fbpx

الموت هرباً من الجحيم : لماذا يلجأ أيزيدو العراق الى الانتحار؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“بقينا أنا وهي لأسبوع مع المحاصرين في الجبل أثناء غزو داعش لشنگال، أنقذتها من داعش، وانقذتها من الجوع ولكن لم أستطع إنقاذها من رغبتها في الموت”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“الحياة قصيرة وأنا لا أحب نفسي. فقدت الأمل بكل شيء. أمي، لا تبكي رجاءً”.

هذه الكلماتُ تضمنتها رسالة وداعية خطها أنور خدر (21 سنة) بيده وتركها لوالدته مساء 24 كانون الثاني/ يناير 2020، قبل أن يلف الحبل حول رقبته ويتدلى منه ميتاً داخل خيمته في مخيم ايسان للنازحين الإيزيديين جنوب محافظة دهوك في إقليم كردستان.

السيناريو ذاته تكرر مع سلوى (24 سنة)، من ناحية سنوني إذ أقدمت هي الأخرى على الانتحار بواسطة حبل علقته بسقف الغرفة، بعدما تركت رسالة في هاتف زوجها الجوال تدعوه إلى الاهتمام بطفلتهما الصغيرة. 

تلك النهايات المأساوية اختارها عشرات من أبناء الأقلية الإيزيدية تحت ضغط الفقر واليأس في مخيمات النزوح باقليم كردستان التي استقروا فيها عقب غزو تنظيم “داعش” مناطقهم في نينوى مطلع آب/ أغسطس 2014، وتأثير تداعيات ذلك الغزو فيهم وما واجهوه خلاله من حملات منظمة لقتل الرجال وخطف النساء والأطفال. 

على مدخل معبد لاليش – شمال العراق

لا مفرّ

أوقف الفقر تطلع أنور الدراسي عند الصف السادس الإعدادي على رغم تفوقه. ولم تسعفه كاميرته الفوتوغرافية التي برع باستخدامها في التقاط فرصة عمل تمكنه من إعالة أشقائه الخمسة وأمه التي لم تكن أفاقت بعد من صدمة فقدان زوجها الذي قتل برصاص “داعش”.

يعدد جده لأمه بغصة عميقةٍ أسباباً يتوقع أنها كانت وراء إقدام سبطهِ على الانتحار، منها، رفض طلب العائلة للهجرة إلى كندا واستراليا. وفشل محاولة شقيق أنور الأصغر في بلوغ ألمانيا، مع نجاح أعمام له كان يعول عليهم في بلوغها وعدم تمكنهم من أخذه معهم. فضلاً عن تنقل العائلة بين ثلاثة مخيمات نزوحٍ، الأمر الذي جعله يشعر بيأس شديد فاقمهُ فقرُ العائلة المدقع.

وثق معد التقرير خلال الأشهر الأخيرة، أكثر من عشر حالات انتحار، فيما يقدر نشطاء عدد من أقدموا على الانتحار خلال ست سنوات بأكثر من 200 شخص، فيما خاض عشرات آلاف الايزيديين، بما يشبه أحياناً الانتحار، مغامرة الوصول إلى أوروبا عبر قوارب الموت ودروب الغابات المحكومة بمافيات تهريب البشر. 

أسباب اقتصادية

ترى نازك بركات الناشطة في مجال حقوق الانسان أن معرفة الأسباب التي تؤدي إلى انتحار إيزيديين من شأنها العمل على منعه أو في أقل تقدير التقليل من حالاته. وهو أمر يتطلب: “المزيد من الدعم الأسري والاجتماعي والحكومي، لمساعدة الأشخاص المحبطين ومنعهم من التفكير بالانتحار”.

وترجع نازك تصاعد حالات الانتحار في الفترة الأخيرة إلى تدهور الوضع الاقتصادي. وتضيف: “عدم توفر فرص العمل وبخاصة لفئة الشباب يشكل معضلة تؤدي إلى مشكلات نفسية كالاكتئاب والاكتئاب الحاد، وكثيراً ما يفكر المصاب بواحدة منهما، جدياً بالانتحار”. 

وفقد الإيزيديون معظم أموالهم المنقولة، وأصيبت نسبة كبيرة من أملاكهم غير المنقولة كالعقارات السكنية بأضرار بالغة، خلال غزو تنظيم “داعش” مناطقهم الواقعة غرب نينوى وشمالها. 

كما أن تشظي الفرد الايزيدي بين خيارات البقاء في مخيمات النزوح أو الهجرة إلى الخارج أو العودة إلى سنجار والتي  تعرف بالكردية (شنكال) ساهم وبحسب نازك بركات في عدم الاستقرار النفسي وفقدان السيطرة على الهدوء الداخلي”.

وحتى مع استقبال مخيمات إقليم كردستان الإيزيديين عام 2014 وتأمين متطلباتهم الأساسية من السلطات والمنظمات الدولية ومع توفر فرص عمل لكثير من أبنائهم في قطاع الخدمات والسياحة بمدن الاقليم، فإن أكثر من 120 ألف إيزيدي هاجروا إلى أوروبا، تحت ضغط الإحساس الدائم بالتهميش والاستهداف وبضبابية مستقبلهم. وهذا الرقم يشكل ثلث أعداد الإيزيديين في العراق.

وتنبه نازك إلى أن التقديرات التي تشير إلى وقوع نحو 200 حالة انتحار في مخيمات النازحين الايزيديين منذ أيلول/ سبتمبر 2014 ولغاية الآن غير دقيقة: “هنالك عائلات تتستر على حوادث الانتحار، لا سيما التي تكون ضحاياها نساء بسبب طبيعة المجتمع الإيزيدي المحافظ”. لذا تعتقد الناشطة ومن خلال متابعتها المتواصلة للواقع الايزيدي بأن الأعداد أكبر من ذلك وهي في تزايد مستمر. 

مخيم للنازحين الايزيدين قرب مدينة الدهوك شمال العراق

أسباب اجتماعية

إلى جانب العبء الاقتصادي الثقيل، والذي ازداد تأثيره في الأشهر الأخيرة بسبب جائحة “كورونا”، يشير فلاح حسن جيان، مديرُ مكتب سنجار لمكافحة العنف الأسري، إلى أن هنالك سبباً آخر رئيساً للانتحار في المخيمات الإيزيدية يرتبط بالعادات الاجتماعية، فضلاً عن الدور السلبي للتكنولوجيا، بحسب تقديره. 

ويقول إن “أبرز المشكلات الاجتماعية سببها تزويج القاصرات، والزيجات بالإكراه و”البدل” أي تزويج الفتاة رغماً عن إرادتها مقابل زواج شقيقها بفتاة من العائلة المقابلة أو بالعكس، وسوء استخدام الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي وما ينجم عنها من تعارض مع العادات والتقاليد السائدة. يضاف إلى ذلك عدم إبلاغ السلطات بالمشاكل العائلية نتيجة الخوف من العواقب والأعراف المجتمعية. كلها عوامل أدت إلى شيوع ظاهرة الانتحار”.

ونوه فلاح حسن إلى أن مكتبه تمكن من معالجة حالات كان أصحابها يرومون الانتحار وبنحو جاد. وذلك بعد تلقيه اتصالات تجاوب معها بسرية تامة. وأبدى سعادته لأنهم عادوا إلى حياتهم بشكل طبيعي. وتمنى لو أن الأمر ذاته حدث مع الذين أقدموا فعلياً على الانتحار “لكانوا الآن يشغلون مواقعهم في الحياة” يقول فلاح مبدياً أسفه.

وثق معد التقرير خلال الأشهر الأخيرة، أكثر من عشر حالات انتحار، فيما يقدر نشطاء عدد من أقدموا على الانتحار خلال ست سنوات بأكثر من 200 شخص، فيما خاض عشرات آلاف الايزيديين، بما يشبه أحياناً الانتحار، مغامرة الوصول إلى أوروبا عبر قوارب الموت ودروب الغابات المحكومة بمافيات تهريب البشر. 

هدية جلال (اسم مستعار) فتاة عشرينية تعيشُ مع أسرتها في مخيم قرب مدينة زاخو أقصى شمال العراق. 

فكرت مراراً بالانتحار للتخلص مما وصفته بـجحيم مخيم النزوح، كونه يفتقر بحسب ما أوردت لأبسط مقومات الحياة. وهي لم تعد تصدق أنها ستعود يوماً ما إلى مدينتها شنكَال، فبيت العائلة أصبح أثراً بعد عين ولم تعد تملك سوى خيمة صارت لهم بيتاً منذ ست سنوات.

“فكرتُ بالانتحار، فعلت ذلك فتاة بعمري قبل أشهر، كانت تعيش في المخيم. وظروفها المعيشية تشبه ظروفي… قلت في نفسي لم لا أفعل أنا أيضاً ذلك؟ ماذا سيتغير إن فعلت؟ نحن هنا منسيون لا قيمة لوجودنا”.

هدية أفصحت عن الأمر لأمها. وقامت الأخيرة بتسخير وقتها لتغيير أفكارها ومنعها من إيذاء نفسها.

وتابعت وهي تبدي امتنانها لأمها: “صارت مثل ظلي، لم تكن تتركني أغيب عن عينيها ولا للحظة. فلم تسمح لي مطلقاً البقاء لوحدي أو قيامي بملء المدفأة في الشتاء، وتولت هي استخدام السكين في إعداد الطعام. كما أنها أصبحت تدعو الفتيات من جيراننا لزيارتي باستمرار”. 

تقول هدية إنها محظوظة جداً لأنها على تواصل مع أمها في حين أن كثيرات غيرها يكتمن ما في داخلهن فيشعرن بالوحدة واليأس. “وهذا أخطر شيء بالنسبة إلى أي شابة”. 

العائدون ينتحرون أيضاً

حالات الانتحار لم تقتصر على الساكنين في مخيمات النزوح، إذ سجلت مناطق سكن أصلية عاد إليها الإيزيديون، حالات انتحار عدة، والأسباب ذاتها (اقتصادية واجتماعية).

يحمّل الباحث في شؤون الأقليات، أكرم محي فواز، مؤسسات الدولة مسؤولية إهمال الأقلية الايزيدية في المرحلة التي سمّاها، “ما بعد صدمة الإبادة التي لحقت بها”.

يقول: ” كان يفترض أن توجه الموارد المالية لإعمار المناطق المدمرة والعمل على إعادة أهلها النازحين إليها وتعويضهم عن خساراتهم. لكن ما حدث أنهم متروكون ومنذ 6 سنوات في مخيمات النزوح ومن عاد منهم يكابد في ظل غياب الخدمات ويعيش قلقاً يومياً من أن تتكرر المأساة”.

ويحذر من أن أعداد المنتحرين ستتزايد بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والمستقبل المجهول بالنسبة إلى معظم الايزيديين، وعدم وجود حلول جذرية لمشكلاتهم، ولا رؤية واستراتيجية لتحسين واقعهم في ظل الصراع القائم بين جهات عدة على مناطقهم والنفوذ السياسي والأمني المتداخل لجماعات مختلفة هناك. 

بحسب إحصاءات المديرية العامة لشؤون الايزيديين في حكومة إقليم كردستان فحوالى 36,000 إيزيدي نزحوا من مناطقهم إثر هجوم داعش عليها في 3 آب 2014. لم يعد منهم سوى حوالى 12,000 شخص إلى مناطقهم الأصلية. جزء منهم عادوا ليس نتيجة ثقتهم بأن مستقبلاً أفضل ينتظرهم هناك، بل لفقدان فرص عملهم في الإقليم عقب التدهور الاقتصادي هناك كإحدى نتائج انتشار فايروس “كورونا”، أو بسبب عجز أبنائهم الذين يخدمون في الأجهزة الأمنية العراقية عن دخول إقليم كردستان منذ أشهر نتيجة قرارات قطع الطرق.

ويعمل معظم الإيزيديين في الإقليم في قطاع البناء والخدمات فضلاً عن قطاعي إدارة الفنادق والمنشآت السياحية، وهي من القطاعات التي تعطلت بشكل كامل أو تأثرت على نحو كبير.

سيفي، سيدةٌ في عقدها الرابع، فُجعت قبل أشهر بابنتها الكبرى التي ماتت منتحرة بعدما أحرقت نفسها. تقول: “انتحرت ابنتي وهي في العشرين من عمرها، بعد خلاف مع زوجها”.

تمعنت في صورتها قليلاً ثم قالت مغالبة دموعها: “بقينا أنا وهي لأسبوع مع المحاصرين في الجبل أثناء غزو داعش لشنگال، أنقذتها من داعش، وانقذتها من الجوع ولكن لم أستطع إنقاذها من رغبتها في الموت”.

غياب المعالجة النفسية

المعاناة التي عاشها الإيزيديون أورثتهم مشكلات نفسية لم تقابل بدعم من مراكز متخصصة، النفسية منها تحديداً. رأي يجمع عليه مطلعون ومن بينهم المعالج النفسي بيار محمود، إذ يشير إلى أن اضطرابات ما بعد الصدمة تظهر عند البعض مباشرة بعد الحوادث الجسيمة التي يتعرضون لها وآخرون تظهر عليهم بعد فترات طويلة.

ويقول إن العراقيين عموماً والإيزيديين خصوصاً “لم يتلقوا عناية طبية نفسية بعد الصدمات الهائلة التي تعرضوا لها نتيجة للحروب والخطف والسبي والتوترات الأمنية المتلاحقة. وهو ما يفسر حوادث الانتحار التي ارتفعت أعدادها، وبأساليب وطرائق مختلفة أكثرها شيوعاً الخنق والحرق والغرق”.

ويجد محمود أن مخيمات النزوح وفرت الملاذ الآمن والغذاء، لكنها تظل مرحلة انتقالية لا يشعر فيها الأكثرية بالاستقرار. ولا سيما الشباب. وهؤلاء يجب أن تتركز عليهم برامج إعادة التأهيل النفسية وأن يتم إشراكهم في أنشطة وفعاليات متنوعة لكي يبتعدوا من الاكتئاب، فبقاؤهم أسرى الخيم مشكلة كبيرة.

ويؤكد محمود أن معظم حوادث الانتحار يكون ضحيتها شباب في مقتبل العمر.  

خالد تعلو (47 سنة) وهو كاتب ايزيدي ألف كتاب “الانتحار في شنكال”.

وتوصل تعلو في دراسة أعدها بين عامي 2011 و2012 إلى حدوث تزايد تدريجي في معدلات الانتحار في المجتمع الإيزيدي بدءاً من عام 2003 لغاية 2012 حيث حصل انفتاح كبير في المجتمع الايزيدي المعروف بانغلاقه.

ويبدي تعلو أسفه لما آلت إليه الأمور بعد هجوم “داعش” على قضاء سنجار: “ارتفعت مجدداً نسبة الانتحار، لا سيما في مخيمات النازحين. وأغلب المنتحرين كانوا يعانون من مشكلات نفسية بسبب سوء الأحوال في المخيمات والاحتكاك المفرط بين الفئات الشبابية وعدم وجود مؤسسات ومراكز الصحة النفسية لمعالجة تلك المشكلات”.

مجتمع على شفا الانهيار 

تبرز ظاهرة الانتحار جلية في مخيمات الأيزيديين المقامة منذ آب 2014 في مناطق عدة داخل إقليم كردستان، وهو ما دعا الخريجة الجامعية أحلام شنكالي (27 سنة) التي تقطن في مخيم شيخان للنازحين الايزيديين (47 كلم شمال الموصل) إلى إطلاق حملات توعية أسرية لتعزيز الثقة المتبادلة بين الأفراد في العائلة الواحدة.

تقول إن “فقدان الثقة لم يعد يتعلق بالمحيط فقط، بل وصل إلى داخل الأسرة في المجتمع الايزيدي ذاته… تمكن ملاحظة ذلك من خلال كثرة المشكلات العائلية بين الأزواج وتأثيراتها السلبية في الأطفال والشباب”.

الكاتب والباحث في شؤون الأقليات منير قاسم، ينبه إلى أن المجتمع الإيزيدي تغير كثيراً عن السابق. فبعد قرون طويلة من شبه الانطواء والانعزال في تجمعات خاصة، تسودها الطبقية الدينية وتحكمها التقاليد والأعراف الصارمة، أصبح أفراده ضيوفاً في مناطق أخرى حيثُ الثقافات مغايرة، وهم مضطرون للاحتكاك بها بل وحتى الاندماج فيها أحياناً.

وبقيت فئة منها على رغم ذلك، تراوح إنطواءها القديم وظلت ماثلة في ذاكرتها الجمعية أهوال ما حدث في سنجار لتقع تحت تأثير تهديد يتعلق بوجودها. فانعدمت الثقة بالحاضر والمستقبل أضحى مجهولاً. ويخلص إلى القول “أغلب حالات الانتحار إن لم يكن جميعها، تقع ضمن هذه الفئة”. 

يرى علي خضر، وهو ناشط يتابع منذ سنوات المجتمع الايزيدي، أن تزايد حالات الانتحار يعكس مشكلات عميقة في المجتمع لا أحد يلتفت إليها.

ويقول إن الإيزيديين “يعشيون حالة ضياع، فمن يعيش في المخيمات منذ سنوات لم يعد يجد أملاً بتحسن مستقبليّ، ومع تدهور الاقتصاد وخسارة كثيرين فرص عملهم في قطاع الخدمات والعمالة والفنادق والسياحة ازدادت أوضاعهم سوءاً، فيما تبدو العودة إلى مناطقهم خيار المضطر في ظل غياب الخدمات”.

ويحذر خضر من الأسوأ إذا لم تحصل معالجات على المستوى السياسي والاداري والاقتصادي كما الاجتماعي والنفسي: “وسط الظروف الحالية ستضرب المشكلات بعمق المجتمع وسنشهد تزايداً في حالات تفكك العائلات والطلاق وهو ما تتم ملاحظته بوضوح، إذ ستتصاعد حالات اليأس والأمراض النفسية التي تدفع للانتحار”.