fbpx

سعد الحريري بين انفجارين: “تلفن عياش”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يُشِر سعد الحريري في أعقاب صدور الحكم بجريمة قتل والده إلى نوع التضحية التي قال إن من المفترض أن يقدمها “حزب الله” بعد صدور الحكم بأحد قادته، وهو سليم عياش بوصفه مذنباً ومنفذاً للجريمة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قال إن الجريمة سياسية، لكنه لم يقل أن لا وظيفة سياسية لظهور الحقيقة، والأهم أن ظهور الحقيقة لا يعني أن العدالة ستأخذ مجراها.

ما لا شك في أن سعد الحريري الجالس في قاعة المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة والده منتظراً النطق بالحكم، هو غيره الرجل الجالس في “بيت الوسط” منتظراً ما ستؤول إليه المفاوضات على تشكيل الحكومة، وما إذا سيتم تكليفه بتشكيلها. المسافة بين سعد وبين نفسه هي نفسها المسافة بين الانفجارين اللذين هزا بيروت في 14 شباط/ فبراير 2005 و4 آب/ أغسطس 2020. في التاريخ الأول باشر آل الحريري تراجيديا عائلية وسياسية انطوت على انعطافات وتخللتها انشقاقات ليس آخرها انشقاق الشقيق الأكبر بهاء عن أخيه، وتُوجت بواقعة إفلاس زلزلت امبراطورية الأب المالية، وفي التاريخ الثاني وقع انفجار دمر ثلث مدينة بيروت ويبدو أن ثمة نفقاً زمنياً وسياسياً يربط بين الزلزالين، لا سيما أنهما لا يبعدان من بعضهما بعضاً أكثر من مئات الأمتار.

تولى التفجير الأخير الإطاحة بالمدينة وبأهلها، وهذا وإن لم يشكل تراجيديا شخصية لسعد، إلا أنه حوله عنصراً في تراجيديا جماعية أذابت تراجيديا والده في بوتقة أكبر منها.   

لا شك في أن سعد في المحكمة، هو غيره في “بيت الوسط” على ما أطلق على منزله في بيروت. سعد في المحكمة هو ذاك الرجل الذي يستعيد الوقائع التي سبقت مقتل والده، أما في بيت الوسط، فهو الرجل الذي عُلقت في عنقه وقائع ما بعد المقتلة. وهو إذ ترنح بين المواقع الكثيرة التي اختارها له أولياء الأمر، بقي ابناً غير مكتمل النضوج. قال له الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبد العزيز، شد الرحال وتوجه فوراً إلى قصر المهاجرين حيث يقيم المتهم الأول في حينها في الجريمة بشار الأسد، فشد الرحال وحمل معه تراجيديا العائلة، وأمضى ليلة في ضيافة من يفترض أنه قاتل والده.

ودارت الأيام بسعد وبصحبه بين الزعيم المطلق للطائفة الكبرى في لبنان، وبين العاجز عن سداد رواتب موظفي المؤسسات التي خلفها له والده. وتخللت هذه المراوحة مآسٍ لم يخفها وجه الرجل وجسمه، فهو تارة بالغ السمنة وتارة أخرى يبدو مزيلاً لها ودافعاً بها إلى خارج جسمه ووزنه. وهو إذ كان أصغر رجال السياسة في لبنان، إلا أنه من المرجح أنه ليس أكثرهم سعادة. لا بل أن نوبات كآبة كانت تصيب الرجل، وكان يرد عليها بسقطات صغيرة راحت تتردد أصداؤها في المدينة، وفي محيط القصر.

وهو، أي سعد، وصل إلى لاهاي محملاً بالصمت الذي رافق أيامه الأخيرة في بيروت، تلك الأيام التي شهدت الانفجار الكبير الذي حطم أبواب منزله في الوسط التجاري، واعتقدنا في حينها أن الانفجار يستهدفه، ذاك أن الانفجارات الكبرى تصيب بيت الحريري قبل غيرهم. صمته الذي فُسر بأنه انتظار لما ستحمله إليه المفاوضات حول الحكومة. لا شك أنه في قاعة المحكمة، هناك في لاهاي كانت تحضره وقائع ما يحصل في بيروت، وكان يقطعها عليه صوت القاضي مردداً اسم سليم عياش المذنب الوحيد بحسب المحكمة، وصاحب أطول سجل اتصالات عبر الهواتف الحمر. ولا ندري ما إذا  قد لا يصح افتراض أننا اليوم على أبواب نهاية مأساوية لموقع آل الحريري بعد نحو 15 عاماً أو أكثر على مقتل مؤسس البيت السياسي والمالي لهذه العائلة. لكننا في يوم النطق بالحكم على قتلته في لحظة انتكاسة كبرى لموقع هذه العائلة، ولوظائفها التي كان قد خطها المؤسس. لا بل أن النطق بالحكم قد يضاعف من إرباكات العائلة ويزيد من تشققاتها، ذاك أن الحكم لن يكون امتداداً لما أفضت به الوقائع ودفعت سعد إليها. الحكم اليوم هو من خارج سياق التسويات التي أملاها تناسل المآسي، والتي توجت بتفجير هائل أتى على ثلث بيروت قبل أقل من أسبوعين من النطق بالحكم.

كل هذا وسعد جالس في المحكمة ينتظر النطق بالحكم. استعراض شريط الوقائع التي فصلت بين الجريمة وبين النطق بالحكم فيها لا تتسع له الساعات الطويلة التي احتاجها القضاة لتلاوة حيثيات الحكم، وإذا كان سعد قد حاول استعراض بعضها، فمن المفترض أن يجهش في البكاء، ذاك أن النجاحات النادرة خلالها لم تكن أكثر من مقدمات لهزائم أصابت الرجل وحلفاءه. تم حصد الحلفاء والمقربين بعبوات ناسفة متلاحقة، والفوز بالانتخابات النيابية قابله عجز عن تحويل الفوز لحكم عبر تقنية “القمصان السود”، وتُوج ذلك كله بتراجيديا احتجازه في الرياض من قبل ولي عهدها محمد بن سلمان. إلى أن تولى التفجير الأخير الإطاحة بالمدينة وبأهلها، وهذا وإن لم يشكل تراجيديا شخصية لسعد، إلا أنه حوله عنصراً في تراجيديا جماعية أذابت تراجيديا والده في بوتقة أكبر منها.