fbpx

الانفجار والجشع يهددان الأبنية الأثرية في بيروت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يعد زوار المدينة بحاجة إلى ارتياد البيوت الأثرية لكشف أسرار عمارتها الداخلية، لقد اختُرقت تلك البيوت، خرجت إلى العراء وانكشف ما بداخلها. كجسد جميل برّاق شغف به كثيرون إلى أن تمزق وشاحه على غفلة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عارية هي أبنية بيروت. 

عارية كأحلام اللبنانيين التي ما من أمل يغطيها. مشرّعة على احتمالات سريالية بمأساويتها.. مشرّعة بلا نوافذ، بلا أبواب، بلا سقوف. فجأة تحوّلت زحمة المارة والساهرين في أحياء الجميزة ومار مخايل التي اعتدناها ممزوجة بالفرح والصخب والحياة، إلى زحمة من ركام وحطام وأنقاض ممزوجة بدماء ا الطرق والأرصفة، وعلقت على نثرات الزجاج المتطاير في كل مكان. 

خلّف إنفجار مرفأ بيروت الدامي، إضافة إلى أعداد الضحايا والجرحى والمفقودين المهولة،  أضراراً جسيمة في جسد المدينة وأبنيتها. فبيروت المنكوبة جرّاء تحطم وتصدع منازل أبنائها، مهددة بخسارة عدد لا بأس به من أبنيتها التراثية، التي جاهد الكثير من السكان والمعماريين والفنانين والناشطين المعنيين بالمحافظة على التراث في سبيل الإبقاء عليها.

حتى في مخيلاتنا يصعب علينا تصوّر أبنية بيروت على هذا النحو، منحنية. على طول الشارع رجال ونساء يتأملون ما خلّفه الانفجار. يمعنون النظر إلى زوايا بيوتهم وما بقي من ذكراها. يدمع أحد العجزة الجالس على الرصيف وهو يشير إلى الدركي الواقف بالقرب منه قائلاً: “هذا المبنى هناك، المطلي بالأبيض ونوافذه زرقاء، هل رأيته؟ منذ شهر على التمام انتهى أصحابه من حفلة إعادة ترميمه. ويوم الثلاثاء صباحاً سلّمت أنا مفتاح إحدى الشقق فيه لشاب من آل غلام، ورثها عن جده ورفض بيعها. تخيّل في الصباح كان يملك شقة وفي المساء أمسى بلا مأوى”. 

ميزة شوارع الجميزة ومار مخايل أنها تمدنت محافظة على قديمها. تحوّلت، لكنها لم تزل تشبه بيروت الماضي. حملت في أبنيتها وشوارعها وحاناتها وخدماتها وفنها نسيج وروح بيروت. يعود الرجل الستيني إلى خرق صمت الواقفين في المكان، المحدقين إلى السقوف المتشققة: “الجميزة كانت قبلة السياح في بيروت. يستحيل أن يحط غريب ها هنا من دون أن تطأ قدمه هذه الشوارع وتفرعاتها. كانوا يحسدون المدينة على ما تكتنزه من عمارة وتراث. هيدا الحسد للي عمل ببيوتنا هيك”. يضحك الدركي ويغرق في صمته من جديد. يعدل الكهل قبعته فوق رأسه ويخاطبني قائلاً: “مش مصدقة؟ كانوا الأجانب يتمنوا يفوتوا على البيوت الأثرية ويشوفوا شكلها من جوا. روحي اسألي الناس. روحي اسألي بقصر سرسق”. 

لم يعد زوار المدينة من الأجانب بحاجة إلى ارتياد البيوت الأثرية لكشف أسرار عمارتها الداخلية، لقد اختُرقت تلك البيوت، خرجت إلى العراء وانكشف ما بداخلها. كجسد جميل برّاق شغف به كثيرون إلى أن تمزق وشاحه على غفلة. من بعيد تنكشف أمام المارة صور زيّنت الجدران. أثاث مبعثر قديم. أيقونات لقديسين رُفعت لهم الصلوات وأحرق البخور أمامهم مراراً. ذكريات كثيرة وقعت أرضاً وأخرى تحطمت. وحدها صورة أم كلثوم، التي كانت معلقة على ما يبدو في إحدى غرف ذلك البيت الأزرق الجميل، المواجه لأتوستراد شارل حلو، تدلت من الجدار ولم تقع. ضحكتها بارزة في الصورة وكأنها أمل يطل على المارة من هناك في كل وقت ليُبدد مناظر الجحيم المحيطة بهم.          

في شوارع الجميزة – مار مخايل لا حاجة لأن تكون مهندساً معمارياً أو خبير بناء لتُدرك هول الكارثة التي حلّت بالأبنية التراثية. تكفي زيارتها وتأمّل الدمار عن اليمين وعن اليسار. هنا، بالقرب من لوحة إعلانية كتب عليها “شارع بطابع تراثي”، يتكئ أحد الأبنية على ما تبقى من حجارة بعدما انهار الجزء الأكبر منها وسقط أرضاً. ووفق المهندس المعماري اسماعيل الحسينات فإن “هذا المبنى واحد من أكثر المباني المتضررة في المنطقة، لذلك بادرنا من اليوم الأول كمتطوعين وقمنا بإحصاء الأضرار فيه بهدف رفع تقرير إلى الجهات المعنية، يوضح ما يجب القيام به من عمليات ترميم وتدعيم لاستعادته”، مشيراً إلى أن “مهمتنا كمهندسين متطوعين تنتهي هنا، فجلّ ما نقوم به هو مساعدة الجهات الرسمية لمحاولة استدراك وقوع كارثة أكبر وانهيار المباني التراثية كلياً”. 

“عدد الأبنية المهددة بالانهيار قليل، لكن الخطر الذي يحدق بها لا يقتصر على أنها مهددة بسبب الانفجار، بل أنها مهددة أيضاً بسبب جشع بعض تجار البناء الذين يردون الاستفادة منها، ويرغبون حقاً في أن تقع أرضاً لكي يخرجوا المستأجرين منها ويبنون مكانها أبنية تجارية”. 

واسماعيل واحد من حوالي 800 مهندس تطوعوا لخدمة مدينتهم، فعقب وقوع الانفجار أطلق المهندس المعماري إيلي حنا مبادرة على “فيسبوك” بعنوان: “rise build Beirut” دعا فيها من يرغب من زملائه إلى معاينة البيوت الأثرية وتحديد حجم الضرر فيها ومحاولة ترميمها، وقد لاقت الفكرة استحسان العديد منهم الذين باشروا العمل. وبحسب اسماعيل فإن “المبادرة تهدف إلى كسب الوقت بانتظار التحرّك الرسمي على الأرض، فكلنا يعرف كم تحتاج الإدارات الرسمية إلى وقت لكي تتحرك بسبب النظام البيروقراطي المعمول به”، موضحاً أنه “تم تقسيم المهندسين إلى مجموعات، استلمت كل منها منطقة محددة في بيروت. أنا وفريقي استلمنا منطقة الجميزة – مار مخايل، وهي، كما هو معلوم، منطقة تراثية أثرية فيها الكثير من المنازل المتضررة نظراً لقربها من مكان الانفجار، إذ لا تبعد سوى بعض الكيلومترات، ويمكن القول أنه أقل من كيلومتر واحد كخط نار”. 

ويضيف: “نحن بصدد إعداد التقارير حول وضع ثلاثة أبنية هي الأكثر تضرراً ويجب المباشرة سريعاً في ترميمها وفق المعايير التي سبق ووضعتها المديرية العامة للآثار، والتي تؤكد على ضرورة المحافظة على الطابع التراثي فيها، إذ إنه من غير المقبول أن يتم التلاعب بها أو تشويهها، أو استغلال ما حصل للمطالبة بتدميرها وبناء عمارات تجارية جديدة مكانها، فعملنا هنا يتركز على المحافظة على تراث بيروت قدر الإمكان وعدم المساس به، خصوصاً أن هذا التراث هو فعلياً ما يميّز هذا المنطقة. وفور انتهائها ستُرفع التقارير إلى الجهات المختصة”. 

في بقعة أخرى من المنطقة، يقف عدد من عناصر قوى الأمن الداخلي، يراقبون المارة محذرين إياهم من تجاوز الحبال التي أحاطت بأحد المباني. “ممنوع المرور” يصرخ أحدهم “المبنى مهدد بالانهيار”، يضيف مبرراً. وهذا المبنى وفق اسماعيل هو من أكثر المباني المتضررة. يقع على مقربة من شركة كهرباء لبنان المتضررة بشكل كبير أيضاً. في هذه البقعة كان عصف الانفجار مدوياً. ويوضح اسماعيل أن “المبنى لا يمكن ترميمه فقط، بل نحن نحتاج إلى إعادة بنائه وإعادته كما كان قبل انهيار الطوابق العليا فيه بشكل كامل”. 

نقيب المهندسين: الخطر ليس انهيار الأبنية بل إسقاطها عمداً 

من جهة أخرى، أطلقت نقابة المهندسين خلية أزمة لمتابعة قضية الأبنية التراثية التي زعزع أساساتها انفجار 2750 طناً من نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت. وقد كشف نقيب المهندسين جاد تابت في اتصال مع موقع “درج” أن “عدد الأبنية المهددة بالانهيار قليل، لكن الخطر الذي يحدق بها لا يقتصر على أنها مهددة بسبب الانفجار، بل أنها مهددة أيضاً بسبب جشع بعض تجار البناء الذين يردون الاستفادة منها، ويرغبون حقاً في أن تقع أرضاً لكي يخرجوا المستأجرين منها ويبنون مكانها أبنية تجارية”. 

ويوضح تابت أن “النقابة شكّلت خلية أزمة تعمل بالتعاون مع بلدية بيروت والمحافظة والمديرية العامة للآثار والهيئة العليا للإغاثة وبتواصل مستمر مع قيادة الجيش. وقد عقدنا العديد من الاجتماعات ووضعنا نظاماً للعمل قائم على معاينة مجموعة من المهندسين من النقابة يرافقهم أعضاء من مديرية الآثار لأي بناء يتم إبلاغنا بأنه مهدد بالانهيار، ويتم كتابة تقرير مفصل عن حاله وما هو مطلوب لإعادته كما كان، وإن كان يشكّل خطراً حقيقياً على حياة الناس القاطنين فيه أو المارة. وفور الانتهاء يرفع التقرير إلى بلدية ومحافظة بيروت لاتخاذ التدابير المناسبة، وهنا ينتهي دورنا”، مشيراً إلى أن “ما يتم العمل عليه حالياً هو تدعيم طوارئ للمباني المهددة فعلياً، لأن عمليات الترميم تحتاج وقتاً ونحن لا نملك ترف الانتظار حالياً، فنشدد على ضرورة تدعيم هذه الأبنية بشكل طارئ ومستعجل”. 

وعن كلفة الترميم والتدعيم، يؤكد تابت أن “التدعيم الطارئ لا يحتاج مبالغ كبيرة، لكن الترميم بطريقة تراثية وفق المعايير المعتمدة لاستعادة الأبنية كما كانت مكلف جداً، لكن هذا يجب ألّا يشكل عائقاً في ظل وجود العديد من الجهات الدولية والأشخاص المهتمين بالتراث الذين أعربوا عن استعداد تام للاهتمام بهذا الملف والتبرع بالمبالغ المطلوبة للمحافظة على الأبنية التراثية في المدينة”. 

مما لا شكّ فيه أنها ليست المرة الأولى التي يعود فيها الحديث عن الأبنية الأثرية في بيروت إلى الواجهة، لكن هذه المرة خطر زوال هذه الأبنية بات داهماً، لا سيما في ظل غياب سياسة وطنية رادعة تحفظ لبيروت ما تبقى من هويتها، وتحميها من المحسوبيات والصفقات المشبوهة، فقد تقلّص عدد الأبنية المصنفة تراثية في المدينة على مرّ الزمن من 1016 مبنى تقريباً في تسعينات القرن الماضي، إلى نحو 521 مبنى تراثي حالياً فقط. 

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.