fbpx

الموصل : سجون منزلية وقيود معدنية تفتك بالمضطربين ذهنياً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مقيداً بالسلاسل وبرقابة أهلهِ الصارمة، يعيش مروان منذ نحو ثلاث سنواتٍ مسجوناً في قبوٍ ضيقٍ أسفل المنزل وسط مدينة الموصل (405 كلم شمال بغداد)، يبكي تارة ويضحك طوراً، ثم تتقلص ملامح وجهه فجأة ويصرخ بغضب، “سأقتلكم جميعاً”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مروان (27 سنة)، واحِدٌ من عشرات ممن يعانون معضلات عصبية وذهنية في الموصل، الذين عمد ذووهم إلى حجزهم في المنازل خوفاً عليهم من إيذاء أنفسهم أو الآخرين، في ظل افتقار المدينة إلى مراكز صحية توفر لهم العلاج والرعاية النفسية وتتعامل معهم بنفس طويل، ما جعل حبسهم يزيد من حجم الانتهاك ويفاقم من حالتهم.

“كان مستلقياً بجوار النافذة عندما حدث الانفجار وتناثر الزجاج فوقه. بعدها لم يعد ابننا الذي عرفناه”.

هكذا يصف والدهُ (57 سنة) التغير الذي طرأ عليه إثر قذيفة الهاون التي سقطت على باحة منزله في حي العكيدات بالمدينة القديمة، عند بدء مرحلة تحرير الجانب الأيمن للموصل مطلع 2017، إذ حوصر هناك آخر ما تبقى من مقاتلي تنظيم “داعش”.

وتابع بينما كان مروان ببشرته السمراء ونتف اللحية في وجهه يجلس بصمت على فراش ممد في أرضية السرداب، ويبتسم بين حين وآخر، قبل أن يعدل جلسته لتظهر سلسلة حديدية مربوطة بمفصل قدمه اليسرى، فيما الطرف الآخر مربوط بحلقة أسفل زاوية السرداب:”لم ننتبه للأمر، فالحرب كانت بدأت والسماء تمطر قنابل وصواريخ على المنازل. لكن بمرور الساعات واعتيادنا على الخوف اكتشفنا أن مروان تحول إلى شخصٍ آخر تماماً، يتصرف بغرابة ويتلفظ بأشياء غير مفهومة ويصبح عدائياً جداً”.

مروان يجلس مقيدا بالسلاسل في منزل ذويه

نجت العائلة المؤلفة من الأبوين وثلاثة أبناء أكبرهم مروان بعد مجازفة خروج أفرادها وفرارهم عبر الأزقة لتتلقفهم أيادي قوات الأمن العراقية. كان هذا قبل أيام قليلة فقط من تسوية منزلهم الصغير بالأرض كما حدث لنحو 11 ألف وحدة سكنية أخرى طحنتها الحرب في المدينة القديمة.

أسابيع من القصف المتبادل والهجمات بمختلف الأسلحة التي تسببت بدفن آلاف الاشخاص تحت الأنقاض بينهم أسر كاملة، وسنوات قبلها من قصص القتل والخطف والتعذيب على يد مقاتلي التنظيم، تركت في نفوس مئات من أهالي المدينة آثاراً نفسية، تتطلب رعاية خاصة لا تتوفر في المدينة التي ما زالت مستشفياتها ومراكزها الصحية العامة بخدماتها البسيطة، تنتظر إعادة البناء والتأهيل.

أخذ نفساً عميقاً وعينه اليسرى السليمة على مروان، لأن الأخرى كان أطفأها بلطمةٍ قوية حين اعترض طريقه في واحدة من محاولاته المتكررة للهروب من المنزل: “إنه مصاب بمشكلة في الدماغ ويحتاج إلى أدوية غالية، لا أقوى عليها فأنا بلا عمل، والحرب أفقدتنا بيتنا والأشياء القليلة التي كنا نملكها. وبالكاد أدفع بدل ايجار هذا البيت الذي انتقلنا إليه، فلا خيار أمامنا سوى إبقائه هنا في السرداب وأخشى أن ذلك سيستمر فترة طويلة جداً”.

انتهت الحرب وتوقفت نيرانها، لكنها لم تنتهِ بالنسبة إلى مروان وهو بين جدران سجنه، فرحاها ما زالت دائرة في مكان ما في رأسه ويعبر عنها بحركات وتشنجات مفاجئة، كالتي حدثت له يوم انفجرت تلك القذيفة، ثم يعود إليه صفاؤه وتختلط ضحكته ببكائه. مروان ككثيرين مثله يعيش ظروفاًَ رهيبة في ظل احتجازه بالسلاسل. والمعاناة تبدو أكثر تعقيداً حيال الأهل الذين لا يملكون لا المعرفة ولا القدرة للتعامل مع هكذا حالات.

يقول والده بكلمات مرتجفة: “انتهت الحرب، كثيرون فقدوا أبناءهم وضمدوا جراحهم ومسحوا أحزانهم، لكن جراحنا لا تنطفئ أبداً… نموت كل يوم حين نراه بهذا الحال”.

الافتقار لمراكز علاجية

تعلق استشارية الأمراض النفسية الدكتورة أسماء غانم حسين، على وضع مروان، مشيرةً إلى أنه يعاني من حالة مرضية شديدة “تحتاج دخولاً طويل الأمد في مركز متخصص يوفر له العلاج والمتابعة الطبية من فريق متكامل يتضمن طبيباً ومعالجاً نفسيين”.

ونبهت إلى أن حبسه وتقيده تصرف خاطئ يُفاقم وضعه، كما أنه منافٍ لحقوق الإنسان التي من ضمنها حق الفرد في العلاج الصحيح، “اضطر أهله إلى القيام بذلك لكونه أصبح خطراً عليهم أو خطراً على نفسه. للأسف مدينة كبيرة بحجم الموصل تضم مليوني إنسان لا تمتلك مراكز علاجية أو مستشفى متخصصاً لهذه الحالات. وعلى مستوى البلاد هنالك فقط مستشفى الرشاد في بغداد مخصص للعلاج النفسي طويل الأمد”.

“حدث له الأمر ذاته وهو بعمر ست سنوات” تقول أم مروان، وهي تقرب منه طبقاً من البلاستك فيه شرائح تفاح تلقفها بيديه والفرحة في وجهه. 

“كان مع ابن عمه عندما سقط على رأسه من فوق جدار المنزل الخارجي الذي كانا يتسلقانه. كانت تأتيه بعدها حالات يرتجف فيها ويتخشب جسمه. قال أطباء إنه عانى من الصرع وآخرون قالوا إن ذلك من تأثير صدمة الرأس. لم يتعافَ تماماً بعد ذلك لكنه أصبح أفضل بكثير بمرور الأشهر والسنوات. حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم”.

رمقته بنظرة حنان فقابلها بقهقهة. وتابعت: “في كل يوم أقول لنفسي إنني سأفتح الباب وأجده سليماً. حتى لو لم يشفَ بالكامل، على الأقل أن يستطيع الاعتماد على نفسه في بعض الأشياء فأنا ووالده لن نكون إلى جانبه إلى الأبد”.

تحرص العائلة كل يوم، على إعطائه الأدوية التي أوصى بها آخر طبيب اطلع على حالته وهي مجرد مهدآت، تفقد فاعليتها يوماً بعد يوم بسبب تأزم حالته.

أم مروان، بررت تقييد الفتى بالسلاسل وحجزه في قبو البيت، قائلة بكلمات مرتجفة، وهي تشيح بوجهها جانباً قبل أن تنظر إليه مجدداً: “يحاول الهروب من المنزل… آخرها قبل شهرين، فبمجرد أن فتحت قفل السلسلة من رجله حتى دفعني بقوة وهرب مسرعاً إلى الخارج. وبعد يومين عثرنا عليه بمساعدة جيراننا وكان في وضع سيئ جداً، هو لا يدرك ما يفعله”.

وإلى جانب محاولة فراره الناجحة تلك هنالك محاولات فاشلة كثيرة، منعت بعضها الأقفال على الباب الخارجي الموصد على الدوام تحسباً. وقد أحبط الأبُ إحدى محاولات الفرار، وأصيب بعاهة دائمة في عينه جراءها. 

نظرة المجتمع 

ردد مروان اسم أمه بإلحاح وهو مقرفص على فراشه بجانب جدار القبو الذي قشرت الرطوبة طلاءه الأصفر. قالت إنها طريقته إذا احتاج إلى شيء. أخذتها نوبة بكاء قبل أن تتمالك نفسها وتقول: “إذا تركناه يخرج، سيشير إليه الناس بأنه مجنون وسيقولون هذا بيت المجنون. وربما يؤذي أحداً فنتحمل نحن المسؤولية. وإذا بقي على حالته هذه سيقولون إن أهله ظالمون يحبسون ابنهم في السرداب ويربطونه بالسلاسل كالحيوان”. 

قصة وجع تكاد تكون موحدة لذوي المصابين بإعاقات وتأخر ذهني، إذ يتكبدون عناء رعايتهم الشاقة ويحاولون قدر المستطاع تجنب نظرة المجتمع القاسية. لذلك يفضلون إبقاءهم داخل المنازل تحت رقابتهم المباشرة، بعيداً من الأعين المتربصة ونظرات الشفقة أو الخوف والصدمة.

قبل الحرب كان في الموصل عددٌ من مراكز الصحة النفسية، أبرزها في حي المهندسين شمال شرقي المدينة، لكنها أصبحت خارج الخدمة الآن. ومستشفيات المدينة الناجية من الدمار تحوي ثلاثة أقسام نفسية والعلاج فيها موقت وهي ليست مؤهلة لمتابعة الحالات المزمنة.

كما أن أهوال الحرب وصعوبة الوضع الاقتصادي أثقلت على الأهالي بسبب خسارة منازلهم وممتلكاتهم، هذا الواقع بالاضافة الى ضعف الثقافة الصحية والنفسية والفقر دفع بالاهل الى التعامل مع ذوي الحالات الخاصة على هذا النحو أي حجرهم وتقييدهم بالسلاسل.

السجن داخل باحة

عائلة الشاب فائز التي تقطن حي الطيران في الجانب الأيمن للموصل تخوض هذه التجربة منذ 10 سنوات، وبخلاف مروان، لا يتم ربطه بالسلاسل وإنما تغلق أبواب غرف المنزل ذات الطراز الشرقي، والمطلة على باحة واسعة مكشوفة، ويغلق الباب المعدني الخارجي بالقفل وتمنح له حرية التجوال في الباحة ليدور فيها ساعات وساعات بلا كلل أو ملل.

يحاول الأب الذي يعمل نجاراً الإبقاء على هامش أمل باستعادة ابنه من هوة المرض السحيقة التي انحدر إليها. لكنه يشكو من غياب أي جهة طبية متخصصة يلجأ إليها. والأبواب التي طرقها لم يحصل منها سوى على حفنة أدوية مسكنة لا غير. وهي غير كافية، على حد قوله.

يتلاشى صوته ثم يقول: “لقد جاوز عمره الآن العشرين. أحياناً يرق قلبي فأفتح له الباب الخارجي لكي يجرب الخروج تحت مراقبتي. لكنه يكتفي بمد رأسه ويعود ليكمل دورانه”.  

الطبيب الذي أشرف على حالة فائز رجح أن يكون المرض منتقلاً إليه بالوراثة. فتاريخ العائلة يشير إلى حالة مشابهة كان يعاني منها عم له. ولم يستبعد بحسب والد فائز أن يكون خلل ما قد أثر في دماغه وهو جنين في بطن أمه.

تكتم على الفتيات

الباحث الاجتماعي وعد محمود، يلفت إلى أن العائلات غالباً ما تتكتم على الحالات المرضية لأفرادها ولا سيما إذا كنّ إناثاً بسبب ما سمّاه الحرج الاجتماعي، وهو ما يعني وجود الكثير من الحالات التي يتم إخفاؤها وتقييد حريتها، على رغم حاجتها الشديدة إلى العلاج.

ويقول انه في مدينة كالموصل ذات طابع محافظ حد التشدد في بعض الأمور كالزواج، يتم التحري كثيراً عن سيرة العائلة قبل أن يتقدم الشخص لطلب يد فتاة منها، ويتم تجنب الاقتران من عائلة فيها شخص يعاني من مرض عقليّ، خوفاً من العامل الوراثي وانتقاله إلى النسل. 

ويشير محمود إلى أن هناك أهالٍ يائسون “يطرقون الباب الخطأ، فيلجأون الى العرافين والمشعوذين بذريعة أن الحالة التي لديهم مس شيطاني أو تلبس جن فتتفاقم الحالة جراء هذا، ولا يقرون بأنه مرض عقلي شأنه شأن أي مرض آخر يستلزم علاجاً ومتابعة طبية”.

وفي ظل عدم وجود مراكز علاج متخصصة ومع تكتم عائلات على الحالات المرضية لديها، لا جهة تعطي أرقاماً عن عدد تلك الحالات، لكن متابعين يقدرونها بالمئات.

سجن في المخيم

وفي بيئة فقيرة قليلة الاطلاع يجري الخلط بين حالات مختلفة، فمثلاً من يعانون من التوحد يمكن تنمية قدراتهم في مجالات عدة وبعضهم برع فيها لكن هنا يجري التعامل مع الجميع بصفتهم يعانون مرضاً واحداً. يزيد من سوء التصرف حيال الحالات الخاصة هذه حين تكون المصابة فتاة.

ففي مخيم حسن شامي للنازحين شرق مدينة الموصل، لم يجد والد المراهقة زهر (14 سنة) المصابة بالتوحد، حلاً لكبح جماح نشاطها المفرط سوى ربطها بسلسلة معدنية داخل خيمة بجوار خيمة العائلة. ويجلس هو على مقعد في الخارج لحراستها طوال النهار. 

السلسلة التي طوقت خصر زهر وربطت بهيكل الخيمة الحديدي لا تمنحها سوى مساحة من الحركة لا يتجاوز قطرها المترين، تشكل عالمها الذي تعيش فيه. يقول الأب وهو موظف متقاعد إنه يشفق على ابنته كثيراً لكن لا خيار أمامه غير حبسها خوفاً عليها مما هو أسوأ من مرضها بحسب تبريره.

كان والدها يشير إلى خوفه من الاعتداء عليها.في ظل غياب مراكز علاجية نفسية متخصصة، لن يكون لأمثال مروان وزهر وفائز سوى الشارع والتشرد فيه إذا ما تخلت عائلاتهم عن صبرها، وهو حال آخرين يتجولون اليوم طلقاء في أزقة الموصل، لكن بلا رعاية ولا مأوى، يتهددهم المرض والجوع وتنالهم الانتهاكات. وقد عرفت المدينة كثيرين منهم خلال العقود الأخيرة نتيجة الإهمال والحروب المتلاحقة، وقد اختفى معظمهم في معارك التحرير من “داعش” دون أن يعرف أحد بمصيرهم.

أنجز التقرير بدعم من شبكة نيريج للصحافة الإستقصاية 

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!