fbpx

غرباء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كلّ ما أردناه في رحيلنا كان النجاة، لكنّنا اليوم نريد ما هو أبسط من ذلك. لا نريد سوى مجرّد عناق صغير مع أهالينا، يزيل عن صدورنا وصدورهم ثقل هذه الجبال الذي راكمتها السلطة اللبنانية القاتلة. نريد أي خبر حلو من لبنان، مجرّد خبر واحد… لكن للأسف

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

غُرباء نحن أينما حللْنا. غُربَاء نحن من أوّل شهيق نأخذه حين نولد في لبنان البائس حتّى مماتنا في أي بقعة نُطرَدُ إليها في هذا العالم الممتدّ. 

غرباء حتّى في مسقط رأسنا… ترانا منبوذين مرميّين في الهامش عاجزين عن التماهي مع لوحة التماثل الكبيرة المرعبة هناك والتي ينضوي تحتها مجتمع بأكمله. غرباء لأننا تجرّأنا على الرقص خارج عباءة الطائفة التي لا تضمّ ولا تحمي سوى الموتورين المستعدّين للقتال والقتل والموت فداء الغبار على حذاء زعيمها المتخم. غرباء في بيوتنا لعجزنا ورفضنا الالتزام بالموروث البالي القائم على مفاهيم متخلّفة عن الشرف والرجولة والأخ الأكبر والأب.

غرباء في قرانا وأريافنا التي أهملتها الدولة وأهملت مدارسها ومزارعها ومستشفياتها وأطفأت بيوت ناسها لإضاءة الفنادق الفاخرة وقصور اللصوص ومجرمي الحرب في المركز. غرباء في دولة لا نعرف عنها سوى ربطة العنق والبسطار. تركنا قرانا برؤوس محنيّة متوجّهين إلى بيروت بحثاً عن العلم والعمل، بحثاً عن أي بصيص أمل لنا بحياة ولو كانت أقلّ من العادي بقليل.

غرباء في بيروت، هجمنا عليها كالجراد حين يحتلّون المدن، صار سكّان العاصمة الأصليون كالسلعة النادرة طوبى لمن يجدها. تغرّبنا طوائفنا في أحياء الآخرين فيها، يغرّبنا فقرنا في أحياء الأثرياء فيها. وتنخر عظامنا الغربة في بيوتها المحرومة من الماء والكهرباء والحدّ الأدنى من مقومات السلامة العامة.

نعترف للمرّة الأولى بأنّنا وعلى رغم ما كتبناه وقلناه بحقّ هذه المدينة، وعلى رغم ما عانيناه، ما زالت قلوبنا هناك تمشي غريبة في شارع الجميزة ذهاباً وإياباً غير قادرة على تحمّل كلفة سهرة واحدة في إحدى حاناتها الممتلئة بالأجانب.  لقد أحببنا بيروت بصدق، لكنّنا لم نستطع إليها سبيلاً.

لا تحتضننا فيها سوى العشوائيات وأحزمة البؤس التي ترسّخ فينا غربتنا أكثر فأكثر حتّى تصبح أرواحنا غريبة في أجسادنا لا ترغب سوى بفراقه نحو الراحة الأبديّة. في المراهقة كنّا بلا عمل نفترش حافات الطرقات في الحيّ، يكفي أن نملك ثمن علبة دخّاننا وضرب حشيش كي يمرّ يومنا من دون افتعال شجار دمويّ… كنّا قد ظنّنا أنّ انتقالنا إلى العاصمة “سويسرا الشرق” سيعزّز انتمائنا لهذا البلد ويخفّف من وحشة غربتنا لكن هيهات… لم ننل سوى أطنان مضاعفة من الحزن والوحشة. في بيروت أيضاً كان حضور الدولة مقرفاً، لا نراها سوى بعيون شبّيحة الأجهزة الأمنية والأحزاب وهم يضربونا ويقتلون رفاقنا في الشوارع ويقتلعون عيونهم. لم نكن نلفظ اسم الدولة على لساننا سوى حين نشتمها ونلعن أبو أهلها مع كلّ انقطاع التيار الكهربائي في بيوتنا لأكثر من خمسة عشر ساعة يوميّاً على الأقلّ. غرباء في دولة التي لا نشعر بوجود قوّاديها سوى حين تمرّ مواكبهم الفاحشة فوق عظامنا في الشوارع بحماية كلاب مسعورة لا تميّز بين طفل وكهل من “الشعب الرّتش” الذي لا يريد القوّاد الأكبر تلويث ناظريه برؤيتهم.

لم تزدنا علاقتنا المضطربة مع بيروت “المركز” سوى غربة، تكرهنا أكثر حين نحبّها، تكسر قلمنا حين نكتب عنها ولها، تستنزفنا وتحرق أرواحنا أكثر فأكثر حين نحاول الإنجاز مهما صغر… نسعى ونكدّ ونبكي ونذوب كالشمع فوق نيرانها حتّى نصل إلى طريق مسدود معها.

نحن أجبن من أن ننتحر، أشرف من أن ننضم إلى حزب ونستفيد من امتيازاته، أذكى من أن نتحوّل عبيداً مأمورين مرقّطين نقتل أهلنا، ندافع عمّن يقتلنا وينهش لحمنا، وأفقر من أن نتمكّن من تأمين قوت يومنا في مدينة الوحوش هذه فنرحل… 

هكذا ببساطة، ينتهي الأمر بالمحظوظين منّا في مطار العاصمة باكين على كتف أمّهاتنا في وداعهنّ تاركين نصف قلبنا أمانة بين ضلوعهنّ… ونرحل إلى الغربة الأكبر.

غرباء نحن في بلاد الآخرين، طفيليات غريبة تعيش على جسم ليس لها. كيف لنا أن نشرح لأصحاب الأرض هنا أنّنا لسنا سيّاحاً عرباً أثرياء؟ أنّنا لم نمتلك رفاهية اختيار أن نرحل عن بلادنا بل طُردنا منها والسلاح مصوب إلى رؤوسنا؟ نتعلّم مجبرين لغة جديدة من الصفر كالأطفال، تعيش قسوة يوميّة تبدأ منذ يومنا الأوّل في بلاد غريبة لا نعرف كيفية شراء عبوة ماء فيها. نتحمّل الإهانات خوفاً من الطرد، نقنع أنفسنا بأننا نحبّ الأكلات الجديدة والموسيقى الجديدة والنباتات الحلوة على الشرفة، لكن حتّى هذه النباتات تكون غريبة عنّا… 

نحن لم نكن نريد هذا كلّه. كلّ ما أردناه في رحيلنا كان النجاة، لكنّنا اليوم نريد ما هو أبسط من ذلك. لا نريد سوى مجرّد عناق صغير مع أهالينا، يزيل عن صدورنا وصدورهم ثقل هذه الجبال الذي راكمتها السلطة اللبنانية القاتلة. نريد أي خبر حلو من لبنان، مجرّد خبر واحد… لكن للأسف، لا يرمي علينا وطننا سوى الأسى واللؤم والقهر والمزيد من الغربة.

نعتاد مع الوقت على شكل حياتنا الجديد، يبدأ تفاقم شعورنا بالذنب مع كلّ إنجاز نحقّقه، مهما كان حجمه. يهلكنا شعور قاسٍ بالمسؤولية المباشرة عن كلّ ضرر يصيب الناس في وطننا الذي طردنا منه. يهلكنا تناقض قاسٍ يسلب حقّنا في التعبير عن أي رأي أو موقف حيال حدث ما ونحن في الخارج خوفاً من أن نحسب على المنظرّين المرفّهين.

لكن كيف تشرح لهؤلاء أنّك ضحية مباشرة لظلم دولة بدل أن تؤمن لك أبسط مقومات الحياة في بيتك ركلتك بعيداً لتشحذها من تحت أقدام الآخرين؟

كلّ نفس ثقيل هنا نأخذه بعيداً من أهلنا وأحبّتنا هو وصمة عار على جبين أتخن بزة وعمامة في لبنان. كلّ تنهيدة تنزل في صدور أهلنا حين نحدّثهم عبر الهاتف ونسألهم عن أحوالهم هي جريمة موصوفة جديدة تضاف إلى جرائم السلطة الحاكمة في لبنان التي لا تنتهي ولا تحصى. كلّ ضحكة صاخبة نطلقها هنا ستنتهي حتماً بغصّة على فراق من نحب، أيا ليتنا كنّا معكم نقول… ثم نشكر الله أنّنا هنا ولسنا هناك معتبرين آخر جملة هذياناً طفولياً لا يخلو من الحنين.

ثمّ وفي خضمّ هذا السعي والتناقضات يأتينا الخبر الفاجع بالأمس: “انفجار هائل دوّى في مرفأ بيروت مخلّفاً عشرات القتلى والجرحى، دمار وأضرار بالغة في بيوت العاصمة”. أمّا عن السبب وراء ذلك، فهو حتّى اللحظة إن صدق القول وصول نيران حريق لمواد متفجّرة مصادرة في أحد العنابر ولم يتم التخلص منها بعد منذ عام 2014. 

هكذا ببساطة، مجزرة متعمّدة جديدة ترتكبها الدولة اللبنانية بحق شعبها الأعزل مخلّفة أكثر من 100 روح أُزهقت حتّى اللحظة. وحين نقول مجزرة متعمّدة لا نقصد من ذلك التشبيه والاستعارة، لأن شحنة الموت موجودة هناك بأمر قضائي وسط العاصمة، بين بيوت الناس وعلى بعد أمتار قليلة من إهراءات القمح، عصب القدرة التخزينية الغذائية اللبنانية. ثم يعترف مدير المرفأ حسن قريطم بالجريمة حين يصرّح بأنّه ومن معه كانوا يعلمون أنّ المواد المخزنّة هذه خطرة، لكن ليس إلى هذه الدرجة. 

نهرع إلى هواتفنا صلتنا الوحيدة مع من تبقّى لنا هناك، نبكي أكثر مما نتحدّث. نستغلّ الموقف كي نبكي قهرنا كله ووجعنا كله، نشعر بآلام الضربات التي وجّهها لنا هذا النظام المافيوي القاتل منذ ولدنا بينما نطمئنّ على أحبابنا. نبكي شعورنا بالغربة حتّى العظم منذ كنّا في أرحام أمّهاتنا. تصلنا صور بيوت ناسنا وأحبّتنا في بيروت مدمّرة، صور أصدقائنا غارقين في الدم، صور البيت الذي سكنّاه وقد أصبح من دون أبواب ولا شبابيك. صور تلك الشوارع التي لفظتنا بعيداً غارقة في الدمار والحزن ولطخات الدم القاني، نبكي أكثر ونعترف للمرّة الأولى بأنّنا وعلى رغم ما كتبناه وقلناه بحقّ هذه المدينة، وعلى رغم ما عانيناه، ما زالت قلوبنا هناك تمشي غريبة في شارع الجميزة ذهاباً وإياباً غير قادرة على تحمّل كلفة سهرة واحدة في إحدى حاناتها الممتلئة بالأجانب. 

لقد أحببنا بيروت بصدق، لكنّنا لم نستطع إليها سبيلاً.

هكذا ببساطة، مجزرة متعمّدة جديدة ترتكبها الدولة اللبنانية بحق شعبها الأعزل مخلّفة أكثر من 100 روح أُزهقت حتّى اللحظة. وحين نقول مجزرة متعمّدة لا نقصد من ذلك التشبيه والاستعارة، لأن شحنة الموت موجودة هناك بأمر قضائي وسط العاصمة، بين بيوت الناس وعلى بعد أمتار قليلة من إهراءات القمح، عصب القدرة التخزينية الغذائية اللبنانية