fbpx

عن بيروت… وعن حبيبتي والحرب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أيُّ حزن أكبر من سماع أخبار الموت، عن المدينة التي تحب، من حبيبتك. عن بيروت أتحدث، وعن حبيبتي والحرب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كنا قد اخترنا بيروت للقائنا الأول، بيروت المناسبة للدهشة الأولى، والحضن الأول، والقبلة الأولى، والمشي الأول، بيروت المناسبة لابتداء الأشياء، وابتكار الدروب.

أردنا مدينة لا تصرخ علينا، أو تطاردنا، مدينة نتكئ عليها مثل جدار وحيد، فكانت بيروت الوحيدة، وجهتنا، وملاذ أحلامنا الممتدة إلى الأبد، بيروت التي تنادينا: تعالوا إليَّ، أنا مرفأُ الآتين من البعيد، ونافذة للحب والضوء. ونحن الآتين من البعيد نحمل الحب والضوء، نريد مرفأ ونافذة، نريد بيروت.

المسافة بيروت

تقول حبيبتي: لا مسافةَ واضحة في الحب، لا تعنيك اليوم المسافات، صارت أكثر بساطة، المسافة الآن هي طائرة، وسفينة، وعشرون قطاراً، المسافةُ تحتاج اليوم جواز سفرٍ وعشرات الأختام، المسافة الآن هي موافقة لقطع الحدود، والخروج.

لكنَّ المسافة الآن يا حبيبتي باتت أكثر تعقيداً، وأبعد؛ أبعد من الطائرات والسفن والقطارات، المسافة لا تحتاج إلى جواز سفر ولا إلى أختام، ولا تحتاج إلى موافقة لاجتياز الحدود والخروج، المسافة الآن هي بيروت، بكل حزنها الممتد إلى قلوبنا، بنوارسها التي غادرت إلى البعيد، بالشرود على الوجوه، والتعب الواضح، والبكاء، المسافة الآن آلاف الضحايا والكثير من الموت، المسافة هذا الركام الذي يتداعى الآن في قلوبنا، فلا نستطيع الخروج، المسافة بيروت.

أحب المدن التي لا تشعرني بالخوف، ولا يُشير فيها المارة إليَّ بنظراتهم الحادة، النظرات التي تقول لي: أنت ولد غريب. أحب المدن التي لا أرى فيها الجنود، ولا نقاط التفتيش، ولا الجنائز، المدن التي تضيء في الليل

أتحدث لحبيبتي عن بيروت، أقول لها: عندما خرجت من مدينة الرمادي، كنت أهرب من الحرب التي أكلت كلّ شيء هناك، وجرحتني بمخالبها الطويلة. كنت أهرب حاملاً حقيبتي ورأسي الممتلئ بالانفجارات والرصاص والأشلاء والبيوت المدمرة، وكنت أحمل الكثير من لافتات الموت السوداء، أخذتها من على جدران المدينة: لافتات للأصدقاء الذين قتلوا، ولافتات لآخرين لا أعرفهم، ما زلت أحفظ أسماءهم، كان بإمكان الجميع قراءتها عليَّ، كنتُ مكشوفاً مثل مقبرة، مقبرة كبيرة، كبيرة جداً. 

في الطريق من الرمادي إلى بغداد، كنت أسير في سرب من النازحين، خائفين من الدروب والجهات، ومن الجنود والموت، وكلما ابتعدت أكثر من المدينة، أتلفَّتُ مثل ولدٍ ضيَّع أمه، فكانت أعمدة الدخان تصير أطول، والرمادي تغيب رويداً رويداً في السراب.

ها أنت ذا، وأشارت إلى الندوب

وصلت إلى بغداد، وكانت الحرب قد ربطت خيطاً حول إصبعي، كنت حيثما مشيت تفضحني الانكسارات، تتساقط مني الأسماء واللغة والذاكرة. في بغداد أعرف جيداً أين سقطت أسماء رفاقي الذين قتلوا في سيارة مفخخة، كانوا كثيرين حدّ أنَّ المارة تعثروا بالأشلاء، وأعرف جيداً أيضاً أين سقط سقف بيتنا في الرمادي، وأين وقعت من رأسي رفوف المكتبة التي احترقت بالقصف، كانت الكتب تحترق، واللغة تحول إلى ألسنة من اللهب والدخان، أتذكر أين سقطتُ مني، تحت نصب الحرية، وعلى جسر الجمهورية، وفي شارع المتنبي.

لقد كنت أتداعى في بغداد، وتتساقط مني الأيام والأمكنة والوجوه، وكنتُ أخاف من الغياب، وأدري أنني سأتلاشى في الدروب، لولا أنني غادرت بعد أسبوع واحد إلى إسطنبول، المدينة التي رممتني، كانت إسطنبول مثل ياباني قديم، تتقن فن الأشياء المكسورة “Kintsugi” لقد وصلت إليها شظايا حادة، فأعادتني كاملاً، أعادت كل قطعة مني إلى مكانها، وقالت: ها أنت ذا، وأشارت إلى الندوب، الندوب التي تدلُّ عليَّ وتعرفني من خلالها المدينة أينما ذهبت.

أقول لحبيبتي: إنني أحب المدن التي لا تشعرني بالخوف، ولا يُشير فيها المارة إليَّ بنظراتهم الحادة، النظرات التي تقول لي: أنت ولد غريب. أحب المدن التي لا أرى فيها الجنود، ولا نقاط التفتيش، ولا الجنائز، المدن التي تضيء في الليل، مثل شجرة عيد الميلاد، المدن التي أجلس فيها على الرصيف، وأداعب في شوارعها الكلاب والقطط، المدن التي تشبهك يا حبيبتي.

لقد زرتُ مدناً كثيرة بعد إسطنبول، وفي كل مدينة أذهب إليها كان شيءٌ ما يشدني للعودة مرة أخرى إلى إسطنبول؛ ذهبت إلى بولو وعدت بعد أقل من 8 ساعات، وعندما اقتربت من البيت احتضنت شجرة معمرة، ثم سافرت إلى مرسين، وكنت أريد أن أصير غيمةً وأنا بعد فوق سماء إسطنبول، غيمةً تنزل مطراً على عاشقَينِ يسيران على البوسفور، أو على بائع الكستناء قرب آيا صوفيا، أريد أن أكون مطراً فحسب، ينزل على أي مكان في إسطنبول.

بيروت… أعرفها وتعرفني

عام 2019 كان عليَّ السفر إلى بيروت، لثلاثة أيام فقط ثم أعود مرة أخرى إلى إسطنبول، لكنني كنت خائفاً، ولا أدري لماذا تذكرت حينها بغداد، وتحسست ندوبي، فأنا أعرف إن تساقطت هذه المرة سأكون حاداً وجارحاً، ولن يعود بالإمكان إعادة ما يتساقط مني، لذلك كانت الرحلة مجازفةً، وشيئاً يشبه استدعاء الظلام.

لوَّحت بقلبي مودعاً إسطنبول متوجهاً إلى بيروت التي لا أعرفها إلا من خلال الأغاني، والكثير من القصائد والصور، ركبت الطائرة وأنا أردد: “جئنا إلى بيروت من أسمائنا الأولى…” ثم وفي الطريق السماويّ إليها أعدت ترتيب الحكاية من جديد، وقلت: سأعرفها وتعرفني.

كأنني أنزل في إسطنبول مرة أخرى، هكذا كان شعوري الأول والطائرة تحط بنا على مدرج مطار الحريري، للبحر زرقته ذاتها، وامتداده الذي يتلاشى فيه الحد الفاصل بين السماء والبحر، فلا تستطيع التمييز عندها أيهما البحر وأيهما السماء، وكذلك البنايات، بقرميدها وعلوها وتدرجها الذي ينحدر من الجبل والمرتفعات.

خرجت من المطار إلى شوارع بيروت، قاصداً مكان إقامتي في عين المريسة، كان الطريق اختباراً للسقوط في هواجسي الأولى، لا أريد أن أرى بغداد في شوارع بيروت، وكانت على امتداد الدرب تربت بيروت على كتفي، وأشعر بها تقول: لا تخف، سأعرفك وتعرفني.

وصلت كاملاً إلى عين المريسة، لم أتساقط، ولم أنحنِ لالتقاط الأسماء والوجوه والجدران والكتب والمحترقة، وألقت عليّ بيروت تحيتها، وأُلفتها، ونمت قليلاً قبل موعدنا على الساحل، حارس بيروت وسادن أسرارها، ومطلعها الذي يهبها اللون والرائحة والجمال.

بيروت جميلة قلتها في الليلة الأولى، وأنا أمشي في شارع الحمراء، وأجلس قريباً من صخرتها العالية، هناك حيث تهبُّ رائحة التوت، ويلوّح لي الصفصاف ويشير إلى المسافة بين الصخرة والشاطئ، التفت فأرى ملايين العشاق والوحيدين يمرون من هناك، على امتداد أزمنة بيروت البعيدة، إنهم قريبون جداً، ومن يحدق جيداً سيرى وجوههم على وجهها.

في الليلة الثانية كانت بيروت تتمشى مثل أميرة في قصر سرسق، جلسنا معاً في حديقة القصر، وتمشينا سويةً، ثم احتسينا النبذ ورقصنا، وبعدها ذهبنا إلى حانة قريبة، شربنا الويسكي ورقصنا على كل أنواع الموسيقى، كانت بيروت ترقص وتغني وتضحك، وتقول لي: ألم أقل لك ستعرفني وأعرفك، ثم نرقص.

في الصباح غادرت بيروت، ولوَّحت لها بقلبي، غادرتها وأنا أريد البقاء فيها أكثر، أريد أن أعرفها وتعرفني جيداً، نسيت الندوب، وكنت آمناً فيها، لم أخف، ولم يطاردني المارة بنظراتهم، كانت بيروت مضيئة مثل شجرة عيد الميلاد، ونابضة، جلست على أرصفتها ومشيت في شوارعها وتلمست حسنها العتيق.

 وصلت إلى إسطنبول وأنا أردد: من قلبي سلام لبيروت، وقُبَلٌ للبحر والبيوت. وأعرف أنَّ لي موعداً آخر معها، موعدٌ سنكون فيه حبيبتي وأنا، لا نخاف من شيء، نمشي في الشوارع، ونجلس على الأرصفة ونتبادل القُبل، ونتحدث عن الحب، وكلما التصق جسدينا أكثر، نهمس لبعضنا: لا مسافة في الحب.