fbpx

بيروت التي انسكبت في رحمي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حينما شهد لبنان انفجاراً في مرفأ بيروت، شعرت بتقلصات في رحمي عدا انكسار القلب…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ وقوع انفجار بيروت ولا أسمع سوى أصوات الزجاج المهشم وأشعر بتقلّصات في رحمي. أراكم مشاهد تكفي كي تتقلص هذه الرحم لسنوات، فبيروت التي زرتها منذ عامين لا يجدر بها أن تبيت جريحة وحدها، فجرحها مفتوح على جروحنا جميعاً، جروح الغلاء وسلب الذاكرة والأمان.

حين حصلت على تأشيرة الدخول إلى بيروت من مطار رفيق الحريري عام 2018 كنت متحمّسة كثيراً، فللمدن مذاقات وأهواء تشدّني. وبيروت بعيداً من النوستالجيا التي راكمتها فينا الأغاني والروايات والأفلام حولها، كانت تجذبني كالنداهة، كانت أطرافي ترتعش، ولم أرغب سوى في ضبط انفعالي لحظة صرت في بيروت أخيراً، المدينة التي أعرفها ولا أعرفها. وعلى رغم التوصيات بزيارة بعض الأماكن في بيروت مثل بقية السياح، لكنني كنت أعلم جيداً أن التوصيات مجرد دليل، والدرس يكمن في مدى قدرتي على التحديق.

هبطت إلى وسط المدينة، كانت الأبنية زجاجية أكثر من اللازم، وكانت تلاحقني صور البيوت في بيروت قبل الحرب الأهلية، بيوت تليق بذاكرة تدرك قيمة الحجر، الذي يصمد وتصمد معه قصص لأجيال متعاقبة. تاريخنا وذاكرتنا الإنسانية تعلق على واجهات منازلنا الحجرية، حتى إذا هرمت مع الأيام، أو حتى رشقت واجهاتها بالرصاص وحفرت فيها السنون ندوباً.

فبيروت التي زرتها منذ عامين لا يجدر بها أن تبيت جريحة وحدها، فجرحها مفتوح على جروحنا جميعاً

سألت صديقاً مصرياً يعيش في لبنان وقتذاك عن البيوت القديمة قرب البحر، قال إن معظمها أُزيل بعد الحرب، على رغم أنها كانت تحمل أثار الحرب الأهلية والدمار. لم أقتنع بهذا الرأي، لأن طراز الخلجنة يؤكد أن هناك فخاً ناعماً يزحف على الأبنية في هذه المدينة، كي يسهل تهشيم ذاكرتها، وإلا فالزجاج ما معناه؟ الزجاج يُصنع من رمال الآخرين، أما الحجر فيصنع من طين لبنان الأحمر ومن أحجاره العتيقة، الزجاج أول الهاوين بفعل دويِ هائل، الزجاج هش لا يلائم مصائبنا.

وأذكر أنني حدقت في طين الجبل في لبنان لأن الطين في مصر أقرب إلى اللون الرمادي وطين لبنان وردي، وكأن فيه شرايين مفتوحة على نبيذ معتق أو شرايين مفتوحة على الدم المنسكب من الأخوين (الحرب).

أدركت منذ اليوم الأول في بيروت أن علاقتي مع المدينة لن تكون منسابة بالقدر الكافي، وكي أصل إلى هذه الانسيابية كان ينبغي أن أحشو جيوبي بالكثير من الدولارات. كل ما في بيروت كان يشعرني بأنني فقيرة. هل البيارتة أثرياء إلى هذا الحد؟ سألت سائق التاكسي بمزاح، مؤكدة له أنني أحتفظ بالأجرة مع بقشيش، قال “نحنا ولادنا ما بيعيشوا بلبنان كله مهاجر وبيرجعوا بعد ما يفل شبابهم، لبنان كله غلاء والله يعين العالم”.

الغلاء يسلب من المدن روحها مثلما نهش القاهرة وضواحيها، فكيف أجول في مدينة عتيقة وآسرة كبيروت، وهي عابسة من أجل أبنائها المهاجرين؟ قررت أن أتخلى عن ركوب “التاكسي” منذ اليوم الأول، واخترت التسكع الحُر لاكتشاف المدينة، فهو مفيد من أجل الولادة الطبيعية، إذ كنت حاملاً في الشهر السادس. مشيت على قدميّ في بيروت حتى انتفختا، وكان ألم التورم يزداد كلما وجدت سلماً حجرياً وأصررت على صعوده، فهو يذكرني بصوت نهاد حداد في غنوتها “درج الياسمين”، أصعد وأدندنها وأنا أمزج الإيقاع بالآهات.

قصدت شارع الحمراء في اليوم التالي. كنت أتخيله على هيئة شارع المتنبي في بغداد يعجّ بالكتب والمكتبات والمقاهي الشعبية التي يصدح فيها المثقفون بمناقشات ومناورات حول السياسة والثقافة، لكنني وجدت أن المقاهي انتقلت إلى “الروف” وإلى داخل الشقق، فيما كانت الكافيهات الحديثة والعالمية بواجهاتها الزجاجية، تستحوذ على الأرصفة.

على رصيف شارع الحمراء وجدت سوريات يفترشن الأرض بأطفالهن ويطلبن المساعدة. قدمت بعض الليرات للسيدة الأولى التي صادفتها، لكن عدد طالبات العون كان هائلاً على طول الشارع. الأطفال يائسون وهائمون كالقطط الشاردة، وينهرهم أصحاب المحلات، مأساة مكتملة على رصيف معتم. قال لي أحدهم إنه جاهز للتبرع بأعضائه من أجل المال، عرضه كان صادماً وكافياً كي أشيح بنظري عن محلات الهدايا التي تتخطى فيها الهدية قيمة 30 دولاراً على الأقل، واكتفيت بتخيل ما كان هنا من أصداء ماضوية نخبوية، من دون البحث عن أطلالها مثل مسرح قصر البيكاديللي الذي صمم وكأنه معبد وشهد عروض مسرحيات وحفلات فيروز وعرض مسرحية “شارع محمد علي” للفنانة الاستعراضية شيريهان، ومسرح المدينة الذي أغلق القسم الأكبر منه. حين عدت سألني أحد الأصدقاء عن شارع الحمراء، قلت له رأيت سوريات وأطفالاً مشردون وغرافيتي للشحرورة صباح، لكن الماضي رحل مثلما رحل ماضينا وعُلّقنا جميعاً بين السماء والأرض.

على كورنيش بيروت أطلقت نظرات متقطعة إلى البحر، كان يشبه بحر الإسكندرية وكورنيشها. مضيت وأنا أحدّق في رصيف الكورنيش الحجري وغمرني فجأة هوس ساذج، بأنني حتماً سأحصل على معنى ملقى على هذا الرصيف (على حد قول الجاحظ). كنت أمضي وأضحك، حتى تسمرت فجأة في مكاني، وأخرجت الكاميرا، وأخذت أقترب وابتعد حتى ضبطت الكادر. كانت وردات صفراً ساطعة، وكأنها شمس تنبت بين الرصيف الإسمنتي الخرساني والأحجار، مسافة سنتم انتزعتها هذه الورود كي تبزغ منها، هنا قلتها بصدق: أخيراً وجدت بيروت، وجدتها هنا تنازع بين فخين صلدين لكنها ما زالت قادرة على التجلي الساطع.

كل ما في بيروت كان يشعرني بأنني فقيرة. هل البيارتة أثرياء إلى هذا الحد؟ سألت سائق التاكسي بمزاح، مؤكدة له أنني أحتفظ بالأجرة مع بقشيش، قال “نحنا ولادنا ما بيعيشوا بلبنان كله مهاجر وبيرجعوا بعد ما يفل شبابهم، لبنان كله غلاء والله يعين العالم”.

حين قامت تظاهرات بيروت بكيت كثيراً، كصاحبة نبوءة فقدت عقلها فجأة، كنت أرغب في أن أصيح للناس في مصر وأقول: في لبنان شاهدت وروداً صفراً بين فخين صلدين، كانت وروداً ساطعة كالشمس، هذه النبتة كانت نبوءة التغيير، النبتة منحتني سرها يا ناس لأنني غريبة وينبغي للغريب أن يحفظ السر.

على طول الكورنيش مضيت بحثاً عن صخرة الروشة كان أثر الورود يمتد في دمي، وكأنها مدت جذورها داخل جسدي، رأيت الصخرة صامدة وهدير البحر من حولها يذكرني بقصة “أرني الله” لتوفيق الحكيم، كانت تصلح منصة انتحار بعد جلسة تأمل طويلة تعقبها قفزة يتماهى فيها التحليق مع السقوط في تلخيص فذ لخلاصنا المؤجل.

في اليوم التالي، قررت الذهاب إلى مغارة جعيتا، كان معنا في الرحلة شاب لبناني مثقف يعمل في إحدى وكالات الأنباء الكبرى. سألته عن طريق الذهاب إلى مدينة طرابلس، امتعض وقال “هدول تبعيت السنة المتدينين ما بنصحك تروحي لهونيك”. كان يطلق نصيحته بالتوازي مع عبورنا بجوار لافتة “نفق نهر الكلب”. مضينا باتجاه جعيتا وسط جبال خضر ومنحنيات جبلية فأدركت أننا ماضون باتجاه حدث استثنائي. انقطع عن أذني البث، حتى أصوات الضجيج التي فشلت في التخلص منها إذ لاحقتني من القاهرة صمتت فجأة. وصلت إلى مغارة جعيتا وأدركت أن عليّ الهرب من أصدقائي، تباطأت في المشي وشعرت بحركات جنيني، هو أيضاً علم بأنه في لحظة استثنائية، تسربت رائحة باردة إلى أنفي لن أستطيع وصفها مهما حاولت، هي رائحة لبنان أخيراً، رائحة قديمة ومعتقة منذ ملايين السنين.

 جلست في ركن بارد من المغارة وعلمت بأنني داخل رحم الأرض بالفعل، الرحم الحقيقي الآمن الوحيد، وجنيني الآن داخل رحمين، رحمي وهذه الرحم الشاسعة، يختبئ كل أمان العالم هناك في قلب لبنان. تمنيت لو أن جنيني كان أكمل شهره التاسع وأصبح جاهزاً للولادة الآن، لنولد معاً في التوقيت والمكان نفسيهما. حملت حجراً صغيراً تساقط من جدار الصخور، ووضعته بإجلال في حقيبتي، وحين حملنا القارب داخل المياه الصافية شعرت برغبة في القفز، فهذا الماء يشبه ماء الرحم المغذى وطراوته من طراوة مياه الأرض لحظة هبوط آدم وحواء عليها، وقتها قلت إن لبنان لن يعبس طويلاً ما دامت في جسده هذه الرحم الخصبة.

حينما شهد لبنان انفجاراً في مرفأ بيروت، شعرت بتقلصات في رحمي عدا انكسار القلب، لكن رحمي كانت الأبلغ في ألمها لأن لبنان انسكب فيها وفي جنيني مثلما حاولت أنا أن أنسكب داخل رحمه في جعيتا…