fbpx

قوارب الموت نحو أوروبا طوق نجاة الشباب التونسي من الفقر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قد تكون هجرة الشباب بشكل فردي أمراً مألوفاً في تونس ودول المغرب العربي القريبة من السواحل الأوروبية، لكن ما طرأ في الآونة الأخيرة هو انخراط عائلات بأكملها ونساء من أعمار مختلفة في الهجرة غير الشرعية بعدما سئموا الحياة بموارد ضئيلة جداً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“عن أي كورونا تتحدثون، نحن موتى أصلاً. لم نعد نهاب شيئاً، ولو عاد بنا الزمن إلى الوراء لقمنا منذ سنوات بهذه الرحلة التي إما أن تنتشلنا من الفقر والبطالة أو تجعلنا نموت مرة واحدة بدل موتنا المتكرر يومياً في بلدنا، الذي مارس علينا أشكال التجاهل واللامبالاة كافة، فدمّر أحلامنا وطموحنا وجعل البطالة مصيرنا”.

بمرارة يتحدث أحمد، إبن الـ25 عاماً المنحدر من محافظة القيروان- تونس، والذي وصل إلى السواحل الإيطالية برفقة عشرة آخرين من أبناء حيه في رحلة غير نظامية، بحثاً عن واقع أفضل من ذاك الذي تركوه في مدينتهم. فبعدما أيقنوا أن فرص العمل شحيحة وحتى تلك المتوافرة تحتاج إلى وساطة أو رشوة حتى ينالوها، وبعدما باتوا يشعرون بأنهم عبء ثقيل على عائلاتهم الفقيرة، قرروا ركوب قوارب الموت، غير آبهين لخطر فايروس “كورونا” وبخاصة في إيطاليا التي صنفت بؤرة للوباء.

أحمد ورفاقه ليسوا استثناء تونسياً، فبينما تستفحل صراعات الأطراف السياسية في تونس بدوافع الحصص والمكاسب، تواصل شريحة واسعة من التونسيين السقوط في هوة الفقر والتهميش والبطالة أكثر فأكثر. وأمام ضيق الخيارات وغياب الحلول وتبين أن التغيير الذي نشده الشباب من ثورة 14 يناير 2011 قد تبخر على يد طبقة سياسية انتهازية، أصبح ركوب زوارق الموت نحو سواحل أوروبا درباً يطرقه شباب تونس هرباً من شظف العيش ومن واقع لم يعد يتسع لأحلامهم. 

وقد تكون هجرة الشباب بشكل فردي أمراً مألوفاً في تونس ودول المغرب العربي القريبة من السواحل الأوروبية، لكن ما طرأ في الآونة الأخيرة هو انخراط عائلات بأكملها (أكثر من أربع عائلات) ونساء من أعمار مختلفة (حوالى 2 في المئة من نسبة الواصلين إلى السواحل الايطالية بحسب احصاءات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) في الهجرة غير الشرعية بعدما سئموا الحياة بموارد ضئيلة جداً، بالكاد تلبي الحاجات الضرورية، فضلاً عن ندرة فرص العمل المناسبة.  

“الجميع ترك وراءه بين 10 و12 فرداً علقوا آمالهم على أن تكلل رحلة ابنهم بالنجاح لينتشلهم من فقرهم”.

ويواصل أحمد الذي قرر اللحاق بعائلتها المستقرة في إيطاليا بعدما استنفد الحلول في تونس، سرد تفاصيل حكايته ورفاقه قائلاً، “صحيح أنني أتلقى دعماً مادياً من عائلتي ما يجعل وضعي أفضل مقارنة ببعض أصدقائي، لكن إلى متى سيستمر هذا الاتكال؟ لا بد من فرصة عمل تساعدني على الاعتماد على نفسي والمباشرة في تحقيق أهدافي، وهو ما لم أجده في بلدي الذي أستطيع وصفه بأنه يقتل الطموح، استنتجت هذه الحقيقة بعد محاولات كثيرة من أجل تأمين عمل، باءت كلها بالفشل، لأنني لا أملك واسطة قوية”.

يضيف أحمد: “هناك أوضاع اجتماعية صعبة للغاية مشتركة بين رفاقي الذين خاضوا معي غمار هذه الرحلة، الجميع ترك وراءه بين 10 و12 فرداً علقوا آمالهم على أن تكلل رحلة ابنهم بالنجاح لينتشلهم من فقرهم، وبعضهم ترك أماً مريضة ويأمل بأن يجد فرصة عمل سريعة ويتكفل بعلاجها، وهناك من استدان من أجل هذه المغامرة بحثاً عن فرصة لم يقدمها له بلده، وهناك من يتطلع إلى إسعاد والدته وأن يهديها شيئاً طالما رغب في أن يقدمه لها، ولكن الظروف الصعبة حالت دون ذلك. الله وحده يعلم بظروف هؤلاء الذين خاضوا رحلة لا يدركون ما إذا كانت ستوصلهم إلى بر الأمان أو تنتهي بهم في قعر البحر”.

ومن كواليس رحلة أحمد ورفاقه، ضياعهم في عرض البحر 7 ساعات بسبب الظلام وتعطل القارب الذي كان يقلهم قبل وصولهم وشارفوا على الغرق لولا تدخل مركب كبير للصيد ساعدهم على تصحيح مسارهم وإصلاح العطب ثم أكملوا رحلتهم. 

وتشهد تونس في الأشهر الأخيرة تدفقاً كبيراً للمهاجرين غير النظاميين التونسيين إلى إيطاليا، وصفه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية قبل أيام بالقياسي بعد تسجيل وصول 2500 مهاجر تونسي إلى السواحل الإيطالية خلال شهر تموز / يوليو فقط.

المكلف بالإعلام في المنتدى رمضان بن عمر أوضح أن عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى السواحل الإيطالية بلغ تحديداً 2438 منذ مطلع تموز 2020، ما يعني وصول حوالى 100 مهاجر يومياً. وهذا العدد هو من بين 3988 مهاجراً تونسيا وصلوا إلى إيطاليا منذ بداية العام الجاري.

وبحسب إحصاءات المنتدى، فإن انطلاقة عام 2020 شهدت ارتفاعاً في عدد محاولات الاجتياز المحبطة خلال شهري كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير 2020  (47 محاولة) مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2019 (13 محاولة اجتياز محبطة).

ومع بداية ظهور وباء “كورونا” والارتباك على المستوى العالمي، انخفضت ظرفياً موجات الهجرة غير النظامية، ففي آذار/ مارس ونيسان/ أبريل 2020 أُحبطت  10 محاولات هجرة غير نظامية مقابل 31 محاولة خلال الفترة ذاتها من 2019.

لم يدم هذا الهدوء طويلاً، إذ سجل شهرا أيار/ مايو وحزيران/ يونيو عودة قوية لموجة الهجرة غير النظامية، إذ تم احباط 179 عملية هجرة مقابل 42 عملية اجتياز محبطة خلال الفترة ذاتها من 2019 أي أربعة أضعاف معدل السنة الماضية بحسب المصدر ذاته (المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية).

بسام (شاب 27 سنة من محافظة المهدية) وصل هو الآخر في رحلة عير نظامية إلى السواحل الإيطالية أملاً بحياة أجمل من تلك التي تركها وراءه في مدينته. كان يطمح أن يكون لاعب كرة قدم ذي شأن كبير ولكن خططه لم تجري كما شاء لها، بسبب ظروف عائلته الصعبة، عندها أدرك أن عليه تعديل مساره، فحاول الانخراط في مهن عدة، لكنه لم يوفّق. ثم في شهر رمضان، قادته المستجدات إلى محاولة ترك البلاد بأي طريقة.

يقول بسام لـ”درج”، “كنت أؤمن بأن شهر رمضان شهر كريم ودائماً ما يبارك الله فيه الرزق لعباده، فقررت إنجاز مشروع صغير أسترزق منه طيلة الشهر وأيام العيد. وعليه أخذت سلفة بقيمة ألف دينار من صديق أضفتها إلى بعض المدخرات التي بحوزتي واشتريت بضاعة هي عبارة عن بعض الملابس والأحذية وبدأت العمل على بركة الله. لكن بعد يومين من انطلاقتي وجدت أمامي عنصراً من الشرطة البلدية يقول لي إن مكان عرض بضاعتك غير قانوني. فأخبرته أنني حصلت على رخصة من البلدية، إلا أن الأمر انتهى بإتلاف بضاعتي في الشارع. وحين كان ردي حاداً لأنني شعرت بالإهانة والذل، أخذوني إلى مركز الشرطة وأرادوا توجيه التهم إلي بممارسة التجارة بشكل غير قانوني. بعد ذلك ذهبت لمقابلة وكيل النيابة وهناك فكرت واتخذت قراري بالهجرة، فهذه البلاد تقطع سبل الحياة الكريمة أمامك”.

انطلاقة عام 2020 شهدت ارتفاعاً في عدد محاولات الاجتياز المحبطة خلال شهري كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير 2020  (47 محاولة) مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2019 (13 محاولة اجتياز محبطة).

ويؤيد المكلف بالإعلام في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر ما ذهب إليه أحمد وبسام بشأن مسؤولية الظروف الاجتماعية الصعبة عن ارتفاع هجرة التونسيين. ويقول لـ”درج”، “أمام بعض حالات التفكك الأسري ونظراً إلى ضبابية مستقبل الأبناء في موطن النشأة انخرطت العائلة في المشروع الهجري غير النظامي حتى بتنا نسجل هجرات عائلية، (العائل إن كان الأب أو الأم مع الأبناء)، ويعود هذا النوع من الهجرة إما إلى أسباب اقتصادية أو اجتماعية، وحتى عندما تكون فردية فإنها تحصل من خلال دعم الأسرة أبناءها بالمال والمعلومات، لتأمين مكانة ومستقبل أفضل لهم، في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحادة التي تعيشها البلاد وارتطام حركات الاحتجاج باليأس والإحباط، ما رسم مناخ الخيبة لدى فئات اجتماعية كثيرة”.

ويذكر أن نسبة البطالة ارتفعت في تونس للمرة الأولى منذ سنة ونصف السنة إلى 15.1 في المئة وفق مؤشر التشغيل والبطالة للثلاثي الأول من عام 2020 الذي نشره المعهد الوطني للإحصاء في 30 أيار/ مايو الماضي على موقعه الإلكتروني.

ووفق المؤشر، فإن عدد العاطلين من العمل تجاوز  634 ألفاً من مجموع السكان النشيطين، مقابل 623 ألف عاطل من العمل تم تسجيله خلال الثلاثي الأخير من عام 2019.

ورجحت دراسة أعدها المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية بالتعاون مع المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية خسارة قرابة 430 ألف شخص وظائفهم بشكل موقت منذ بدء الحجر وحتى تاريخ رفعه نهائياً في 24 حزيران/ يونيو.

وإلى جانب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الصعبة في تونس والتي شكلت مجتمعة بيئة مناسبة لتشجيع الشباب التونسي على ركوب قوارب الموت، فإن هناك عاملاً آخر قد يكون أحد محركات هذا التدفق الكبير الذي تم تسجيله بخاصة في الأشهر الأخيرة، أي مع إعلان السلطات الإيطالية عزمها على تسوية أوضاع آلاف المهاجرين غير الشرعيين. 

إذ أصدرت السلطات الإيطالية في أواخر أيار/ مايو مرسوماً يقضي بتسوية أوضاع المهاجرين المقيمين على أراضيها بطريقة غير شرعية. والمرسوم صدر في إطار خطة ايطالية تهدف إلى تنشيط اقتصادها، ويمنح بموجبه المهاجرون بطريقة غير شرعية تصريح إقامة مدته 6 أشهر للعمل بشكل قانوني. ويمكن تحويل تصريح الإقامة الموقت إلى تصريح عمل لمدة أطول، ما يسمح لهم بالحصول على الخدمات الاجتماعية شريطة ألا يكون الشخص متهماً بقضايا مخدرات أو دعارة أو تهم يمكن أن تعد تهديداً للنظام العام في البلاد. 

ويبدو أن هذا الإعلان حفز الكثير من الشباب التونسي الحالم “بالجنة الأوروبية” على الإقبال بقوة على مغامرات الهجرة غير النظامية، على رغم مخاطرها الكبيرة.

فقد هدد عمدة جزيرة لامبيدوسا الإيطالية القريبة من السواحل التونسية بإعلان حالة الطوارئ في ظل التدفق الكبير للمهاجرين. 

وبحسب أرقام لوكالة الأنباء الايطالية هناك 1027 مهاجراً في الجزيرة التي تبلغ مساحتها 20 كيلومتراً مربعاً، ويتم احتجاز 50 من الوافدين الذين وصلوا حديثاً بخيام في ميناء الجزيرة بسبب عدم وجود أماكن إقامة أخرى. وتضم جزيرة لامبيدوسا مركزاً للمهاجرين بقدرة استيعابية رسمية لا تتجاوز 95 شخصاً لا غير.