fbpx

ماكرون في بيروت كرئيس للجمهورية اللبنانية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كانت زيارة ماكرون أكثر من ضرورية، كانت زيارة فاضحةً لكل العطب الذي تعاني منه الدولة في لبنان، وكانت كاشفة لحجم السفالة التي يتمتّع بها حكّامنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عند إعلان الإليزيه عن زيارة عاجلة للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للعاصمة اللبنانية بيروت بعد الجريمة الكارثة التي حلّت بها وبسكّانها إثر إنفجار مئات الأطنان من نيترات الأمونيوم المخزّن في مرفأ بيروت منذ سبع سنوات، انقسمت الآراء والتحليلات في لبنان حول الهدف من الزيارة والتبعات التي ستترتّب عنها. قيل الكثير عن زيارة “تعويمية” لعودة سعد الحريري رئيسا للحكومة، وتحدّث البعض عن رغبة فرنسا في وضع يدها على لبنان وذهب آخرون للتنديد بـ”الإستعمار الجديد” في أرض “عصيّة على الإحتلال”.

بالعودة قليلا إلى الوراء، قبل أسبوع غادر وزير الخارجية الفرنسي جان-ايڤ لودريان بيروت على وقع “توبيخ” رئيس حكومة “الـ 97% إنجازات” حسان دياب، والذي وصف زيارة الوزير الفرنسي بأن “زيارته لا قيمة لها، لم تقدّم شيئا جديدا”. ربما كان البروفيسور دياب ينتظر كلمة السرّ الفرنسية التي تعوّدت عليها الطبقة السياسية منذ التسعينات: ستحصلون على مساعدات مالية لتنفيذ مشاريع إنمائية. لم يحصل الأمر ولن يحصل حتماً، اذ انتهت تلك الصيغة إلى غير رجعة، ودفنت معها عشرات المليارات التي قدّمتها فرنسا كمنح وهبات وديون، وطمرت معها وعود السياسيين الكاذبة بإصلاحات ستحسّن الواقع المعيشي للبنانيين واللبنانيات.

لم تكن زيارة ماكرون زيارة عادية لرئيس عادي لبلد عادي في ظروف عادية، اذ يمكن القول أنّ الاستثناء هو الذي صنع المشهد: وجد ماكرون نفسه رئيساً لشعب من دون رئيس ولا حكومة ولا نواب ولا جمهورية.

فور وصوله إلى مطار رفيق الحريري الدولي، حيث تواجد الرئيس اللبناني ميشال عون لإستقباله، قطع ماكرون أي محاولة اتهامية لزيارته وتوجّه للصحافيين بالقول “جئت لدعم الشعب اللبناني وللتعبير عن التضامن بين فرنسا ولبنان”. وذكّر ماكرون أنّ فرنسا بعثت ثلاث طائرات محمّلة بمساعدات إنسانية وطبية وقال أنّ طائرة رابعة ستحطّ الخميس في بيروت. وترافق وصول الطائرات الثلاث مع قدوم 55 متطوّعا من الحماية المدنية الفرنسية و20 متطوّعا من ال PUI، فوج الطوارئ الدولية، الذي ضمّ 8أطباء و12 ممرّضاً و40 كلباً مدرّبا على الكشف عن الجثث تحت الأنقاض.

في معترك تصريح الرئيس الفرنسي للإعلام غادر ميشال عون القاعة بعد أن اشترطت البعثة الفرنسية سابقاً، عدم نزول أيّ من المسؤولين السياسيين إلى الشارع لمرافقة ماكرون في جولته، التي امتدت من المرفأ حيث مكان الإنفجار وصولا إلى الجميزة ومار مخايل حيث التقى بالسكان الذين رحّبوا بزيارته وطالبوا بمساعدة لبنان بعد النكبة التي حلّت به. 

ثلاثة أمور أساسية احتلت الشاشات الفرنسية وتحوّلت إلى مدار تحليل طيلة النهار:

الأمر الأول هو غياب الحرارة بين الرئيسين الفرنسي واللبناني، اذ لم تحدث مصافحة بين الرجلين، لكنّ حجة الكورونا التي استخدمها البعض سقطت في الجميزة، عندما احتضن ماكرون العشرات وصافحهم. 

الأمر الثاني هو تكرار ماكرون لكلمة “الشعب اللبناني” 6 مرات في مداخلته القصيرة صباحاً وتحميله الطبقة السياسية الحاكمة للكوارث التي حلّت بلبنان، مشدّداً على كلام لودريان الأسبوع الفائت : “لا مساعدات مالية للبنان فرنسياً وأوروبياً”.

النقطة الثالثة التي يجب التوقف عندها مطوّلا، هي إصرار ماكرون على مدّ المساعدات الإنسانية بشكل مباشر للمتضرّرين دون المرور بالقنوات الرسمية، تاركاً الوزيرين زينة عكر وحمد حسن – الراقص على أنغام الكوفيد – يتصارعون على أحقية إدارة المساعدة وتوزيعها. ووعد ماكرون بالعودة إلى بيروت بعد ثلاثة أسابيع للتأكد من حسن توزيع المساعدات.

إذن، لن يكون هنالك مساعدات للبنان الرسمي، الذي سقط اليوم بالضربة القاضية أمام أعين المتابعين في لبنان وفرنسا والعالم. شاهد الجميع كيف تحوّل سياسيو لبنان، الذين لم تحرّكهم الأشلاء والدماء المتناثرة في شوارع بيروت إلى حفنة من المجرمين، ينظر إليهم العالم أجمع بعيون أهالي الضحايا الذين سقطوا على المرفأ وقبلها بالدواء السام والهواء الملوّث والماء الذي يختلط بالأدران.

كانت زيارة ماكرون أكثر من ضرورية، كانت زيارة فاضحةً لكل العطب الذي تعاني منه الدولة في لبنان، وكانت كاشفة لحجم السفالة التي يتمتّع بها حكّامنا. لم يجد أهالي الجميزة الذين باتوا في العراء من يحتضنهم، لم يزرهم ميشال عون، لم يدعُ إلى فتح الفنادق، وعندما كانت قناته التلفزيونية تتحدث عن سعر الزجاج في السوق، قرر النزول إلى المرفأ فوضع يده في جيب بنطاله قبل أن يغطّ في سبات عميق في ساعات ما بعد الظهر. هنا، حيث الدولة فجّرت ناسها، لم تمرّ مكنة إنجازات حسان دياب ولم يتعنّى نواب الأمة أن يبادروا لأي خطوة تحفظ ماء وجوههم. هنا، تُرك الشعب اللبناني وحيدا في عاصمته المدمّرة ولم يجد إلا مسؤولا غربيا يربّت على كتفه ويمسح دموعه.

قد تشبه زيارة ماكرون في مفاعيلها وشكلها الأولي زيارة فرانسوا ميتيران لسيراييفو ذات صيف من العام 1992, بعد سيطرة قوات الأمم المتحدة على المطار تحضيرا لاتفاقية ماستريخت. تلك عراضة امتاز الرؤساء الفرنسيون في إتقانها ولا يمكن اختزالها بزيارة الغائية لأنها توّجت في الحالتين المذكورتين مسعى فرنسي إنساني لمساعدة شعب منكوب في البوسنة كما في لبنان.

ختم ماكرون زيارته بلقاء ميشال عون في بعبدا وبلقاء الكتل النيابية التي سمع رؤسائها كلاماً قاسياً عن استحالة تقديم مساعدات أوروبية للبنان، قبل تغيير جذري في بنية النظام وإنهاء الفساد المستشري في بنى الإدارات العامة. لذلك لا يبدو كلام ماكرون الذي همس به في الإجتماع بعيداً عما قاله في العلن في المؤتمر الصحافي عن “عقد سياسي جديد” يحتاجه لبنان لكي ينهض من جديد. فيما اكتفى ميشال عون بالقول “فرنسا رح تساعد لبنان”.

لم تكن زيارة ماكرون زيارة عادية لرئيس عادي لبلد عادي في ظروف عادية، اذ يمكن القول أنّ الاستثناء هو الذي صنع المشهد: وجد ماكرون نفسه رئيساً لشعب من دون رئيس ولا حكومة ولا نواب ولا جمهورية. شعب يبحث عن ممكنات دولة وجد ضالّته في رئيس يخوض معارك شرسة سياسية واقتصادية مع خصومه في فرنسا وأوروبا، حيث شعبيته لا تكاد ترتفع حتى تضربها أزمة من هنا ومعضلة من هناك. عرف الرئيس الشاب كيف يتعاطى مع هذا الملف بشكل ذكي، حافظ على بعض البروتوكولات الدبلوماسية وخرق البعض الآخر ليقدّم الشعب اللبناني على حكّامه، تجوّل في بيروت مع وزيرة خارجيته لودريان والسفير برونو فوشيه وثلاثة مرافقين وتفقّد ساحة الجريمة وعاين الأضرار وتعاطف مع المنكوبين وأدّى دوره الطبيعي كرئيس للبلاد التي لم تنتخبه.