fbpx

انفجار بيروت : اللعنة والمحاسبة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بصفته السلطة الحاكمة بقوة سلاحه، يتحمل “حزب الله” المسؤولية الأكبر ولكن ذلك لا ينفي المسؤولية عن كل من غطى المعادلة التي سمحت له بأن يحكم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أن ينام اللبنانيون على مشاهد أمهات وآباء وأبناء يبحثون عن أحبائهم بين أنقاض مدينتهم المنكوبة ومستشفياتها المفحمة. أن يستيقظوا على هول مشاهد الدمار التي لم تستثنِ أحداً. أن يخافوا الهواء الذي يتنفسونه. أن ترعبهم فكرة المجاعة الآتية حتماً. أن يروا أحلامهم تغلق أبوابها وينظروا في عيون أبنائهم بحثاً عن بعض الطمأنينة. 

أن لا يتوقعوا موقفاً من مسؤول يخفف من ذعرهم أو يجيب على أسئلتهم. 

إنها اللعنة! 

إنها مدينة ملعونة… هكذا علق كثيرون من أبناء بيروت على ما شهدته مدينتهم. لكنّ للعنة أسماء ووجوهاً هنا. ما دمر بيروت هذه المرة لم يكن زلزالاً ولا كارثة طبيعية، من دمرها سلطة سياسية مجرمة لم تشبع عنفاً ولا دماء على مدى عقود.

منذ لحظات التفجير الأولى، قبل أن تنتهي لملمة الأشلاء من الطرق بدأت التحليلات. 

المعلومات الأولية أعادت إلى الأذهان حلقة الاغتيالات وتحدثت عن استهداف لسعد الحريري ولبيت الوسط، ولكن هذا السيناريو لم يدم أكثر من دقائق.

كثيرون في المدينة يتحدثون عن صوت طيران سبق التفجير الأول الذي ما لبث أن تلاه تفجير آخر سُمعت ارتداداته في قبرص وقالت مراكز الأبحاث الأردنية إن قوتها بلغت 4.5 درجة على مقياس ريختر.

تفجير المرفأ مجرد نموذج يختصر المشهد: تبييض أموال وتهريب وصفقات وسلطة سياسية فاسدة تتقاسم الأرباح وقضاء مرتهن وأجهزة أمنية متواطئة… ولكن أيضاً نحن. كل فرد قَبِل أن يخضع لابتزاز زمرة من أمراء الحرب ورجال العصابات. هذه لعنتنا وهي باقية طالما بقيت هذه المنظومة.  

أول السيناريوات المتداولة، والأقرب إلى ذاكرة المدينة ووعي أهلها كان أن طائرة إسرائيلية استهدفت مخزن سلاح تابعاً لـ”حزب الله” في المرفأ. 

مدهش كان مجرد التعامل مع هكذا سيناريو بصفته قابلاً لأن يكون.

فكرة قبول التعايش مع احتمال وجود مخزن لسلاح غير رسمي في مرفأ بيروت، تحت أعين الدولة على بعد أمتار من صوامع تخزين القمح والطحين التي يتغذى منها اللبنانيون جميعاً، فكرة بحد ذاتها كارثية. 

همجية إسرائيل وقدرتها على قتل الأبرياء وتدمير مدن  فوق رؤوس أبنائها أمر مفروغ منه، ذكرى حرب تموز وجرائم الحرب التي ارتكبت خلالها لا تزال حاضرة في ذاكرتنا. ولكن أن نسلّم نحن لمسألة أن في وسطنا من يحكمنا ومن هو قادر على إعطاء اسرائيل ذريعة كهذه، هذه بحد ذاتها مأساتنا التي نعيشها كل يوم.  

مع مرور الساعات اتضحت معطيات جديدة. ما تم تداوله عن مفرقعات في العنبر رقم 12، تبين أنه أكثر من 2700 طن من نترات الأمونيوم التي أودعت في المرفأ بانتظار البت بقضية مفتوحة منذ عام 2013.

المأساة في هذه الحالة أكبر والجريمة أفظع.

أكثر من 2700 طن من المواد سريعة الاشتعال والانفجار أهملت على مدى سنوات بعد نقلها من سفينة مولدوفية آتية من جورجيا، تعرضت لعطل فني حول رحلتها من وجهتها الأصلية وهي الموزنبيق إلى العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت.      

كيف يمكن التساهل مع قضية من هذا الحجم وطيلة هذا الوقت ولماذا؟ من المستفيد؟ هل هو حقاً الجهل يقتلنا بعدما قضت السياسة على أبسط مقومات أمننا.

هل يمكن حقاً أن يكون التفجير نتيجة أعمال صيانة كانت تحاول سد ثغرة في باب من أجل منع السرقة؟ لا ثقة لنا بأي معلومة تأتينا من أي جهة في السلطة والخبراء المستقلون يجزمون بنفي هذه الإمكانية.   

المواد المتفجرة تحتاج إلى صاعق أو فتيل كي تنفجر. هي لا تنطلق من نفسها. الحديث عن رطوبة أو عن ماس كهربائي وراء التفجير محض جهل على ما قال أكثر من خبير متفجرات.

خبراء متفجرات دوليون قالوا في تعليقاتهم على مشاهد التفجير، إن لون الدخان والشكل الفطري الذي اتخذه يذكران بصور الانفجارات النووية في هيروشيما وناكازاكي، ورجحوا وجود مواد أخرى بما في ذلك اليورانيوم المخصب. كثر رجحوا اعتداء صاروخياً وقارن آخرون التفجير بذلك الذي وقع في تولوز جنوب فرنسا عام 2001، في أحد العنابر التابعة لشركة توتال. 

تفجير تولوز الذي قتل 30 شخصاً وجرح أكثر من 2500، كان يعتبر أكبر التفجيرات غير النووية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي حينه قدر وزن المواد المتفجرة فيه بين 20 و30 طناً، أي أن زنتها أقل بنحو مئة مرة من تلك التي سببت تفجير بيروت. 

فضلاً عن الأضرار البشرية، بلغ حجم الخسائر الناجمة عن تفجير تولوز أكثر من مليار ونصف مليار يورو، وتلته محاكمة استمرت سنوات، قاربت احتمال وجود عمل إرهابي لتصل في نتيجة المطاف إلى أن التفجير نجم عن حادث. 

لن يحتاج الأمر في الوضع اللبناني إلى سنوات والتحقيق الذي تجريه اللجنة التي تم تعيينها من سلطة منعدمة الشرعية لن يثق أحد في نتائجه. 

قد تعلو أصوات تطالب بتحقيق دولي ولكننا فعلاً لم نعد نملك مقومات انتظار عدالة تأتينا من الخارج.       

ما حصل لم يكن حادثاً بقدر ما أنه ليس نتيجة كارثة طبيعية. من يحقق اليوم في التفجير هم المسؤولون عن الجريمة التي وقعت. أي تحقيق تجريه أي جهة في العالم لن يصل إلى نتيجة تبرئ كل من هم في السلطة وكل من تداول على مواقع المسؤولية على مدى ثلاثة عقود. 

كل من سمح باستباحة أمننا بهذا الشكل، وهوائنا وغذائنا وبيوتنا وتراثنا وكرامة أهلنا ومستقبل أبنائنا. الجميع مذنبون إلى أن يثبت العكس. 

سواء كان التفجير نتيجة عدوان إسرائيلي او إذا كان فعلاً مجرد شرارة أطلقتها أعمال صيانة، الجريمة موصوفة ومرتكبها نظام لم نعد نملك القدرة على التعايش معه. بقاء هذه المنظومة يعني نهايتنا. يعني موتاً بطيئاً ولحقنا بأمان بيوتنا، بعدما نال هذا النظام من كرامتنا على أبواب المصارف. 

بصفته السلطة الحاكمة بقوة سلاحه، يتحمل “حزب الله” المسؤولية الأكبر ولكن ذلك لا ينفي المسؤولية عن كل من غطى المعادلة التي سمحت له بأن يحكم. تفجير المرفأ مجرد نموذج يختصر المشهد: تبييض أموال وتهريب وصفقات وسلطة سياسية فاسدة تتقاسم الأرباح وقضاء مرتهن وأجهزة أمنية متواطئة… ولكن أيضاً نحن. كل فرد قَبِل أن يخضع لابتزاز زمرة من أمراء الحرب ورجال العصابات. هذه لعنتنا وهي باقية طالما بقيت هذه المنظومة.