fbpx

ألمانيا تحاكم نظام الأسد: أين الإعلام والمنظمات الحقوقية العربية؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لماذا هذا التعتيم على المحاكمة من الإعلام الوطني الخاص والحكومي في الدول العربية، وعدم متابعة الجلسات من وسائل الإعلام العابرة للحدود، وعدم تناولها بالتحليل العميق والقانوني، بخاصة أن الخبر السوري مصدر اهتمام كبير وتغطية شبه دائمة فيها؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ترافق انطلاق محاكمة اثنين من ضباط الأمن البعثيين السوريين في ألمانيا بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية مع غياب الاهتمام الإعلامي العربي الإقليمي بالقضية، على رغم أهمية هذه المحاكمة في مكافحة الإفلات من العقاب في المنطقة العربية. تسعى هذه الورقة إلى فهم هذا النقص في التغطية في وسائل الإعلام العربية وغياب اهتمام المنظمات الوطنية والإقليمية لحقوق الإنسان، كما تسلط الضوء على تداعيات المحاكمة على سوريا ومدى تأثيرها في تعزيز المساءلة والحساب والبحث عن العدالة للضحايا. 

أنور رسلان في قفص المحكمة الألمانية

في 23 نيسان/ أبريل، بدأت محاكمة عنصرين سابقين في المخابرات السورية في ألمانيا، متهمين بجرائم ضد الإنسانية، تشمل التعذيب والقتل والاعتداءات الجنسية والإخفاء القسري، أثناء عملهما في جهاز الاستخابرات السورية العامة. وصف حقوقيون وأكاديميون ومنظمات دولية حقوقية المحاكمة بالتاريخية والأولى من نوعها. كما تناولت وكالات الأنباء الدولية ووسائل الإعلام الكبرى الخبر باهتمام ملحوظ. وعلى رغم عقبات السفر وإجراءات التباعد المتعلقة بـ”كوفيد-19″، اصطفّ الصحافيون منذ ساعات الصباح الأولى للدخول إلى المحكمة. لكن المفارقة أن هذه المحاكمة لم تحظ بالتغطية الإعلامية ولا بالاهتمام القانوني والحقوقي في الأوساط العربية، مع أن قانون قيصر المرتبط أساساً بعمليات تعذيب وقتل وسواها من ارتكابات النظام نال اهتماماً أوسع في الإعلام العربي. فما هي الأسباب؟

ذكرت وسائل إعلام وطنية في مختلف الدول العربية المحاكمة عبر خبر أو تقرير مختصر بينما لم تتطرق غالبيتها إليها مطلقاً. فيما لاقت المحاكمة اهتماماً أوسع لدى وسائل الإعلام الدولية بنسخها العربية، مثل “دويتشه فيلله” الألمانية، و”بي بي سي عربي” البريطانية، و”تي أر تي” التركية و”الحرة” الأميركية. كما أن وسائل الإعلام العابرة للحدود كـ”الجزيرة” و”العربية” تداولت المحاكمة باهتمام. 

لماذا إذاً هذا التعتيم على المحاكمة من الإعلام الوطني الخاص والحكومي في الدول العربية، وعدم متابعة الجلسات من وسائل الإعلام العابرة للحدود، وعدم تناولها بالتحليل العميق والقانوني، بخاصة أن الخبر السوري مصدر اهتمام كبير وتغطية شبه دائمة فيها؟ 

قد تتعدد أسباب ضعف التغطية وانعدامها في بعض وسائل الإعلام، بما فيها الأسباب اللوجستية، خصوصاً في أوضاع مماثلة فرضها فايروس “كوفيد- 19”. فضلاً عن أن لغة المحاكمة هي الألمانية، وبالتالي يتطلب الأمر حضور صحافي متمكن من الألمانية، وهو ما قد لا يكون متوفراً لوسائل الإعلام العربية غير العالمية، ومع ذلك لا تكفي هذه الأسباب اللوجستية المهمة لتفسير انعدام التغطية في كثير من وسائل الإعلام الوطنية، التي كان بإمكانها اعتماد تقارير وكالات الأنباء، وتناول الخبر في تغطيات إعلامية وبرامج أو مقالات تحليلية. التفسير الوحيد المنطقي هو أن الإعلام الوطني والإعلام العابر للحدود بمجمله إعلام حكومي، أو شبه حكومي، أو ممول من جهات سياسية قد تخشى من تغطية سابقة قضائية قد تطال يوماً ما حكّاماً أو مسؤولين أمنيين في بلادها. هذا فضلاً عن تدني الثقافة الحقوقية، وتراجع حضور الخبر القضائي في وسائل الإعلام العربية، فالمحاكمات في منطقتنا نادراً ما تُناقش اجتماعياً أو إعلامياً، خصوصاً إذا كانت تتعلق بممارسات حكومية مخالفة للقانون. 

لكن ما يبدو عصياً على التفسير هو غياب اهتمام منظمات المجتمع المدني الوطنية والعابرة للحدود المختصة بالشؤون القضائية والعدالة أو المنظمات الحقوقية العربية بهذه القضية، ففي حين رحّبت منظمات حقوقية ودولية بالمحاكمة، من بينها “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية” و”مراسلون بلا حدود”، غابت عن المشهد المنظمات الحقوقية العربية الحكومية وحتى المستقلة منها.

من البدهي عدم ترحيب منظمات حقوق الإنسان التابعة للحكومات العربية بالمحاكمة، لأن هذه المنظمات لا تستطيع الترحيب بمحاكمة لجرائم وانتهاكات تمارسها حكوماتها. تخطف الأنظمة العربية العمل المدني والحقوقي بتسميات تتضمن “حقوق الإنسان”، وتحوله إلى عمل يخدم في العمق سياساتها. ويقدم غياب النقاش المجتمعي بشأن هذه المحاكمة دليلاً آخر على تأصّل ثقافة عدم المحاسبة وعدم الاكتراث بالتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان في الوعي العربي عموماً – وربما هذا يفسر غربة هذه المحاكمة عن المجتمعات العربية، وغياب احداثها وتفاصيلها عن معظم وسائل الإعلام العربية.

قد يعتبر البعض انّ لكل بلد همومه، فلماذا نطالب الإعلام الإقليمي أو المجتمع المدني بالتركيز على هذه المحاكمة. ألا يكفي أن وسائل الإعلام السورية، باستثناء الحكومية منها والموالية لنظام الأسد طبعاً، تداولت أخبار المحاكمة في ألمانيا بشكل موسع وتابعت الجلسات ومجرياتها؟

الإعلام الوطني والإعلام العابر للحدود بمجمله إعلام حكومي، أو شبه حكومي، أو ممول من جهات سياسية قد تخشى من تغطية سابقة قضائية قد تطال يوماً ما حكّاماً أو مسؤولين أمنيين في بلادها.

يحاكم العقيد السابق أنور ر. بتهمة تعذيب أكثر من 4 آلاف شخص، وعشرات جرائم القتل والاعتداءات الجنسية والاخفاء القسري. أما العنصر أياد أ. فيحاكم بمتهمة مساعدة أنور في تعذيب عشرات الأشخاص وإخفائهم. قانوناً، المحاكمة هي ضد شخصين فقط ولكنها تأتي في سياق عملهما في مؤسسة حكومية تعتمد التعذيب والإخفاء القسري كمنهجية للتحقيق والانتقام. لم يكن بإمكان أنور بمفرده اعتقال 4 آلاف على الأقل، ولم يخفهم في منزله، ولم يرتكب وحده ضدهم جرائم التعذيب والعنف الجنسي والقتل. أنور كان فرداً في مؤسسة متكاملة قدمت له الحصانة ضد المحاسبة في القانون السوري، ووفرت له مراكز الاعتقال وأدوات التعذيب ومساعدين. أنور وإياد كلاهما جزء من نظام تعذيب متكامل. لم يبدأ التعذيب فجأة في سوريا بعد عام 2011، بل مارسه نظام الأسد كأداة رئيسة واجراء منهجي للاستجواب لعقود، نكّل خلالها بمواطنيه السوريين. ولم يكن السوريون فقط ضحايا مؤسسة التعذيب هذه. بل عانى لبنانيون وعراقيون وأردنيون وسودانيون وغيرهم من العرب من هذه “المؤسسة”. تحولت مؤسسة التعذيب السورية إلى فاعل إقليمي وتجاوزت الحدود السورية بالتعاون مع بعض الأطراف في دول الجوار بشكل مباشر أو بالتغاضي عن جرائمها، لتصبح مسؤولة عن انتهاكات عابرة للحدود، Transnational Human Rights Violations، يرتكبها نظام واحد ويتعرض لها مواطنون في دول عدة. إضافة إلى ذلك، كان التعاون الاستخباراتي بين نظام الأسد وحكومات عربية وغربية، اعتماداً على الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب، شرعنة من هذه الحكومات للتعذيب ودعماً له.

 ففي لبنان، كان النظام السوري يختطف معارضيه اللبنانيين من بيوتهم ويعذبهم في لبنان، أو يخفيهم في سوريا داخل متاهات من مراكز الاعتقال المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، ولا تزال قضايا مئات المخفيين قسراً عالقة من دون معرفة مصائرهم. وعليه، فإن أهمية هذه المحاكمة تكمن في قدرتها على فتح أبواب محاكمات أخرى، وإمساك خيوط يمكن أن تؤدي إلى الكشف عن قضايا في سوريا وخارجها لفها الغموض والنسيان. فلماذا غاب الاهتمام الإعلامي بهذه المحاكمة حتى في الإعلام المحلي اللبناني؟ لماذا غابت محاكمة مهمة كهذه في الإعلام الأردني الخاص والرسمي، مع وجود معتقلين أردنيين لا تمكن معرفة أعدادهم في ظروف غامضة؟ هل هو القلق من أن يطاول الحساب مسؤولين أردنيين متورطين في بلدهم بعمليات تعذيب؟ 

في الأردن، شهدت السنوات الأخيرة بعض التطورات الإيجابية في القوانين لمناهضة التعذيب، نتيجة نشاط المجتمع المدني الأردني وبعض النواب، وقد يُساهم رفع دعاوى ضد التعذيب والقتل الذي ارتكبه نظام الأسد بحق مواطنين أردنيين بمطالبته بدفع تعويضات بشكل فعال والوصول إلى شيء من العدالة للضحايا وأهاليهم. كما بإمكان المحاكمة التي شهدتها ألمانيا أن تشجع الأردنيين الذين أفرج عنهم نظام الأسد للتواصل مع محامين ومنظمات حقوقية لاستكشاف قانونية رفع دعاوى تعويض لما تعرضوا له من تعذيب جسدي أو نفسي أو معاملة غير إنسانية وهي من طينة الجرائم التي يحاكم لارتكابها كل من أنور ر. وإياد أ.

ينشر هذا النص بالتعاون مع “مبادرة الإصلاح العربي”