fbpx

كوفيد-19 السعودية:
مخاوف متعاظمة على السجناء السياسيين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أثارت وفاة كاتب الرأي الشهير صالح الشيحي بسبب إصابته بفايروس “كوفيد-19” قلقاً واسع النطاق على مصير آلاف المعتقلين في سجون المباحث السعودية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
  • هذا الموضوع تم اعداده بالتعاون مع Pulitzer Center

اعتقل الشيحي في مطلع 2018، بعد اتهامات وجّهها للديوان الملكي بالضلوع في الفساد، لكن مصادر أفادت بتدهور حالته الصحية في الفترة الأخيرة من اعتقاله وحتى وفاته متأثراً بإصابته بـ”كوفيد-19″ في غضون أسابيع من إطلاق سراحه. دفعت ظروف وفاته غير المتوقعة بالكثير من أهالي المعتقلين إلى مطالبة المسؤولين بالكشف عن مصير ذويهم خوفاً من سيناريو شبيه، يتم فيه إطلاق سراح المعتقلين المتأثرين بالإصابة قبل وفاتهم، وذلك لإخلاء مسؤولية السلطات. عكست تلك المخاوف فقدان الثقة المتزايد نتيجة منهج مستمر من الانتهاكات في التوقيف والإخفاء القسري والتعذيب، وحتى القتل على يد مسؤولي أمن الدولة. كما وفّرت الجائحة مبرراً إضافياً لمسؤولي الدولة لإخفاء المعتقلين السياسيين وتفاصيل اعتقالهم وتغذية مخاوف شعبيّة إضافية، حول إدارة الدولة إجراءات الحماية في السجون عموماً وفي السجون السياسية خصوصاً.

التحوّل إلى منهج الدولة البوليسية

الزيادة الملحوظة في حدة الاستهداف السياسي واتساع دوائره منذ صعود الأمير محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، تعكس تغيّر أدوات الضبط الاجتماعي التقليدية، والتي اعتمدت غالباً على التحريض الديني والمضايقات الأمنية المستترة أو المنع من المزايا والمناصب، وعلى أن السعودية لم تكن يوماً دولة تسمح بتداول القوّة السياسية بشكلها المتعارف عليه. إلا أن إعادة تركيز السلطات في يد الديوان الملكي وولي العهد محمد بن سلمان، تؤرخ لمرحلة متفاقمة من الحكم الاستبدادي المطلق.و كان بناء التحالفات بين الملك المؤسس والقبائل والوجهاء ورجال الدين، عاملاً أساسياً في بدايات الدولة الناشئة لبسط هيمنة الملكية وتدعيم شرعيّتها. وساهم ريع النفط بعدها وتحكّم الملكية في كيفية إنفاقه وتوزيعه، في ضمان ولاء النخب العسكرية والاقتصادية والثقافية لمؤسسة الحكم واعتمادهم على بقائها.

منح ريع النفط أيضاً الملكية منفذاً لدعم مصالحها الإقليمية عبر تحالفات أمنيّة واقتصاديّة مع دول المنطقة، ودعمت الولايات المتحدة الأميركية ملكيّات منطقة الخليج عموماً -والسعودية خصوصاً- في معظم الأزمات الوجودية بناء على سياسة تفضّل الإصلاح التدريجي في أنظمة الحكم على الإصلاح الثوري، كما مرّت السعودية ببعض المنعطفات الإصلاحية والتي سمحت بتشكّل فضاء لمطالبات مدنية بالإصلاح، كما في الفترة ما بعد تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر، وأثناء الربيع العربي، لكن ريع النفط كان حاضراً في مواجهة انتقال الثورات العربية للخليج -وملاحقة “رجيع الثورات” كما يصفهم الإعلام السعودي حالياً، إذ قامت السعودية بضخ سخيّ للأموال بالداخل وإقرار بعض الإصلاحات الشكلية، كما تمّ إنقاذ الأنظمة الموالية من السقوط ،كما حدث مع النظام البحريني بواسطة قوات درع الجزيرة المدعومة إقليمياً ودولياً…

إلا أن ريع النفط -والذي موّل استمرار السلطة المطلقة للملكية- أصبح عرضة للانخفاض وللتذبذب منذ عام 2014، ما دفع صندوق النقد الدولي إلى تحذير السعودية من الإفلاس خلال سنوات، إن لم تنفّذ إصلاحات اقتصادية حقيقية لخفض الإنفاق الحكومي، مهّد التهديد الاقتصادي بذلك لنشوء منهج جديد لضبط المجتمع وإعادة تدعيم السلطة المطلقة لبيت الحكم وتشكيل تحالفاته بالداخل والخارج. تمّ إطلاق رؤية 2030 والتي تمحورت حول تنويع الاقتصاد والانفتاح الاجتماعي بلا تصوّر سياسي مختلف. وظهر ولي العهد محمد بن سلمان بشكل مكثّف في الإعلام كراع للرؤية ولتقديمه كوجه جديد ومتنوّر للحكم في المملكة، وصاحب إطلاق رؤية 2030 الكثير من التغطيات الإعلامية لإبراز الوجه الجديد للمملكة والمتمحور حول الشباب وإطلاق طاقاتهم، والتلويح بنهاية حقبة التحالف الديني الملكي التقليدي في السعودية. وكان إلغاء هيمنة وسلطة رجال الدين وإبعادهم من ضبط المجتمع أهم عامل للترويج لولي العهد ورؤيته، ليس فقط بين الشباب الساخطين من القيود المتراكمة على الحياة العامة والفردية ولكن أيضاً بين المراقبين والحلفاء في الخارج، حيث يتم غالباً تصوير المملكة كبلد يرعى الرجعية الدينية ويصدّرها ومقاوم شعبياً لمظاهر التحديث، ولعل ذلك ساهم في ارتفاع شعبية ولي العهد مبدئياً بين الشباب وبين مراقبيه من الخارج، إلى حد وصف فيه توماس فريدمان -أحد أشرس الناقدين سابقاً للنظام السعودي- ولي العهد بعد لقاء معه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، بأنه “من سيجلب الربيع العربي إلى السعودية”…

لم تصمد هذه السمعة المكتسبة طويلاً، على رغم توظيف أكبر شركات الدعاية والاستشارات، وسرعان ما انهارت خارجياً ومحلياً. وأعيد ترتيب التحالفات في المنطقة حول محور جديد يضم السعودية والإمارات ومصر والبحرين. تركّزت جهود هذا المحور على مقاومة التحوّل الثوري وإعادة ترسيخ السلطة المطلقة للملكيات. وساهمت الحاجة إلى الضبط الاجتماعي خارج الإطار الديني في اللجوء إلى تقنيات المراقبة الالكترونية للجموع على وسائل التواصل الاجتماعي والتي يشكّل السعوديون أكثر الفئات استخداماً لها. سهّل ذلك التحول إلى الدولة البوليسية وذلك باستخدام معدات إسرائيلية فائقة التطور للتجسس وملاحقة الناقدين، تحت غطاء مكافحة الإرهاب. ساهم ذلك في شيوع موجات منظمة من الاعتقالات المسيّسة ضد النخب المؤثرة في المجالات كافة، وباستخدام تهم عامة تلتحف بالوطنية، استهدفت الحملة الأولى التي مرت في أيلول 2017، وبلا أصداء دولية تذكر، نخباً من الكتّاب والمثقفين ومؤثري الإعلام الاجتماعي ورجال الدين، كان من أشهرهم سلمان العودة الذي يتابعه الملايين من داخل السعودية وخارجها. برّرت الأصوات المؤيدة للسلطة الاعتقالات بأنها ضرورة لفسح المجال لإجراءات الانفتاح الاجتماعي تحت رؤية 2030، وذلك على رغم من تأييد أهم الأسماء المعتقلة للرؤية المعلنة، تبعت هذه الحملة موجة الاعتقال الأشهر للنخب السياسية والاقتصادية في فندق الكارلتون ريتز في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. تحت غطاء مكافحة الفساد، شملت الاعتقالات أمراء من أجنحة الحكم السابقة ومسؤولين سابقين في الدولة وكبار رجال الأعمال، وأوجدت الدولة شركة خاصة لإدارة الأموال المنتزعة من الموقوفين بإشراف ولي العهد السعودي. ولم تخضع عملية مصادرة الأموال إلى أي إجراءات تضمن شفافيتها وعدالتها أو حماية الموقوفين فيها، ثم اعتُقلت أهم الناشطات النسويات في أيار/ مايو 2018، قبل أسابيع من رفع حظر القيادة عن النساء، وتزامن اعتقالهن مع حملة غير مسبوقة من التشهير الإعلامي تحت مزاعم خيانتهن الوطن وعمالتهن لدول أجنبية. لكن كان الحدث الأكثر تداولاً وتأثيراً والأكثر إحراجاً للدولة، هو مقتل الكاتب الشهير جمال خاشقجي على أيدي مجموعة من المسؤولين المقربين من ولي العهد في قنصلية بلاده في إسطنبول، وذلك على خلفية نشره مجموعة من المقالات في “واشنطن بوست”، ينتقد فيها سياسات ولي العهد. ودفعت تسريبات التفاصيل المرعبة لمقتله عبر تسجيلات تركية إلى اعتراف السلطة في السعودية بمقتله بعد محاولات لإنكار مسؤوليتها…

تحوّل المنهج السعودي إلى مستوى مختلف من القمع بإعادة المعارضين بالقوة، التجسس غير المشروع على النشطاء والمسؤولين ورجال الأعمال في الخارج والداخل، استخدام الإعلام لبث الحملات التحريضية والإشاعات، تجريم المطالبات السلمية، بأشكالها كافة، وفق نسخة معدّلة من قانون مكافحة الإهاب صدرت في 2017،، حيث أصبح انتقاد ولي العهد أو الملك جريمة إرهابية بموجب القانون المعدّل، كان الهدف من منهج العصا الجديد هو تعزيز سلطة ولي العهد في كافة مفاصل الدولة وفرض سرديّة السلطة على الخطاب العام، وذلك عبر إلغاء الأصوات الأخرى والمنابر المنافسة كـ”الجزيرة”، والتي كان إغلاقها مطلبا أساسياً من مجموعة مطالب، لإنهاء المقاطعة الخليجية عن قطر…

لكنّ الدولة لم تستطع الوفاء بتعهداتها المنصوص عليها في خطة التحول الوطني 2020 والمبنية على رؤية 2030، كان ذلك نتيجة لسوء التقدير السياسي والفشل في نيل الثقة محلياً دولياً. كانت التكلفة المستمرة والباهظة لتمويل حرب اليمن وخطأ التوقعات في مشاريع كبرى كطرح أرامكو للاستثمار الأجنبي والتخطيط لمدينة المستقبل “نيوم” ومقاطعة قطر والتصعيد مع إيران. أدّى التصعيد إلى ضرب أهم المنشآت النفطية في ليلة واحدة وخسارة نصف إنتاج النفط السعودي. وكان الفشل أيضاً نتيجة لممارسات إجرامية تورّطت فيها شخصيات عليا بالسلطة كملابسات اعتقال وتعذيب رجال الأعمال ونخب المجتمع في الريتز، إضافة إلى المقتل الوحشي للكاتب جمال خاشقجي. أصبح الاستهداف السياسي إذاً الخيار البديل لضبط المجتمع وفرض رواية السلطة بعد فشلها في الوصول إلى تنويع الاقتصاد وجلب الاستثمارات. وبحلول 2020، زاد عدد المعتقلين في سجون المباحث السعودية إلى أرقام غير مسبوقة، وأظهر تحليل لموقع رسمي لبيانات المعتقلين في سجون المباحث ارتفاع عدد المعتقلين إلى 5341 شخصاً في 2018، مقارنة بما يقارب 2766 معتقلاً في 2014. وعلى رغم أن النظام ينص على ضرورة تحويل أي موقوف إلى المحاكمة خلال 6 أشهر، إلا أن 3380 معتقلاً أمضوا أكثر من 6 أشهر تحت الاعتقال بلا محاكمات وغالبيتهم لأكثر من سنة…

عام 2020 تدهور الاقتصاد أيضاً كنتيجة لإغراق الأسواق بالنفط السعودي -والمصدر الرئيسي للدخل- إثر خلاف مع منتجي النفط في روسيا، وسجّل الربع الثاني من عام 2020 أدنى مستوى للدخل بما يعادل 77 في المئة، من نقص الإيرادات السنوية. وحلّت جائحة كورونا لتضيف المزيد من الضغط على قطاعات مستهدفة من تنويع الاقتصاد كالسياحة والترفيه، وفرضت الدولة بالتالي مجموعة إضافية من الإجراءات التقشفيّة كإلغاء بدلات الإعانة السنوية لموظفي الدولة وفرض ضريبة مبيعات غير مسبوقة بنسبة 15 في المئة، بعكس ما تعهدت به الدولة عند إقرار رؤية 2030، وفرض ضريبة على الواردات إضافة إلى قرارات سابقة بتقليل الدعم الحكومي لأسعار الكهرباء والبنزين وخفض الإنفاق الحكومي عموماً…

مخاوف من تدهور أوضاع المعتقلين تعسفياً

بحسب بيانات وزارة الصحة السعودية فقد سجّلت أعلى نسبة من الإصابات بفايروس “كورونا” في تموز/ يوليو، وبحلول آب/ أغسطس كانت الإصابات في السعودية الأعلى بعد إيران من بين دول الشرق الأوسط، على رغم الفارق في عدد السكّان. ومنذ بداية الأزمة أقرت الدولة عدداً من الإجراءات الاحترازية غير المسبوقة، شملت حظر التجوّل الجزئي أو التام في فترات متغيّرة، تعليق الحضور إلى المدارس والجامعات وتحويلها إلى العمل الرقمي، إعلان حالة التأهب في المستشفيات ومنح الأولويّة لرعاية المصابين بـ”كورونا” وفحصهم، منع التجمّعات في المساجد والمناسبات العامة وفرض غرامات باهظة على المخالفين، تقييد التجمعات بأعداد محدودة في موسم الحج، إلغاء الرحلات الدولية بعد فترة أولية من فحص الوافدين من الخارج وعزلهم وقامت الدولة في فترة لاحقة ببعض إجراءات لإسكان بعض العمّال المهاجرين في المدارس والفنادق، وذلك كون الإصابات هي الأعلى بينهم نتيجة تدنّي ظروف معيشتهم وتنقلهم وعملهم ولتسريحهم بلا تعويضات كافية ما لايسمح باتخاذ إجراءات كافية للوقاية…

خلال الجائحة، أعلنت إدارة السجون ترتيبات احترازية مختلفة للتعاون مع وزارة الصحة في تطبيق إجراءات الوقاية، تشمل محاضرات التوعية وفحص العاملين والعاملات قبل الدخول إلى العنابر وإلزامهم باستخدام أدوات الحماية الشخصية. وعُلّقت الزيارات العائلية والنشاطات الثقافية والرياضية، وأفادت المديرية العامّة للسجون بأنه لاتوجد أي إصابات بـ”كورونا”، بين نزلاء سجون السعودية وأنه استعيض عن الزيارات العائلية بالخدمات الالكترونية، لكنه تحدّث أيضاً عن دراسة خدمة التواصل المرئي بين النزلاء وذويهم والتي لم تحدث حتى الآن بحسب مصادر من ذوي المعتقلين…

منحت الجائحة بذلك غطاء لفرض سياسات عزل إضافية لمعتقلي المباحث، وبالتالي شيوع التكتّم على أوضاعهم الصحية والقانونية في غياب أي تواصل مع ذويهم، واعتادت السلطات السعودية على توقيف أي معتقل سياسي لفترة تحقيق عبر رئاسة أمن الدولة، وذلك لفترات تتراوح من شهرين إلى 4 أشهر، يتم التحقيق في معزل تام عن أي زيارات أو تمثيل قانوني، وقد يسمح للبعض بإجراء مكالمات لا تتعدّى الدقائق مع ذويهم وعلى فترات متقطعة بحيث لا يتم فيها تداول أي معلومات حول تفاصيل الاعتقال أو مسبباته فضلاً عن التعذيب…

وفّرت الجائحة مبرراً إضافياً لمسؤولي الدولة لإخفاء المعتقلين السياسيين وتفاصيل اعتقالهم وتغذية مخاوف شعبيّة إضافية، حول إدارة الدولة إجراءات الحماية في السجون عموماً وفي السجون السياسية خصوصاً.

يحفّز ذلك كله قلقاً مشروعاً على مصير المحتجزين وخصوصاً مع انقطاع الزيارات وإيقاف المحاكمات في ظل الجائحة، على رغم أن الدولة أنشأت نظاماً خاصاً بالمحاكمات الالكترونية منذ كانون الأول/ ديسمبر 2019، وتم تفعيله في المحاكم الجزائية في الرياض ومكة وجدة وجازان والدمام، والتي تحوي أكبر عدد من المعتقلين في سجون المباحث. وما أثار القلق ليس استمرار احتجاز معتقلين لمدد غير معلومة، ولكن أيضاً احتمال تدهور صحتهم النفسية والجسدية، خصوصاً بالنظر إلى تقارير تكشف عن تعرضهم لتعذيب مروّع خلال فترة التحقيقات معهم ما يعرضهم بشكل أكبر لتردّي صحتهم في حال تقييد الرعاية الصحية والزيارات. وكانت الصحافة الدولية نشرت بعد مقتل خاشقجي تقارير تفيد بتعذيب عدد من معتقلي فندق “الريتز”، بما يشبه ما مارسوه محققون أميركيون ضد مشتبه بهم في تفجيرات القاعدة، وتحديداً أحداث 11 أيلول. ويُنقل الموقوفون السعوديون إلى أماكن اعتقال سرّية مجهّزة بغرف خاصّة بالتعذيب، تستخدم فيها تقنيات تعذيب محرّمة دولياً. وأثير استخدام مثل هذه التقنيات للمرة الأولى في قضية 11 أيلول، ولاقت استنكار خبراء ومحققين دوليين بسبب ما نشر عن قسوتها وعدم جدواها. وفي حالة معتقلي “الريتز”، نشرت الصحف الدولية شهادات من مصادر موثوقة تكشف استخدام التعليق والضرب والصعق الكهربائي،، وتوفي اللواء علي القحطاني مدير مكتب أمير الرياض السابق وأحد المعتقلين تحت التعذيب. يثير ذلك التساؤل عن مدى التعاون الدولي في تدريب عناصر أمن الدولة السعودية على مثل هذه التقنيات المحرّمة والخطيرة، وعواقبه الصحية الخطيرة التي قد تصل إلى الموت، خصوصاً في ظل منهجية الانتهاكات الموثّقة في إجراءات العدالة وضماناتها…

أدى ذلك إلى انتشار الذعر بين أهالي معتقلين آخرين وتواتر الأنباء عن قيام السلطات بتعذيب عدد من السجناء بالطريقة ذاتها، وبينهم ناشطات في حقوق الإنسان. وبرزت مطالبات ذوي لجين الهذلول، إحدى أشهر الناشطات المحتجزات على خلفية مطالباتها بإنهاء قيود التنقل وولاية الأمر على النساء، وأيضاً الداعية الإسلامي د. سلمان العودة والباحث الإسلامي التنويري حسن فرحان المالكي على مواقع التواصل الاجتماعي للاستفسار عن مصيرهم.

ونشرت صحيفة “الغارديان” تقريراً في آذار/ مارس 2019 مبنياً على تسريبات من الديوان الملكي يفيد بحدوث تعذيب مروع للسجناء السياسيين. ذكر التقرير أن طبيباً تم توجيهه من الديوان الملكي بعمل فحص سريع لحوالى 200 معتقل ومعتقلة في سجون المباحث، على رغم مقاومة مستشاري ولي العهد لذلك الفحص. وذلك وعلى رغم أن “الغارديان” لم تنشر التقارير كلها، إلا أنها نشرت بعض الأسماء وبعض الملاحظات الطبية الصادمة عن كل سجين، ذكرت فيها تعدّد الإصابات والكدمات في مختلف مناطق الجسم وسوء التغذية وفقدان القدرة على الحركة أحياناً، ما يشير إلى إهمال طبي جسيم…

دعا ذلك المنظمات الحقوقية والمعنيين بالشأن العام إلى مطالبة السلطات بالإفراج عن معتقلي المباحث لتقليل فرص الإصابة، لكن السلطات استجابت بالإفراج عن عدد محدود من سجناء الحق العام ومعتقلين أجانب من مخالفي قوانين الإقامة وإعادتهم إلى بلادهم. وفي بداية نيسان/ أبريل 2020، سقط د. عبدالله الحامد، أحد أكبر دعاة التحوّل إلى الملكية الدستورية، في زنزانته متأثراً بسكتة دماغية، كان ذلك نتيجة لعدم خضوعه للعلاج المقرر له قبل ثلاثة أشهر. بقي الحامد غائباً عن الوعي 4 ساعات قبل نقله إلى المستشفى وإعلان وفاته. واعتقل كل من د. عبدالعزيز الدخيل وكيل وزارة الاقتصاد السابق وعقل الباهلي وكلاهما من أبرز دعاة الإصلاح السياسي والحقوقي على خلفية نشرهما لتعزية في رثاء الحامد. كما أرسل محامو الأميرة بسمة بنت سعود المحتجزة مع ابنتها منذ بداية 2018، في سجن الحاير السياسي في الرياض، تغريدات يناشدون فيها الملك وولي عهده بإطلاق سراحها بسبب تردّي حالتها الصحية وهي كانت مريضة قبل اعتقالها. ورفض مسؤولو الدولة مزاعم التعذيب من ذوي الناشطات بلا إجراء أي تحقيقات أو السماح لمقررين مستقلين من الأمم المتحدة بحضور التحقيقات أو جلسات المحاكمة أو الاطلاع على أدلة النيابة العامة.

نحو المزيد من العنف والتصفيات

في خضم الجائحة والضغط الاقتصادي، لم تعد الدولة النظر في مشاريع الفيل الأبيض كما مشروع المدينة المستقبلية نيوم، ولجأت إلى الاعتقالات والتصفية أمام مقاومة ما يقرب من 20 ألفاً من السكّان محاولات الإجلاء القسري. وقتل عبدالعزيز الحويطي في منزله في ما يبدو أنه مواجهة عنيفة بالرصاص مع السلطات، وذلك بعد نشره مقاطع مصوّرة يعلن فيها رفضه التهجير أو التعويض، وتواترت الأنباء بعدها عن أشخاص من قبيلة الحويطات المحتجزين في سجون المباحث لشهور لرفضهم عمليات الإخلاء أو التعويض…

لكن تمثّل الحدث الأكبر في اعتقال كلا من الأمير أحمد عبدالعزيز وولي العهد السابق محمد بن نايف بتهم تتعلّق بالخيانة في آذار 2020، احتلّ الأمير أحمد عبد العزيز مكانة رفيعة في العائلة الحاكمة كأحد الأبناء الثلاثة المتبقين على قيد الحياة للملك المؤسس، وأحد أعضاء هيئة البيعة المنوط بها تعيين الملك وولي العهد. ظهر الأمير أحمد في مقطع متداول التقطه متظاهرون في لندن وهو يدعوهم إلى عدم الدعوة إلى سقوط آل سعود، ويذكّرهم بأن حرب اليمن هي قرار للملك ووليّ عهده. عاد الأمير أحمد إلى السعودية بعد وقت قصير من مقتل جمال خاشقجي ولم يكن له أي دور عام أو سياسي قبل اعتقاله. أما الأمير محمد بن نايف فقد تنازل في مقطع مصوّر على التلفزيون الرسمي عن ولاية العهد للأمير محمد بن سلمان بعدما تم احتجازه وتهديده لليلة كاملة في صيف 2017، احتُجز بعدها في منزله وحُجر على مخصّصاته حتى وقت اعتقاله، وحذفت المديرية العامة للسجون تغريدة كانت وضعتها في أيار 2020، تعلن فيها نقل الأمير محمد بن نايف إلى العناية المركزة بعد تعرضه لنوبة قلبية. أثار الخبر مخاوف حول الوضع الصحي للأمير ما دفع الكتلة الأكبر في الاتحاد الأوربي (الحزب الشعبي الأوروبي) إلى إصدار دعوة إلى السلطات السعودية لضمان حياة الأمير وتوضيح مقر احتجازه…

علامات على القادم

تحوّلت الدولة السعودية من منهج بناء التحالفات الداخلية وعدم الانحياز إلى سياسات القمع والهيمنة محلياً وخارجياً، وحتى الآن لا مؤشرات لتغيّر منهجية الحكم في الانفتاح السياسي، فلم تقدّم أي من الضغوط التي واجهها الملك سلمان وولي عهده في اليمن خلال سنوات أي مؤشّرات للتراجع. ولا تزال مقاطعة قطر قائمة على رغم الاعتبارات الأمنية والاقتصادية لدول المقاطعة، ويخلف ملف الاعتقال السياسي والذي اتّسعت دائرته ووحشيّته في السنوات السابقة إرثاً ثقيلاً، ليس على شرعية نظام الحكم السعودي وحسب، ولكن على حلفائه الدوليين وفي مقدمهم الولايات المتحدة الأميركية. على أن سيناريو الثورات غير متوقّع في بلد كالسعودية تمّ تجفيفه على مدار عقود ماضية من روّاد العمل المدني والسياسي إلا أن سيناريوات أخرى أكثر قتامة يمكن أن تحدث، منها ارتفاع شعبية تيّارات متطرفة كالتيارات الدينية كبديل لاحتواء الغضب الشعبي من اعتقال رموز التيارات الدينية. وحدث ذلك سابقاً في العراق وسوريا واليمن ومصر وليبيا، تحت أنظمة مدنية أسست لممارسات الاستبداد، وقد يفسح المجال أيضاً لنشوء تنظيمات خارج إطار الدولة برعاية أنظمة إقليمية، تسعى إلى توسيع النفوذ واستغلال مشاعر السخط الشعبي والإقصاء. وفي مقابل كل معتقل سياسي هناك أسرة وأصدقاء وفئات كاملة من الشعب يتم أيضاً تهميشهم ومحاولة إخضاعهم بالقوة. ولا يترك ذلك أثراً سليماً في بناء شعبية لأي قيادة ناشئة أو لحلفائها، وخصوصاً في منطقة تتصارع فيها قوى إقليمية ودولية ويصبح فيها مصير أي قيادة سياسية رهناً بأي فرصة سانحة لاستغلالها. ولا يزال تقرير التنمية العربية المنشور في مطلع الألفية وثيق الصلة بما يحدث اليوم، وذلك في إشارته إلى أثر تقييد الحريات السياسية على فشل جهود التنمية العربية، فلا شيء يعوّض التجريف المستمر للنخب المدنية والثقافية عبر الاعتقالات السياسية…