fbpx

القصّة الكاملة لأرشيف القيادة القطرية:
وثائق عراق صدام حسين تعود الى بغداد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد 15 عاماً، عادت الى العراق وثائق القيادة القطرية لحزب البعث المنحل التي تكشف وقائع مذهلة عن حقبة صدام حسين للعراق…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

| الحلقة الأولى

“حشود غاضبة في طريقها إلى تدمير تمثال ميشال عفلق وإحراق مكتبته”…

تلك هي الشائعة التي سرت كالنار في الهشيم، خلال أحد صباحات حزيران/ يونيو الذي لا يختلف كثيراً عن سائر أيام 2003، حيث القلق والتوجّس وانتظار المجهول. الخبر يصل إلى أسماع كنعان مكية ومصطفى الكاظمي، أثناء عملهما في “مؤسسة الذاكرة العراقية”، ومقرّها بيت المعماري الراحل محمد مكية في حي كرادة مريم وسط بغداد، والذي سبق لنظام صدام أن صادره. من دون تفكير طويل، وجد مكية والكاظمي نفسيهما في سيارة تتّجه مسرعة إلى المكان الذي لا يبعد كثيراً من مقر عملهما، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. “الأمر جزء من عمل مؤسسة الذاكرة، الحفاظ على بقايا النظام السابق، مهما كانت قاسية” يقول مكية… “من يدري، لعل الأجيال الجديدة، حين تنظر إلى تمثال عفلق وسواه مما تحاول المؤسسة الحفاظ عليه، تفكّر في ذلك التاريخ المُتخم بالقسوة، فتعمل المستحيل من أجل ألا يتكرّر. لعل هناك شيئاً ما يساعدنا في فهم ذهنية عفلق. ما الذي كان يقرأه؟ هل ترك تعليقات ما على هوامش كتبه؟ عشرات الأسئلة كانت تدور في بالي حينها.”

بعض الصور والوثائق وصناديق تضم وثائق قبل ارسالها الى معهد “هوفر”

لكن ما إن وصل الاثنان إلى الموقع المفترض، حتى بدا كل شيء هادئاً؛ لا حشود ولا تدمير ولا إحراق. الموقع بحراسة سبعة جنود أميركيين، يقودهم ضابط برتبة ملازم، في أغلب الظن. فوجئ الضابط بالاثنين وهما يسألان إن كانت أي مجموعات عراقية قد اقتربت من المكان في الساعات الماضية، وكان الجواب بالنفي، تبع ذلك سؤال الملازم عن هوية الرجلين. بلكنته الإنكليزية الواضحة، عرّف مكية بنفسه وزميله، وأخبره بالشائعة التي انتشرت قبل حين، فضلاً عن طبيعة المؤسسة التي يعملان فيها. 

هنا حدثت مفاجأة لم تكن بالحسبان. الملازم يحمل شهادة البكالوريوس في التاريخ، وقد استيقظ شغفه القديم حين رأى كمّاً كبيراً من الملفات والأوراق، مرميّة على أرضية متاهة من السراديب التي تقبع أسفل البناية، وترتبط بمبنى القيادة القطرية لحزب البعث الذي لا يبعد منها سوى 100 متر. الضابط أوضح أن فرقة أميركية جاءت قبل مدة وبحثت عن شيء يجهله، ربما وثائق حسّاسة أو أدلّة على شيء ما، أو غرفة سرية في الجدران تحوي شيئاً مهماً. وعندما لم تجد المطلوب، تركت كل شيء على حاله قبل أن تغادر المكان. من دون تفكير طويل، طلب مكية أن يطّلع على تلك الوثائق ليجيب على الأسئلة. 

بعد لحظات كان الثلاثة ينزلون سلّماً معتماً يضيئه مصباح كاشف بيد الملازم، نحو متاهة السراديب المظلمة التي تفوح منها روائح الرطوبة والعفن. آلاف الملفّات والأوراق مبعثرة على غير هدى، يبدو أنها كانت مرتّبة في رفوف حديدية ما زالت هاجعة على الأرض. أخذ مكية زاوية من السرداب فيما اتجه الكاظمي إلى زاوية أخرى، وباشرا استكشاف الملفات والأوراق في ذهول. معظم الوثائق تحمل “ترويسة موحّدة”.

أثناء بحثهما المتواصل، كان مكية والكاظمي ذاهلين من أسئلة الملازم: ما هذه الملفات؟ هل هي مهمة؟ هل اكتشفتما شيئاً؟ هل فهمتما شيئاً؟ أخيراً تنبّه مكية للأسئلة فأجاب: نعم… نعم… إنه كهف علاء الدين! هذا أرشيف القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي.

تاريخ بلا وثائق

في تقرير مبكّر يُعدّ الأول من نوعه بعنوان “بيروقراطية القمع”، نُشر في شباط/ فبراير 1994، وصفت منظمة “ميدل إيست ووتش” (التي صارت تعرف لاحقاً باسم هيومن رايتس ووتش)، أرشيف الوثائق الكردية المتعلّقة بعمليات الأنفال وسواها، بأنه “قطع صغيرة من الأحجية الكبيرة”، في إشارة إلى أنه جزء بسيط من الأرشيف الكامل لنظام البعث. وعلى الرغم من الحجم الهائل للوثائق التي عُثر عليها منذ ثلاثة عقود، لا يمكننا أن ندّعي اليوم أننا نملك كل قطع هذه الأحجية الكبيرة، إذ لا نعرف بالضبط حجم ما تعرّض منها للتلف والحرق والضياع والحَجْب. لكن ما رأى النور من هذا الأرشيف كافٍ لرسم صورة واضحة لمراحل تشكّل نظام شمولي مكتمل الأركان، ظلّ يشغل الرأي العام العالمي حتى بعد زواله. لقد بقي تاريخ نظام صدام بلا وثائق حتى تسعينات القرن الماضي. قبل ذلك كان مجهولاً، حاله حال تاريخ الأنظمة الشمولية الأخرى التي حكمت بلدانها بالحديد والنار، وهو يذكّرنا بتاريخ الشعوب القديمة التي تنتمي إلى عصر ما قبل الكتابة، من حيث إنه تاريخ شفاهي يستند إلى الحكايات والاعترافات والشهادات والشائعات وسوى ذلك؛ تلك هي مادة المؤرخ الوحيدة. عام 1991، بدأ ينشأ ما صار يُعرف في الأدبيات التي تدرس العراق بعد 1968، بـ”أرشيف البعث”. أهمية هذا الأرشيف تكمن إذاً في أن التاريخ صار يتحدّث بلسان الأدلة الموثّقة.

المرحلة الأولى من التنظيم

لكن غياب الكتابات العربية الرصينة التي تحفر وتنقّب في طبقات الوقائع، غطّى هذا الأرشيف بسحابة كثيفة من الغموض، الأمر الذي فتح الباب أمام ما لا حصر له من الشائعات والمغالطات التي حلّت تدريجياً محلّ الحقائق.

ما هو أرشيف البعث إذاً؟ مم يتكوّن؟ من هي الجهات التي استولت عليه؟ أين هو الآن؟ أسئلة لا نجد لها أجوبة واضحة، بل مقالات متناثرة هنا وهناك، لا تشفي الغليل.

أرشيف القيادة القطرية في مؤسسة الذاكرة

لم تكن حصة مؤسسة الذاكرة العراقية من الأحجية الكاملة سوى قطع محدودة تمثّلت في أرشيف القيادة القطرية. لقد انشغل كنعان مكية، في الأسابيع التي تلت العثور على هذا الأرشيف، بمحادثات رسمية مع سلطة الائتلاف الموقتة، للموافقة على نقله إلى مؤسسة الذاكرة العراقية في بغداد، بغية حفظه وأرشفته، وهذا ما حصل بتاريخ 23 أيلول/ سبتمبر 2003. 

وما إن دخل في عهدة المؤسسة، حتى دأب فريقها على تصنيفه إلى فئات متعددة، أولها بيانات طلاب المدارس الثانوية المنتشرة في محافظات العراق الثماني عشرة. يبلغ عدد وثائق هذه الفئة نحو 160 ألف صفحة، ويصل حجم نسختها الرقمية إلى 160 غيغابايت.

تركّز هذه الفئة على السنوات التي تلت حرب 1991، وتتضمّن اسم الطالب وتاريخ ولادته ومكانها واسم أبويه وعنوانه وانتماءه السياسي. وهناك أيضاً تفصيلات بشأن المواقف السياسية لعائلته من الأحداث الرئيسية في تاريخ العراق الحديث، بما في ذلك موقف عائلته من الحرب العراقية الإيرانية، وأحزاب المعارضة وحرب الخليج الأولى وانتفاضة 1991.

مستند يوثّق الرقابة المفروضة على المدارس

الفئة الثانية| 2.7 مليون وثيقة

الفئة الثانية تتعلّق بالمراسلات المتبادلة بين مقرّات الحزب في المحافظات العراقية كافة، ويبلغ عدد صفحاتها نحو 2.7 مليون وثيقة، ويصل حجم صورها ذات الجودة العالية إلى 5 تيرابايت. ومن أبرز الدوائر التي وثّقتها تلك الصفحات، مراسلات ديوان رئاسة الجمهورية مع الأجهزة الأمنية كالمخابرات والاستخبارات ومديرية الأمن العامة والأمن الخاص. وتغطّي هذه الملفات مجموعة واسعة من الموضوعات من نحو الشؤون اليومية والأحداث الخاصة بالحزب.

الفئة الثالثة| أكثر من 3 ملايين صفحة

الفئة الثالثة تختص بملفات العضوية الحزبية، وتضمّ أكثر من 3 ملايين صفحة، ويبلغ حجم وثائقها المصوّرة بدقة عالية نحو 5 تيرابايت. تحوي هذه الفئة ملفاً لكل القياديين الكبار في الحزب، يركّز على الموقف الأمني منهم، فضلاً عن وظائفهم السياسية وتوصيات رؤسائهم ومسؤوليهم المتعلّقة بترقيتهم في العمل وأدوارهم في تأمين مصالح الحزب في مناطق سكنهم وأماكن عملهم، وتفصيلات أخرى مثل طلبات السفر وإجراءات التقاعد. وتوجد فيها أيضاً ملفات لبعض قادة الخط الثاني من الحزب، وبعض الأعضاء الذين لم يكونوا قادة ولكنهم تعرّضوا لمشكلات مختلفة مثل الفصل من الحزب.

الفئة الرابعة| 1.336 صفحة

أما الفئة الرابعة فتتعلّق بملفات وزارة الثقافة والإعلام التي يبلغ عددها 1.336 صفحة. تتكوّن هذه الفئة من وثائق خاصة بالوزارة المذكورة، تعطي فكرة كافية عن هوس صدام حسين بصورته أمام الرأي العام، وتغطّي الفترة الواقعة بين عامي 1991 و2003.

وتضمّ هذه الفئة نصوصاً لصدام تحاكي القرآن في أسلوبه، وأخرى تختصّ بالثقافة العراقية سلباً أو إيجاباً، متضمّنة رغبة واضحة في إعادة تشكيل تلك الثقافة وفروعها كالشعر والعمارة مثلاً، ورسم منهاج لما تسميه بالإعلام الوطني، كي تتوافق مع خيال صدام وذوقه. 

هناك أيضاً مجموعة المقتنيات من نحو الظروف الفارغة للذخائر الحربية والميداليات، فضلاً عن الصور المُمزّقة والوثائق التي أتلفت الرطوبة جزءاً منها. أما المكتبة الفيديوية VHS والملفات الصوتية التي أنشأتها شتى المديريات والأجهزة الحكومية والأفراد المنتمين للبعث في فروع الحزب كافة، فتحتوي مقاطع متعددة من التقارير الإخبارية واللقطات الوثائقية والموسيقى. وتصوّر ملفات أخرى خُطب صدام واجتماعات المنظمات النسوية للحزب والحفلات التي أقامها عدي صدام حسين، وما إلى ذلك. كما يوجد ملف صغير حول الوجود اليهودي في العراق، يقدّم جرداً بالعائلات اليهودية وأفرادها فضلاً عن العائلات التي غيّرت دينها إلى الإسلام أو المسيحية، مع التركيز على المحافظات الكردية. 

وأخيراً هناك “الملفات الثانوية” التي بدأ جمعها عام 2004، بعدما تخلّصت منها جهات مختلفة بشتى الوسائل، لانعدام فائدتها. ها هنا انخرطت مؤسسة الذاكرة العراقية في جمع تلك الوثائق وحمايتها، من خلال شبكة محلية من الوسطاء الذين علموا بنشاط المؤسسة في حفظ وثائق البعث. ويقدّر العدد الإجمالي لمجموعة الملفات الثانوية بنحو 200 ألف وثيقة، بلغ حجم نسختها المصوّرة بدقة عالية نحو 50 غيغابايت. 

جدل نقل الأرشيف إلى هوفر

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، نشرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريراً مفصّلاً بعنوان “العراق: دولة الدليل”، كتبته الناشطة هانية المفتي، كشفت فيه عن الجهات التي استحوذت على أجزاء من أرشيف صدام. ففضلاً عن الجيش الأميركي، هناك حزب “المؤتمر الوطني العراقي”، و”الحزب الديموقراطي الكردستاني”، و”الاتحاد الوطني الكردستاني”، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، و”حركة الوفاق الوطني العراقي”، و”الحزب الشيوعي العراقي”، و”حزب الدعوة الإسلامية”. أما منظمات المجتمع المدني، فهناك مؤسسة الذاكرة العراقية وجمعية السجناء الأحرار ورابطة السجناء السياسيين العراقيين، على سبيل المثال لا الحصر. 

لكن هذا الأرشيف الذي دخل في عهدة مؤسسة الذاكرة العراقية، واجه مشكلة كبيرة عام 2005، بسبب “توتر الوضع الأمني في بغداد، واستهداف مقر المؤسسة بصواريخ الكاتيوشا أكثر من مرة، وتلقّي العاملين فيها تهديدات بالتصفية الجسدية” حسب مكية. ورافق ذلك بطء العمل بسبب توقّف التمويل والإمكانات المحدودة للأجهزة المتوافرة في بغداد. هذا يعني أن المهمة الرئيسية لمؤسسة الذاكرة المتمثّلة بحفظ الأرشيف وتأمينه قد تعرّضت للخطر، الأمر الذي دعا القائمين على المؤسسة إلى التفكير في إيجاد ملاذ آمن آخر يكفل حماية الأرشيف وحفظه، ويسرّع وتيرة أعمال الجرد والتصنيف والمسح الضوئي. يتابع مكية القول “تم الاتفاق مع وزارة الدفاع الأميركية بوساطة بول وولفويتز على نقل الجزء الأكبر من الأرشيف الذي لم يكتمل العمل عليه إلى الولايات المتحدة للمسح الضوئي، ليجد طريقه بعد ذلك إلى معهد هوفر، فيما بقي الجزء الذي اكتملت عملية أرشفته ومسحه ضوئياً في بغداد”، حتى تسلّمته الحكومة العراقية في نيسان/ أبريل 2009.

هناك غموض مطبق يواجه الباحثين في هذا الشأن، ولسنا نعرف الجهة التي يمكن أن نتّجه إليها لجمع مثل تلك المعلومات. أما أرشيف مؤسسة الذاكرة، فقد شكّل استثناءً لأنه متاح للباحثين كما رأينا، وقد أنجِزت بالاعتماد عليه عشرات الكتب والدراسات والمقالات، وأدلى القائمون عليه بكثير من التصريحات التوضيحية لكل من يحتاج إليها.

لا أحد يعرف اليوم مصير الوثائق الأصلية لأجزاء الأرشيف التي ذكرتها المفتي؛

أين هي وما محتوياتها وكم هو عددها؟

عملية النقل هذه فتحت الأبواب أمام جهات متعدّدة في العراق وخارجه، لتشنّ هجوماً متواصلاً على مؤسسة الذاكرة العراقية تضمّن اتهامات بسرقة الأرشيف العراقي. ولم يتوقّف هذا الهجوم إلى أن توسطت مؤسسة الذاكرة بين الحكومة العراقية ومعهد هوفر، كي يوقّعا مذكرة تفاهم جديدة تحلّ بموجبها الحكومة العراقية محلّ مؤسسة الذاكرة، في متابعة كل ما يتعلق بالأرشيف المودع في هوفر. وقد وُقّعت المذكرة مطلع عام 2012. 

لكن فحص المخاطبات والكتب الرسمية التي أتاحتها لنا مؤسسة الذاكرة، يكشف أنها لم تستبعد يوماَ الأطراف الحكومية ذات العلاقة في محادثاتها الخاصة بالأرشيف، حتى عندما كانت مقاليد الأمور كلّها بيد سلطة الائتلاف المؤقتة، إبان مجلس الحكم وقبل تشكيل أول حكومة عراقية. ويؤكد مكية أن السياسي الراحل “أحمد الجلبي كان من أوائل من وجّه بتأييد جهود مؤسسة الذاكرة ودعمها حين كان يترأس مجلس الحكم”، في إشارة إلى قرار مجلس الحكم ذي الرقم 336 في 28 آذار 2004. ويسرد كتيّب بعنوان “تاريخ وثائق مؤسسة الذاكرة العراقية” صدر عن المؤسسة نفسها، كل الاتفاقيات المُبرمة مع الحكومة العراقية، والكتب الرسمية المتبادلة بين الطرفين، موثّقة بالصور.

في 25 آب/ أغسطس 2004، حصلت موافقة رئيس الوزراء العراقي آنذاك أياد علاوي، على قيام مؤسسة الذاكرة بالمهمة التوثيقية لأرشيف القيادة القطرية، بعد نقله من عهدة سلطة الائتلاف المؤقتة إليها. وبتاريخ 17 أيلول/ سبتمبر 2007 تلقّت مؤسسة الذاكرة نسخة من كتاب رسمي صدر بالإنكليزية عن مكتب رئيس الوزراء نوري المالكي، يُعرب فيه عن دعمه للاتفاق الذي أبرمته المؤسسة مع معهد هوفر، ويحثّ المؤسسات الأميركية على تقديم يد العون في إنجاز هذه المهمة. وفي الشهر نفسه، أرسل الرئيس العراقي الحالي برهم صالح، الذي كان يشغل حينها منصب نائب رئيس الوزراء، رسالة إلى المؤسسات الأميركية يعبّر فيها عن رضا الحكومة عن جهود مؤسسة الذاكرة، ويدعوها إلى تقديم المساعدة الممكنة في صيانة الأرشيف المودع في معهد هوفر. 

بقايا صاروخ الكاتيوشا الذي ضرب مبنى مؤسسة الذاكرة العراقية في بغداد

وحالما صدر “قانون المساءلة والعدالة” بتاريخ 14 كانون الثاني/ يناير 2008، والذي تضمّن فقرة تشير إلى تأسيس أرشيف عراقي دائم وفق القانون، تؤول إليه كل وثائق حزب البعث، طلبت مؤسسة الذاكرة “إفادة توجيه” من حكومة المالكي بشأن الوضع القانوني لأرشيف القيادة القطرية. وبعد اطلاع المستشارين القانونيين في مكتب رئيس الوزراء على محتوى الطلب وأوّلياته، جاء الجواب بتأييد استمرار عمل المؤسسة ودعم اتفاقها مع معهد هوفر، من أجل صيانة وترميم الوثائق، على أن يعود الأرشيف إلى العراق حال انتهاء مدة الاتفاقية المبرمة مع هوفر. 

وعلى خلفية الجدل الذي أثارته وزارة الثقافة، والذي تضمّن نقداً لإجراءات نقل الأرشيف إلى معهد هوفر، طلبت مؤسسة الذاكرة من الوزارة نفسها “إفادة توجيه” أخرى بشأن موقفها القانوني، فحصلت بتاريخ 24 نيسان/ أبريل 2008، على جواب يحمل توقيع وكيل الوزارة الأقدم جابر الجابري، استعرض في ديباجته القرارات والكتب الرسمية التي أثبتت سلامة الموقف القانوني للمؤسسة. وخلص الجابري إلى أن وزارة الثقافة “تنوّه بجهود مؤسسة الذاكرة العراقية وتؤيّدها، وتعتبرها جزءاً هاماً من المسعى العراقي الوطني الجاري لإخراج الوطن من مخلّفات النظام السابق، ولاسيما من خلال المحافظة على الإرث الوثائقي والعناية به علمياً وتحضيره للاستفادة العامة المسؤولة منه، وفق القوانين”، راجياً “الدوائر المعنية إلى التعاون مع المؤسسة (مؤسسة الذاكرة)، لتحقيق هذا الهدف الوطني”. 

أما الجهات الدولية المتمثّلة بجمعية المؤرشفين الأميركيين ورابطة المؤرشفين الكنديين، تلك التي أصدرت بياناً دعت فيه معهد هوفر إلى إرجاع الأرشيف المودع عنده إلى دار الكتب والوثائق العراقية بوصفه الجهة العراقية ذات العلاقة، فقد أرسل الجابري للمؤسستين رسالة بالإنكليزية بعد ثلاثة أيام من كتابه السابق، أكد فيها أن الحكومة العراقية سبق أن اطلعت على الخطوات التي اتخذتها مؤسسة الذاكرة العراقية بخصوص الوثائق المودعة في هوفر، وصادقت على اتفاقية الإيداع تلك. وأوضح أن دار الكتب والوثائق العراقية؛ وهو أحد مؤسسات وزارة الثقافة، لا يُعدّ المستودع النهائي لهذه الوثائق حال عودتها إلى الوطن، وذلك استناداً إلى قانون المساءلة والعدالة الذي نصّ على تأسيس أرشيف عراقي دائم يختصّ بوثائق النظام السابق.

وفي الشأن نفسه، بعث الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية علي الدباغ، بتاريخ 1 أيار/ مايو 2008، رسالة إلى المؤسستين الأرشيفيتين الكبيرتين، علّق فيها على بيانهما مؤكداً أن “مسؤولية تحديد الوجه المناسب للمحافظة على المادة الوثائقية الناتجة عن الحكم السابق والاستفادة منها، تنحصر بالحكومة العراقية حكماً ووفق القانون العراقي”. وتابع، “يندرج نشاط مؤسسة الذاكرة العراقية، والذي يتم بإشراف مستمر من الحكومة العراقية، في إطار الجهود الوطنية لتحقيق المصلحة العامة… وفي موضوع الإيداع الموقت الذي حقّقته مؤسسة الذاكرة العراقية مع مؤسسة هوفر… فإن الحكومة العراقية سبق أن نظرت فيه ووافقت عليه. وعليه، فلا مبرر لإدراج هذه المجموعة ضمن قائمة المجموعات الخمس التي يطالب بيان الجمعيتين بإعادتها إلى العراق”. وبعد توجيه الشكر إلى المؤسستين الدوليتين، دعاهما الدباغ إلى “التنسيق مع مؤسسة الذاكرة العراقية، ولتي ما فتئت تطالب بهذه الإعادة، للمجموعات المذكورة وغيرها”.


لكن هذه الاتفاقات لم تنهِ الجدل العراقي والعالمي الذي كان يغضّ النظر عن الاتفاقيات الرسمية التي أبرمتها مؤسسة الذاكرة مع الحكومة، أو يحاجج بأن تلك الاتفاقيات تخالف القانون العراقي والقوانين والاتفاقيات الدولية ذات العلاقة، وأنها أُبرِمت بسبب جهل المسؤولين العراقيين بالقوانين وقرب عهدهم بالعمل السياسي. وقد تواصل هذا الجدل وسط تشديد أطراف حكومية عالية المستوى، على أن الموقف القانوني السليم لمؤسسة الذاكرة، وأنها سلّمت كل ما لديها من وثائق في بغداد إلى الحكومة العراقية. ولم تفتر حدّة هذا الجدل حتى شباط 2012، إذ وقّع مستشار الأمن الوطني فالح الفياض ممثّلاً للحكومة العراقية، مذكرة تفاهم مع ريتشارد سوسا؛ مدير المكتبة والأرشيف في معهد هوفر، انتقلت بموجبها صلاحيات الإشراف على الأرشيف من مؤسسة الذاكرة إلى الحكومة العراقية. وأكّد الطرفان أن “مجموعة المواد الوثائقية العراقية المودعة لدى مؤسسة هوفر تعود ملكيتها للشعب العراقي، والذي تمثّله حكومته المنتخبة وفق الأصول الدستورية. وبناء عليه فإن القرار النهائي للتصرّف بهذه المجموعة يعود حصراً للحكومة العراقية”، مع “اعتماد مؤسسة هوفر كمركز خارجي لإيداع الوثائق العراقية” وفق ما يتّفق عليه الطرفان.

كنت أحلم بأن يتغيّر مسار الدراسات شرق الأوسطية والعراقية، بمجرد الاطلاع على أرشيف صدام، كما حدث للدراسات السوفياتية مع أرشيف سمولينسك في جامعة هارفرد، الذي لا يشكّل حجمه 10 في المئة من أرشيف البعث.

كـنعان مكيّة

هكذا برّأت مؤسسة الذاكرة العراقية ذمّتها من أرشيف هوفر، لكن مكية وزملاءه ظلّوا يتابعون الكتب والدراسات والمقالات الكثيرة التي بُنيت على أرشيف مؤسستهم، وهم إلى اليوم يجيبون على عشرات الأسئلة التي يطرحها الباحثون والطلاب والصحافيون. يقول مكية: “كنت أحلم بأن يتغيّر مسار الدراسات شرق الأوسطية والعراقية، بمجرد الاطلاع على أرشيف صدام، كما حدث للدراسات السوفياتية مع أرشيف سمولينسك في جامعة هارفرد، الذي لا يشكّل حجمه 10 في المئة من أرشيف البعث. كنت أحلم بأن تتمكّن كل أسرة عراقية فقدت عزيزاً، أن تزور قاعدة بيانات مؤسسة الذاكرة، وبكبسة زر واحدة تعرف كل ما يتعلّق بفقيدها”. وختم: “لقد ساهمنا في توفير ملاذ آمن مؤقت للأرشيف، بفضل فريق محترف عمل عليه سنوات طويلة، حافظنا خلالها على كل ورقة وقصاصة فيه. وها نحن، في مؤسسة الذاكرة العراقية ومعهد هوفر، نفي بوعدنا في إعادة الأرشيف إلى بغداد كاملاً غير منقوص. إنه في طريقه إلى الوطن ثانية، حيث مكانه الطبيعي”.

كريم شفيق - صحفي مصري | 29.03.2024

محمد جواد ظريف… حبال السلطة الصوتية في إيران بين المنع والتسريب!

ظريف، وبحسب التسريب الأخير، قام بعدّة أدوار وظيفية، ربما جعلته يتفادى هجوم الأصوليين، وجاهزيتهم للعنف والاتهامات سواء كانت بـ"الخيانة" أو "العمالة" أو "الجهل".