fbpx

جسمي الذي أضاع وجهته بعد تفجير بيروت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بلادنا ساعات موقوتة للقتل. للانفجارات، للأحزان، للألم. نحن أجساد مفخخة ستنفجر من نوبات القلق، من انعدام الأمن، من قلة الموارد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ اللحظة التي أرسل فيها حرمون يسأل عن رفاقنا في بيروت، وأنا أشعر بانقباض شديد. كأن لحظة ما عالقة، انفجرت في رأسي وجسمي، الذي بدا بحركته المربكة غير قادر على تحديد وجهته. أمشي وأمشي وأمشي، محاولاً إيجاد طريق. أضيع في حارات سان جيرمان، بعدما ودّعت صديقتي لين. كنا منذ ساعة نتحدث، عن معاناة الناس في زمن “كورونا” في مدينتها دمشق. الموتى الذين يخرجون عيونهم من محاجرها وهم يودعون مدينتهم إلى الأبد. 

أتصل بها. أخبرها عن التفجير. قلبي يسرع ضرباته. أصاب بنوبة هلع. أقول لنفسي: صهيب، لم تعد هناك. لم تعد هناك. لا خوف. لا تفكر. أتذكر الطفح الجلدي الذي أصبت به منذ أيام بسبب التوتر منذ انفصالي عن تيو، وانتقالي إلى استديو جديد، والعمل الذي لم يتوقف والكتابة التي لم تنتهِ والالتزامات الكثيرة والإجازات الملغاة والحرارة الشديدة. أنظر الى جلدي، الى الاحمرار الطافح فيه. أفكر بجثتي لو كانت هناك. تطوف في الشوارع. جثتي التي ربما لن يتعرف إليها أحد وتضيع ملامحها بين الموتى. ولن تدفن، في زمن الجائحة. لا صلاة ولا دفن. لا وداع ولا حب. افكر لو مت هناك، بعيداً من طرابلس. بعيداً من أمي. بعيداً من قريتي بيت أيوب. بعيداً وبعيداً. وأتذكر، أنا بالفعل بعيد جداً. بعيد إلى درجة أنني إذا مت هنا، لن يعرفني أحد. سأموت في شارع لا أعرفه ولا يعرفني فيه أحد. ببطاقة هوية، تذكر أنني من طرابلس وأنني مقيم في باريس، وفيها عنوان سكني، ومدة إقامتي، وصلاحيتها. 

لا شيء آخر. أفكر أن كثراً في لبنان، يعيشون في بلد، يقتلهم كل يوم نفسياً ومعنوياً وجسدياً. أهدأ. احاول أن أجد طريقي. لا وجهة. أمشي. أمشي وأمشي. أنظر إلى المارة. أقول في رأسي، كيف باستطاعتهم ان يتحركوا بهذه الابتسامات؟ لا أعرف وجهتي. أتصل بديبة أمي. لا ترد. أتصل برفاق لي، خطوط مقطوعة. 

تعود إلي الانفجارات التي عشتها وعايشتها، كمواطن وكصحافي. أتذكر تفجيرات مسجدي التقوى والسلام. يومها اضطررت إلى كتابة مادة نشرت في “الحياة” اللندنية، عن الجرحى والقتلى، أمام عيني. الذين رأيتهم مرميون على السيارات المتفحمة. ورأيت عيونهم المفتوحة للدم. أتذكر تفجير رفيق الحريري، الأماكن التي زرناها لاحقاً. الفيديو الذي شاهدناه للرئيس الراحل وهو متفحم. أتذكر تفجير سمير قصير، تفجير جبران تويني. أتذكر تفجيرات بيروت المتكررة، وطرابلس، وعرسال وبعلبك. أتذكر مسلسل التفجيرات والاغتيالات الذي عشناه. أتذكر تلك البلاد التي تركتها خلفي، الخوف الذي تخففنا منه بمحاولات العيش والهرب. أعود إلى ما قبل 2015، قبل أن أهاجر إلى فرنسا. إلى تلك المرحلة المقلقة، في عملي صحافياً متنقلاً بين متاريس باب التبانة وجبل محسن وجولاتها وقتلاها وبين مكاتب الجريدة وتحرير أخبار القتل والدم، ومتابعة يومياتنا مع القتل والتوتر والقلق. لم نكن أحياء في بلادنا. كنا مجرد جثث لا تعرف متى نسقط. ونجوت. نجوت، لكنني عالق في تلك اللحظة وها هي تنفجر في رأسي وجسمي الذي لا يعرف وجهته.

أفكر أن كثراً في لبنان، يعيشون في بلد، يقتلهم كل يوم نفسياً ومعنوياً وجسدياً. أهدأ. احاول أن أجد طريقي. لا وجهة. أمشي. أمشي وأمشي. أنظر إلى المارة. أقول في رأسي، كيف باستطاعتهم ان يتحركوا بهذه الابتسامات؟

أجدني أمام باب كنيسة. أدخل. أجلس قليلاً. أنظر إلى صورة العذراء. أخرج. أمشي وانشر فيديوات على “انستغرام”، أفتح “فايسبوك”. أحاول أن أكتشف أي معلومة. لا معلومات واضحة. أنظر إلى الجالسين على تراسات المقاهي يحتسون أكواب البيرة مستمتعين بآخر شعاع للشمس قبل أن يحل المساء. إنها ساعة “الهابي أوير”. لا “هابي أوير” في بلادنا. بلادنا ساعات موقوتة للقتل. للانفجارات، للأحزان، للألم. نحن أجساد مفخخة ستنفجر من نوبات القلق، من انعدام الأمن، من قلة الموارد. من ذل المصارف، ومن قمع الدولة وفساد المؤسسات. نحن مشاريع موت متنقل، من الدجاج الفاسد، ومن النفايات المتراكمة، من الغاز المسيل للدموع، من الكهرباء المقطوعة، من الرصاص الحي، ومن هراوات شبيحة السياسيين والحزبيين. نحن مشاريع معدة للقتل، في الطريق وعلى الشاطئ وعلى الشرفات وفي الشقق التي تسكنها الظلمة. نحن مشاريع معدة للقتل، نختنق من الحرارة الشديدة وندرة الماء ومن التلوث وونموت قهراً من غلاء الاسعار، وبعضنا ينتحر لأن لا أمل.

أجد نفسي على كرسي. أشبه الجالسين حول طاولاتهم. يسألني النادل، ماذا يمكن أن نفعل لإسعادك سيدي؟ لا أجيب. لا تخرج كلمة من فمي. أحس أنني عالق في لحظة انفجرت. أقول له “لو تعد إلي بعد قليل لو سمحت”. أفكر بالجالسين بقربي، أنا مثلهم، جالس هنا، على كرسي أمام طاولة. شعاع الشمس ينزل هادئاً على وجهي. 

أقول لنفسي: لم تعد هناك يا صهيب. أطلب كأس بيرة. أكتب هذا النص. أكتبه وما زلت عالقاً، في تلك اللحظة التي انفجر فيها جسمي ولم يجد وجهته.