fbpx

لبنان: هل كانت محكمة لاهاي ضرورية؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هل كان الوصول إلى عدالة كهذه يستأهل هذه الأثمان التي دفعت كلها؟ الجواب هو نعم، والتعليل هو في قصر المسافة الجغرافية بين السان جورج والمرفأ وبعدها بين من يؤمن بالعدالة مبدأً لحكم المجتمعات ومن يعتمد العنف أسلوباً لفرض الأجندات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مع صدور قرار المحكمة الدولية، تبدو واجهة بيروت البحرية مرآة لواقع المدينة المحكوم بالعنف ومستقبلها المهدد بمزيد من الخراب. أقل من كيلومترين يفصلان بين تفجير خليج السان جورج وانفجار مرفأ بيروت، ولكن أيضاً بين الاثنين 15 عاماً، أنهكت اللبنانيين لتقدم لهم وهم في لحظة انهيارهم عدالة تبدو منقوصة بقدر ما أنها متأخرة ومكلفة.

هل كان الوصول إلى عدالة كهذه يستأهل هذه الأثمان التي دفعت كلها؟

الجواب هو نعم، والتعليل هو في قصر المسافة الجغرافية بين السان جورج والمرفأ وبعدها بين من يؤمن بالعدالة مبدأً لحكم المجتمعات ومن يعتمد العنف أسلوباً لفرض الأجندات.

المحكمة الخاصة بلبنان قالت إنها لم تصل إلى “أدلة قاطعة” عن تورط “حزب الله” أو النظام السوري بجريمة اغتيال الحريري، ولكن هذا لا يعني أنها وجدت أياً من الطرفين بريئاً بل على العكس تحدث قضاتها وبإسهاب عن “مؤامرة” و”عمل إرهابي”، بهدف تحقيق أهداف سياسية تخدم بشكل واضح الطرفين، وفي ذلك ما يثبت التهمة السياسية على كليهما. 

المحكمة وجدت ايضاً وبما لا يترك مجالاً للشك أن من بين الذين خططوا لهذا العمل الإرهابي هو القيادي في “حزب الله” مصطفي بدر الدين، الذي لم تصدر المحكمة حكمها ضده لأنه متوف، وما زال حسن نصرالله يحتفل كل عام بذكرى “شهادته” في سوريا حيث كان يقاتل “كتفاً على كتف” مع قاسم سليماني.

عدم وجود الأدلة الكافية لإدانة المتهمين الآخرين بدوره ليس تبرئة، انها فقط معايير عدالة لا تسمح بإيقاع مجرد احتمال ظلم على متهم حتى وإن كان هو لم يتردد لحظة في قتل مئات الأبرياء بهدف تحقيق مؤامرة اغتيال سياسي، وعدالة لا تدين طرفاً سياسياً حتى وإن لم يتوان هو عن محاربتها وعرقلة اعمالها.

هل كان من ضرورة لمحكمة دولية ليعرف اللبنانيون ما كانوا يعلمونه منذ اللحظة الأولى من وقوع الاغتيال؟

الجواب هو نعم والتعليل يمكن اختصاره بمسافة قد تتجاوز ببضعة كيلومترات تلك الفاصلة بين السان جورج والمرفأ.

العنف لم يبدأ ولم ينته مع اغتيال الحريري.

كورنيش المنارة لا يزال شاهداً على ثقافة العنف التي اعتمدها “حزب الله”، حتى قبل أن يصبح حزباً.

بالقرب من تفجير السفارة الأميركية في الثمانينات كانت محاولة اغتيال مروان حمادة قبل أسابيع على قتل الحريري، وبين السفارة وموقع اغتيال وليد عيدو بالقرب من السبورتنغ والحمام العسكري كان تفجير الجامعة الأميركية، وبين السان جورج والمرفأ كان اغتيال محمد شطح.

كورنيش المنارة لا يزال شاهداً على ثقافة العنف التي اعتمدها “حزب الله”، حتى قبل أن يصبح حزباً.

عشرات السنوات تغيرت خلالها معالم المدينة، كورنيش المنارة جاورته ناطحات سحاب لا يعرف أبناء المدينة من يسكن في شققها، تماماً كما لا يعرفون من هم أصحاب اليخوت في خليجها، خليج السان جورج، فندق الجواسيس وملكات الجمال والتزلج على المياه الذي طالما اختصر كل الكليشيهات اللبنانية والموقع الذي اختاره “سليم عياش” لإنهاء حياة رفيق الحريري. 

تغير الكثير وبقيت ثقافة العنف وشيئاً فشيئاً قضت على كل شيء آخر.

في زمن الحرب كما في زمن السلم، فرض “حزب الله” خياراته السياسية مستخدماً عنفاً لم يسلم منه أحد.

لم يسلم منه الحريري الشريك السابق الذي أهدى “حزب الله” تفاهم نيسان/ أبريل والذي بنتيجته شرع سلاحه، ولم يسلم منه مقاومون وقفوا في وجه إسرائيل ودافعوا عن قضية فلسطين قبله، ألغاهم لعدم انصياعهم في صفوفه، ولم تسلم منه طائفة أخذها رهينة تاجر باسمها، قاتل بدماء أبنائها في حرب سوريا التي ليست حربهم، وضع فقراءها في عداء مع فقراء مثلهم وأغنياءها في منافسة مع فاسدين من طوائف أخرى، أصبحوا معاً منظومة حاكمة فاسدة عصية على المحاسبة قضت على ما تبقى من أسس الدولة ومن أحلام اللبنانيين.

لو لم تكن المحكمة الدولية لما عرفنا تفاصيل ما حصل في ذلك اليوم ولبقي الاتهام السياسي لـ”حزب الله” مجرد وجهة نظر.

 كان على اللبنانيين أن ينتظروا 15 عاماً ليسمعوا ما كانوا يعرفونه منذ اللحظة الأولى. المحكمة التي خذلت جمهور “تيار المستقبل” بقدر ما شمّتت جمهور “حزب الله”، لم تجد الأدلة الكافية لإدانة “حزب الله” جنائياً ولكنها أثبتت التهمة السياسية عليه وفي اللحظة ذاتها التي يواجه فيها تهمة تحمل المسؤولية السياسية في تفجير المرفأ.

سيكون من الضروري أن نعرف يوماً ما تفاصيل ما حصل مساء الرابع من آب/ أغسطس، كما عرفنا تفاصيل ما حصل في الرابع عشر من شباط/ فبراير. سيكون من المفيد أن نحسم ما إذا كان وراء مأساتنا إهمال وجشع تقاطع حولهما سياسيون وقضاة وأمنيون، أو أنها جريمة حرب أخرى اقترفتها إسرائيل بحقنا، ولكن وفي كل الأحوال المسؤولية السياسية في تفجير المرفأ تقع على “حزب الله”.

المنظومة كلها متهمة بقتل اللبنانيين وبتدمير بيوتهم بعد إفقارهم، ولكنها منظومة فرضها “حزب الله” متواطئاً في مراحل سابقة وبقوة السلاح منذ أحداث السابع من أيار/ مايو 2008 واحتلال بيروت.

في وجه هذه التهمة، لا يجد “حزب الله” إلا أصبع أمينه العام، يرفعها في وجه اللبنانيين كلهم، قائلاً لهم، ويلكم من غضبي ومهدداً اياهم بحرب أهلية.

إنها ثقافة العنف، لا يملك الحزب غيرها، يقف هو واجهة لها ووراءه كل شركائه بما في ذلك من يدعون أنهم معارضوه في دولة ساقطة فقدت أسسها كلها.

تفجير المرفأ كشفهم جميعاً. كشف فسادهم بقدر ما كشف عجزهم. سلطة تنفيذية يعترف رئيس جمهوريتها بغض النظر عن الخطر الذي هدد أمن بيروت، بأنه لا “يملك صلاحية في المرفأ”، وسلطة تشريعية يخشى أعضاء برلمانها التجول في أحياء عاصمتهم المنكوبة، يهرّبون جلسة استثنائية لتمرير قانون طوارئ، الهدف منه قمع التظاهرات وتمرير استخدام العنف المفرط في وجه المطالبين بالإصلاح، وقضاء يفتح الملفات بما يتناسب مع القوى السياسية، وجيش يقف في وجه من هو منهم لحماية من يهين سيادته وسيادة الدولة كل يوم.  

الدولة سقطت والمنظومة الحاكمة سقطت ولا خيار أمامها للبقاء إلا استخدام العنف.  

لكن اللبنانيين يملكون خيارات أخرى غير العنف وغير المحاكم الدوليّة. اللبنانيون المفلسون المقهورون الواقفون على ركام بيوتهم وحطام أحلامهم ورغبات أبنائهم بالهجرة، يملكون اليوم خيار محاسبة من قتلهم ودمّر بيوتهم بعدما أفقرهم.

لن يكون عليهم أن ينتظروا 15 عاماً ولا ضرورة لمحكمة دولية تنهك ماليتهم المنهارة أصلاً، عليهم محاسبة زعمائهم وحسب.

عليهم فقط أن يصدقوا أن المحاسبة ممكنة وأن لا مستقبل من دونها، لأن خيار العدالة مهما كان طويلاً ومنقوصاً هو وحده بإمكانه أن يضع حداً للعنف.

المسافة بين السان جورج والمرفأ شاهدة على ذلك.