع الدور الذي اضطلع به جلال لجهة تحريض الناس على التحرر من سلطة العشائر والمذاهب، خسر الشيوخ دورهم ومنافعهم، وجُرّدوا من سلطة إذلال الناس لقاء خدمات أو وساطات لحلّ مشكلاتهم. كان جلال ذياب بإيقاظه هذه الروح قد تخطى فعلاً الخط الأحمر، وتحدى أكثر من سلطة رمزية وفعلية حوله.

الحلم الذي أيقظه جلال ذياب تم إسكاته بالرصاص عام 2013، فقد مثّل هذا الحراك تهديداً لأحزاب الإسلام السياسي التي كانت تفرض ثقافة مختلفة في البلاد

حوّل جلال جمعيته إلى مولد للفرح. أنشأ صندوقاً لمساعدة الأفرو- عراقيين على إحياء حفلات زواجهم، وتوفير جميع مستلزمات تنظيم الأعراس، فروح الفرح المطلق الذي كان يهيمن على قصة الأفرو-عراقيين الحزينة، كان خزان بهجة لا ينضب. لكن يبقى الإنجاز الأهم لجلال، هو إنشاء مدرسة لمحو أميّة الأفرو- عراقيين، والتركيز من خلال دروسها على تثقيفهم اجتماعياً. وقد انتصب مبنى الجمعية مثل سفينة نوح في وسط طوفان عشوائيات الأفرو- عراقيين. فتحت سفينة البابا الأسود أبوابها لمن يرغب في الانعتاق من الغياب والنسيان.

لكن الحلم الذي أيقظه جلال ذياب تم إسكاته بالرصاص عام 2013، فقد مثّل هذا الحراك تهديداً لأحزاب الإسلام السياسي التي كانت تفرض ثقافة مختلفة في البلاد، وكانت تنظر إلى هذه الحركة كعارض للتأثير الأميركي المُضرّ، والذي قد يهدد الهوية الإيديولوجية التي فرضوها قسراً على الناس.  

بعد مرور سبع سنوات على اغتياله، أيقظ مقتل جورج فلويد الحلم من جديد. عادت روح جلال ذياب لتحتل كوابيس العنصريين وتنقضّ عليهم ليلاً نهاراً.