- إعداد أوبري بيلفورد، ورنا صباغ، وستيليوس أورفانيديس، وسارة فارولفي، وإيلي موسكوفيتز، وساروناس سيرنيوسكاس، وأنطونيو باكيرو، ورومان شلينوف، ورياض قبيسي، وديانا مقلد (موقع درج)، وإيمان قيسي (ARIJ.NET)، وجيانينا سيجيني، وآنا بوينارو، وأتانا تشوبانوف، وأسن يوردانوف، وإيون برياسكا، ويانينا كورنيينكو، وديمتري فيليكوفسكي، وكارينا شيدروفسكي، وخديجة شريف، ونينو بكرادزه، وأديريتو كالديرا، وجولييت عطالله، وأليكسي كوفاليف (ميدوزا)، وفريتز شاب، وكريستوف رويتر (دمجلة دير شبيغل الالمانية)
منذ الانفجار المدمر في عنبر نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، في 4 آب/ أغسطس، نزل المواطنون اللبنانيون إلى الشوارع في صدمة وغضب وحزن. وقبل كل شيء، طلبوا إجابات: من أين أتى نحو 3 آلاف طن من المواد الكيماوية المتفجرة ومن يملكها؟
لماذا انتهى المطاف بالسفينة المتهالكة التي جلبت المواد الخطرة إلى لبنان، وقد تقطعت بها السبل في مرفأ المدينة أواخر عام 2013؟ وكيف أمكن للمواد الكيماوية المحجوزة أن تبقى أكثر من نصف عقد من الزمن في عنبر غير آمن قبل أن تقع المأساة في النهاية؟ وكيف أن المجلس الأعلى للدفاع ورئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ووزارة الأشغال العامة والنقل وقيادة الجيش وأمن الدولة وهيئة القضايا كانوا على علم بهذه الحمولة وبخطورتها، وليس فقط إدارة المرفأ والجمارك، ولم يقم أي منهم بما ترتبه عليه وظيفته، بإستثناء كتب التنبيه التي وجهها أمن الدولة الى عدد من المسؤولين.
وفي لبنان، يبدو أن أسباب الكارثة مرتبطة بعدم الكفاءة البيروقراطية. وقبل أسبوعين فقط من انفجار العنبر، تلقى كل من الرئيس اللبناني ورئيس الوزراء تقريراً عاجلاً من الأجهزة الأمنية في البلاد يحذره من أن الوضع خطير للغاية.
أما الجانب الدولي من هذه القضية، من الجهة الأخرى، فسرعان ما ضاع في متاهة من مؤامرات الشركات والمؤامرات المالية. ويقال إن إيغور غريشوشكين، الرجل الروسي الذي وصف بأنه المالك أو المشغل للسفينة “إم في روسوس” التي ترفع العلم المولدوفي، تخلى عن السفينة في لبنان بعدما أعلن إفلاسه. وكانت شركة موزمبيقية تنتج متفجرات تجارية اشترت الشحنة القاتلة للسفينة من جورجيا، وذلك من طريق شركة بريطانية للوساطة التجارية ترتبط على ما يبدو بأوكرانيا.
وملكية “روسوس”، والشركات التي أمرت بنقل ما يقرب من ثلاثة آلاف طن من نيترات الأمونيوم لمسافة بعيدة في سفينة متهالكة، تحجبها طبقات من السرية أعاقت الصحافيين والمسؤولين في كل منعطف. حتى الحكومة اللبنانية لا تعرف على ما يبدو هوية المالك الحقيقي للسفينة..
لكن تحقيقاً أجراه فريق دولي من الصحافيين الاستقصائيين كشف حقائق جديدة عن الفترة التي سبقت الانفجار، الذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 182 شخصاً، وإصابة أكثر من 6 آلاف شخص، وخسارة مئات الآلاف منازلهم.
ووجد المراسلون ظروف المأساة محددة في عالم اللامكان المحير للتجارة الخارجية، حيث تسمح شركات سرية وحكومات متراخية لأطراف فاعلة مشكوك فيها بالعمل في الظل.
ومن بين أولئك الذين لهم صلة سرية بـ”روسوس” ورحلتها النهائية: قطب خفي في قطاع الشحن، ومصرف سيئ السمعة، وشركات تجارية في شرق أفريقيا سبق أن خضعت لتحقيقات بسبب ارتباطات مزعومة بالاتجار غير المشروع بالأسلحة.
وفي تحقيقهم المشترك الذي شمل 10 بلدان، وجد المراسلون ما يلي:
لم يكن إيغور غريشوشكين يملك “روسوس” بل كان مجرد مستأجر لها من خلال شركة خارجية مسجلة في جزر مارشال، كما تظهر وثائق. وبدلاً من ذلك، كان المالك الحقيقي لـ”روسوس” هو شارالامبوس مانولي، وهو قطب قبرصي في قطاع الشحن. (وينفي مانولي ذلك، لكنه رفض تقديم وثائق تدعم كلامه).
كان مانولي يملك السفينة من خلال شركة مسجلة في السلطة الضريبية البنمية المعروفة بالسرية، وعنوانها البريدي في بلغاريا. وسجّلها في مولدوفا، وهي دولة غير ساحلية في أوروبا الشرقية تشتهر بأنها سلطة تقدم علمها بسهولة لأي سفينة وتطبق تنظيمات متراخية على السفن التي ترفع علمها. ولهذا السبب، عمل من خلال شركة أخرى من شركاته، واسمها “جيوشيب” Geoship، وهي واحدة من عدد قليل من الشركات المعترف بها رسمياً التي تقدم أعلام مولدوفا لمالكي سفن أجانب. ومن ثم، منحت شركة أخرى يملكها مانولي، مقرها هذه المرة في جورجيا، شهادة للسفينة بأنها صالحة للإبحار – على رغم أنها كانت في حالة سيئة إلى درجة أنها حُجِزت في إسبانيا بعد أيام.
أثناء رحلة “روسوس” الأخيرة، كان مانولي مديناً لـ”إف بي إم إي” (FBME)، وهو مصرف يملكه لبنانيون ما لبث أن أُغلِق بسبب جرائم مزعومة تتعلق بغسل الأموال، بما في ذلك مساعدة جماعة “حزب الله” الشيعية المسلحة، وشركة مرتبطة ببرنامج أسلحة الدمار الشامل في سوريا. وفي مرحلة ما، عُرِضت “روسوس” كضمان للمصرف.
كان العميل النهائي لنيترات الأمونيوم المحملة على متن السفينة مصنع متفجرات موزمبيقي، وهو جزء من شبكة من الشركات التي سبق التحقيق فيها بزعم أنها تزود جماعات إرهابية وتورطت في الاتجار بالأسلحة. ولم يحاول المصنع المطالبة بالمواد المهجورة أبداً.
حاولت الجهة الوسيطة للشحنة، وهي شركة بريطانية كانت خاملة في ذلك الوقت، المطالبة بالمتفجرات. فقد أقنعت “سفارو ليميتد” (Savaro Ltd.) أحد القضاة اللبنانيين عام 2015 بإجراء اختبار لجودة نيترات الأمونيوم بنية المطالبة بها. وتبين أن المخزون في حالة سيئة، ولم تحاول “سفارو ليميتد” استعادة نيترات الأمونيوم في نهاية المطاف.
ولا يرقى الكشف الجديد إلى سرد قاطع لكيفية وقوع الانفجار المأساوي. وبدلاً من ذلك، يبدو أنه يثير أسئلة أكثر مما يقدم إجابات. لكنه يظهر كيف كانت شحنة “روسوس” القاتلة، في كل مرحلة تقريباً، مرتبطة بأطراف فاعلة استخدمت هياكل خارجية مبهمة وإشراف حكومي متراخ للعمل في الظلال.
ويظهر الكشف أيضاً المخاطر الخاصة التي يشكلها غياب الشفافية في صناعة النقل البحري، وفق هيلين سامبسون، مديرة مركز البحوث الدولية للبحارة في جامعة كارديف.
وقالت سامبسون إن الاستنتاجات “تسلط الضوء على كل نقاط الضعف في نظام [الشحن البحري] وكيف يمكن استغلالها من قبل أولئك الذين يريدون استغلالها”.
الملكية الحقيقية لـ”روسوس”
كانت السفينة التي ترفع علم مولدوفا وانطلقت من مرفأ باتومي الجورجي في أيلول/ سبتمبر 2013، حاملة أكثر من ألفين و750 طناً من نترات الأمونيوم التي صنعها مصنع محلي ومتجهة إلى موزمبيق، في وضع سيئ بكل المقاييس، مع تآكل سطح السفينة، وغياب الطاقة المساعدة، ومشكلات في الاتصالات اللاسلكية. وتوقفت في بيروت لتحميل مزيد من البضائع ولم تغادر قط، بعدما احتجزها أولاً دائنون يسعون إلى الحصول على ديون من مشغلها، ثم من قبل مسؤولين في المرفأ اعتبروها غير آمنة للإبحار.
وعام 2014، وبعد أزمة تقطعت خلالها السبل بأفراد الطاقم الأوكرانيين والروس على متن السفينة المحجوزة لمدة 10 أشهر، نُقِلت نيترات الأمونيوم إلى عنبر في المرفأ. وغرقت السفينة في نهاية المطاف خلف كاسر للمياه في المرفأ أواخر عام 2018، حيث لا يزال حطامها موجوداً.
وبعد انفجار بيروت، ركزت تقارير إعلامية والسلطات الحكومية على رجل واحد باعتباره مسؤولاً عن التخلي عن السفينة وحمولتها: إيغور غريشوشكين. هو مواطن روسي يبلغ من العمر 43 سنة ويعيش في قبرص، وتم تعريفه مراراً وتكراراً على أنه مالك “روسوس”. وتجنب محاولات مشروع OCCRP.ORG وغيره من المنظمات الشريكة للتحدث إليه، على رغم أن الشرطة القبرصية أجرت معه مقابلة بناء على طلب السلطات اللبنانية في 6 آب.
من هو غريشوشكين؟ | إضغط هنا
جذب إيغور غريشوشكين الانتباه في كل أنحاء العالم لدوره في انفجار لبنان. لكن السجلات العامة تشير إلى أن لديه تاريخاً من العمل كمسؤول مؤسسي في شركات يديرها آخرون. كذلك أدين بالسرقة الخطيرة منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في أقصى شرق روسيا، لأسباب لا تزال غير واضحة.
وفي أوقات مختلفة بين عامي 2006 و2013، شغل غريشوشكين منصب أمين السر في شركتين مسجلتين في قبرص: “لينكوت للمشاريع”Lyncott Enterprises، و”هوغلا للتجارة” Hogla Trading، وهما وفرتا تأجير السفن والخدمات البحرية. وأدرجت الشركتان مواطناً روسياً آخر، هو ألكسندر غالاكتيونوف، كمدير.
وعاش كل من غريشوشكين وزوجته إيرينا في قبرص سنوات عدة. ويبدو أنه يسافر كثيراً بين قبرص وموسكو.
ووُلد غريشوشكين في آب 1977 في مدينة فانينو الساحلية في أقصى شرق روسيا حيث لا تزال عائلته الأوسع تعيش. ووفق ملفه الشخصي المحذوف الآن على “لينكد إن”، التحق بأكاديمية الإدارة العامة في الشرق الأقصى.
ومع ذلك، لم يكن غريشوشكين، على الورق على الأقل، يملك “روسوس”. وبدلاً من ذلك، ومن خلال شركة في جزر مارشال تدعى “تيتو للنقل البحري” (Teto Shipping)، استأجر السفينة من شركة تابعة لشارالامبوس مانولي، رجل الأعمال القبرصي.
وتظهر السجلات الرسمية من الوكالة البحرية في مولدوفا، وكذلك المنظمة البحرية الدولية، أن مالك السفينة كان “شركة برياروود”Briarwood Corporation، ومقرها بنما وتابعة لمانولي، وفق سجلات من إجراءات المحاكم القبرصية لعام 2012.
وساعدت ثلاث من شركات مانولي الأخرى “روسوس” في الحصول على علمها المولدوفي، وأصدرت لها شهادات الجدارة بالإبحار، وقدمت لها خدمات وسيطة ساعدت على إبقاء السفينة عاملة في البحر، على رغم أنها كانت مملوءة بعيوب خطيرة.
ولم تتوقف صلة مانولي بالسفينة عند هذا الحد. فالسجلات تظهر أن شركة أخرى من شركاته، وهي “جيوشيب إس آر إل” Geoship SRL، كانت مسؤولة عن تسجيل السفينة رسمياً في مولدوفا، التي لديها تنظيمات متساهلة في شأن الشفافية والسلامة والطواقم.
مانولي: بين كرة القدم والتخلف عن سداد الديون | إضغط هنا
ولد شارالامبوس مانولي عام 1960 في فاماغوستا، وهي مدينة ساحلية في شمال شرقي قبرص. وبعد دراسة بناء السفن في إسكتلندا، عاد إلى قبرص للعمل مفتشاً للسفن، قبل أن يؤسس في نهاية المطاف شركات شحن متعددة. ويشتهر مانولي في قبرص لدوره في كرة القدم المحلية. فبين عامي 2014 و2017، ترأس نادي أنوثوسيس فاماغوستا لكرة القدم، وهو أحد أكثر الفرق شعبية في البلاد. وعام 2015، ترشح لرئاسة الاتحاد القبرصي لكرة القدم لكنه لم يفز. وعام 2002، أنشأ مانولي “أتشيون أكتي للملاحة المحدودة” Acheon Akti Navigations Limited، وهي شركة لإدارة السفن مقرها ليماسول. وعام 2007، أسس شركة أخرى، هي “إنترفليت شيبمانمنت ليميتد” Interfleet Shipmanment Limited. وكانت الشركتان مدعى عليهما في دعوى قضائية رفعها مصرف “إف بي إم إي” ضد مانولي وشركته المالكة للسفن ومقرها بيليز، “سيفورس مارين ليميتد” Seaforce Marine Limited، بعدما تخلفت الأخيرة عن سداد قرض بقيمة أربعة ملايين دولار حصلت عليه في تشرين الأول/ أكتوبر 2011 لشراء السفينة “إم في ساخالين”MV Sakhalin.
وكانت شركة جورجية مملوكة آنذاك لمانولي، وهي “ماريتايم لويد” Maritime Lloyd، بمثابة “الهيئة المصنفة” للسفينة – أي الهيئة المسؤولة عن التصديق على أن السفن صالحة للإبحار. (بيعت الشركة لمالكين مختلفين عام 2019).
وأواخر تموز/ يوليو 2013، أصدرت “ماريتايم لويد” شهادة تقول فيها إن السفينة شيدت بأمان، وفق سجلات التفتيش. وبعد أيام، احتجز مفتشو المرافئ في إشبيلية السفينة، مشيرين إلى وجود 14 عيباً، بما .في ذلك مشكلات في نظام الطاقة المساعدة
وعرض مانولي، حين اتصل به الصحافيون، روايات متغيرة عن ملكية السفينة. وقال في البداية إن شركته في بنما، “برياروود”، باعت السفينة إلى “تيتو للنقل البحري” التابعة لغريشوشكين في أيار/ مايو 2012.
وعندما عُرضت عليه في ما بعد وثائق تبين أن “برياروود” لا تزال تملك السفينة – وأنها كانت مؤجرة فقط لـ”تيتو للنقل البحري” – غيّر مانولي إفادته. واعترف لـ مشروع OCCRP.ORG بأن “برياروود” أجرت بالفعل “روسوس” إلى “تيتو للنقل البحري” عام 2012. لكنه ادعى أنه في وقت لاحق، في آب / أغسطس 2013، قبل الرحلة الأخيرة للسفينة، نُقلت الأسهم كلها في الشركة البنمية إلى غريشوشكين، ما جعل الروسي المالك الفعلي للسفينة.
ووافق مانولي على السماح للصحافيين بالاطلاع على الوثائق التي تظهر نقل الأسهم أو عقد البيع، لكنه رفض في ما بعد محاولات الصحافيين إعداد مكالمة فيديو للقيام بذلك.
وسعى مانولي أيضاً إلى إبعاد مالك السفينة – الذي ادعى أنه غريشوشكين – عن المسؤولية عن الانفجار. “ذهبت الشحنة إلى لبنان عام 2013. ليس الآن. لقد صادروا سفينة الرجل هناك. وأعلن إفلاسه بسبب مصادرة السفينة. وفي ضوء ذلك، ما هي مسؤولية هذا الرجل إذا لم تخزن السلطات اللبنانية هذه الأسمدة في شكل صحيح؟
نفى مانولي وجود أي تضارب في المصالح في إدارته للشركات التي ساعدت في تسجيل “روسوس” وإصدار شهادات لها.
وتبين وثائق التسجيل أيضاً أن الشركة البنمية التي كانت تملك “روسوس”، أي “برياروود”، وضعت عنوانها البريدي في شركة متوقفة الآن في بلغاريا، تسمى “إنترفليت شيبمانجمنت” Interfleet Shipmanagement. وأكد مالك الشركة نيكولاي بيتروف هريستوف للصحافيين أن الشركة كانت عبارة عن شراكة صغيرة مع شركة قبرصية تحمل الاسم نفسه يملكها مانولي.
وادعى هريستوف أنه جمد الشركة البلغارية عام 2012 بعدما أضافه مانولي كطرف في قرض بنكي لـ”إف بي إم إي” لشراء باخرة “ساخالين” من دون علمه.
غير أن مانولي قال إن إدارة “إنترفليت” البلغارية لا علاقة لها بـ”ساخالين” سوى أنها مسؤولة عن “الإدارة الفنية”.
ولم يرد غريشوشكين على طلبات متكررة للتعليق.
“دين لمصرف قذر” | إضغط هنا
تكشف سجلات المحاكم في قبرص والوثائق التي حصل عليها مشروع OCCRP.ORG أيضاً أن مالك السفينة، مانولي، قبل سنتين فقط من الرحلة النهائية لـ”روسوس”، حصل على قرض بقيمة 4 ملايين دولار من “إف بي إم إي”، وهو مؤسسة مالية مسجلة في تنزانيا تعمل أساساً من طريق فرعها في قبرص الذي أُغلِق منذ ذلك الحين بزعم أنه عمل كمصرف رئيسي لجماعات وأفراد مرتبطين بالجريمة المنظمة، والإرهاب، وانتشار الأسلحة.
وأخذ مانولي القرض في تشرين الأول/ أكتوبر 2011 من “إف بي إم إي” لتمويل شراء سفينة أخرى، أي “إم في ساخالين”، كما تظهر السجلات. وبعد شهر واحد فقط، تخلفت شركة مانولي في بيليز، “سيفورس مارين ليميتد”، عن السداد الأول، كما أظهرت سجلات المحاكم. ورد مانولي بوضع “روسوس” كضمان إضافي. وفي آذار/ مارس 2012، حصل “إف بي إم إي” على قرار بتجميد الممتلكات العقارية لمانولي في قبرص، بعدما سمع أنه ينوي بيع “روسوس”.
وتظهر السجلات الداخلية لـ”إف بي إم إي” التي حصل عليها مشروع OCCRP.ORG أن أكثر من 962 ألف دولار من ديون “سيفورس” كانت لا تزال غير مدفوعة حتى 5 تشرين الأول 2014، ما يعني أن الدين كان لا يزال جارياً عندما قامت “روسوس” برحلتها الأخيرة.
ولا يوجد أي دليل يربط ديون مانولي لـ”إف بي إم إي” بالظروف المحيطة بشحنة “روسوس” أواخر عام 2013. ومع ذلك، يظهر وجود القرض أن مانولي كان يتعامل مع مصرف سرعان ما أصبح مشهوراً كدار مقاصة للأموال القذرة.
والمصرف، الذي أسسته عائلة صعب اللبنانية، توقف عملياً عن العمل بعدما فرضت عليه الحكومة الأميركية عقوبات منتصف عام 2014. وكان من بين عملاء “إف بي إم إي”، وفق وزارة الخزانة الأميركية، ممول لـ”حزب الله”، فضلاً عن أحد شركاء الجماعة الشيعية اللبنانية المسلحة وشركته في تنزانيا. وكان أحد عملاء “إف إم بي إي” الآخرون شركة واجهة مزعومة للجهود السورية للحصول على أسلحة للدمار الشامل.
وفي مقابلة، نفى مانولي أن تكون لـ”روسوس” أي صلة بقرض “إف إم بي إي”.
ورداً على أسئلة الصحافيين، أكد “إف إم بي إي” في بيان أنه قدم القرض إلى “سيفورس” التابعة لمانولي لشراء باخرة “إم في ساخالين”.
“لم يدفع السيد مانولي ولا سيفورس مارين ليميتد أي مبالغ لسداد القرض، وشرع المصرف في اتخاذ إجراءات قانونية ضدهما. ومنذ تولى أوصياء المصرف في تموز/ يوليو 2014، لا نعلم الوضع الحالي للقضية.
“ولم تكن باخرة “إم في روسوس” قط ضماناً للقرض ولم يكن لمصرف إف بي إم إي أي مشاركة سواء في تمويلها أو ملكيتها”.
ووفق لـ سامبسون من جامعة كارديف، كانت الشبكة المعقدة من الشركات حول باخرة “روسوس” نموذجاً عن الشبكات المستخدمة للحد من التكاليف وحماية المالكين من المساءلة.
وقالت سامبسون: “إذا سيرتم سفينة تعرفون أنها غير صالحة للإبحار، يكون لديكم حافز لإخفاء هويتكم”.
“وفي ضوء الحقيقة القائلة إن صاحب سفينة روسوس يملك فعلاً الهيئة المصنفة التي أصدرت للسفينة شهادة الجدارة بالإبحار، أود أن أقول إن الشهادة لا تساوي أي شيء، حقاً”.
المحطة الأخيرة
شارك غريشوشكين في الواقع في الكثير من أعمال التشغيل المباشر لباخرة ـ”روسوس”. يقول قبطان السفينة في وقت رحلتها الأخيرة إن غريشوشكين أمره شخصياً بإرساء “روسوس” في بيروت في طريقها إلى موزمبيق.
والسبب المعلن لقرار التوقف الصادر في اللحظة الأخيرة، وفق القبطان، بوريس بروكوشيف، هو تحميل شاحنات كبيرة وصغيره وبضائع أخرى من أجل دفع ثمن المرور عبر قناة السويس. وقال بروكوشيف إن الخطة أُهمِلت بعد وقت قصير بعد تهديد أول شاحنة محملة على السفينة بإلحاق الضرر بسطحها.
وتحظى هذه الرواية بدعم من وثيقة تم الحصول عليها من وزارة الأشغال العامة والنقل في لبنان “بشأن السفينة الراسية على حاجز أمواج مرفأ بيروت” 2014.
وسرعان ما تخلى غريشوشكين عن السفينة. غير أن القبطان بروكوشيف وثلاثة من أفراد الطاقم أمضوا الأشهر الـ10 التالية محاصرين على متن السفينة من السلطات اللبنانية فيما لاحق الدائنون غريشوشكين للحصول على ديونهم.
وتظهر المراسلات التي أجرتها السلطات اللبنانية أن غريشوشكين حاول في مناسبة واحدة على الأقل، في آذار 2014، المساعدة على تأمين عودة الطاقم من لبنان. غير أن القبطان بروكوشيف اشتكى بعد فترة وجيزة من أن شركة غريشوشكين توقفت عن دفع الرواتب وأنها تتجنب الاتصالات كلها مع الطاقم.
وتظهر الوثائق أن السلطات اللبنانية ودائني السفينة لم يكن لديهم على ما يبدو أي فكرة عن أن مانولي هو مالك السفينة. ولم يرد أي ذكر لمانولي ولا شركاته في أي من وثائق المحاكم اللبنانية التي حصل عليها الصحافيون. كذلك لا يوجد أي مؤشر على أن السلطات اللبنانية حاولت الاتصال به.
“وفي ضوء الحقيقة القائلة إن صاحب سفينة روسوس يملك فعلاً الهيئة المصنفة التي أصدرت للسفينة شهادة الجدارة بالإبحار، أود أن أقول إن الشهادة لا تساوي أي شيء، حقاً”.
الروابط مع موزمبيق
ويبدو أيضاً أن المصنع الموزمبيقي الذي طلب نيترات الأمونيوم لم يحاول استرجاع الشحنة بعد مصادرة الباخرة “روسوس” في مرفأ بيروت.
وتبين الوثائق التي حصل عليها صحافيو مشروع OCCRP.ORGأن شركة “فابريكا دي إكسبلوسفوس دي موزامبيق “Fabrica de Explosivos de Mocambique، جزء من شبكة من الشركات لها صلات رفيعة المستوى بالنخبة الحاكمة الموزمبيقية وأجري تحقيق معها لتوريد متفجرات إلى إرهابيين والانخراط في الاتجار غير المشروع بالأسلحة.
والجهة المشترية، “فابريكا دي إكسبلوسفوس دي موزامبيق”، مملوكة بنسبة 95 في المئة لعائلة رجل الأعمال البرتغالي الراحل أنطونيو مورا فييرا عبر شركة تدعى “مورا سيلفا إي فيلهوس” Moura Silva e Filhos.
وكان تحقيق أجري مع الشركة في وقت سابق بزعم كونها مصدر المتفجرات التي استخدمت في تفجيرات القطارات في مدريد عام 2004، التي أسفرت عن مقتل حوالى 200 شخص. والعام التالي، وبعد تلقي معلومات سرية من السلطات الإسبانية، داهمت الشرطة البرتغالية أربعة مستودعات تابعة للشركة، وصادرت 785 كيلوغراماً من المتفجرات، يُقال إنها لم ترد في نظام الجرد التابع للشركة.
وترتبط الشركة بالعائلة الأولى والجيش في موزمبيق. ومنذ عام 2012، كان الرئيس الحالي لـ”مورا سيلفا إي فيلهوس”، نونو فييرا، الشريك التجاري لجاسينتو نيوسي، نجل الرئيس الموزمبيقي فيليب نيوسي، ويملك الرجلان شركة لتنظيم المناسبات والتسويق.
والعام نفسه أسس فييرا مع شركة الاستثمار الحكومية الموزمبيقية “مونتي بينغا” Monte Binga، وجهاز الاستخبارات في البلاد “موديمول” Mudemol، وهي شركة لتصنيع الذخيرة والمتفجرات زودت الجيش. وكان فيليب نيوسي وزيراً للدفاع في ذلك الوقت. ومنذ ذلك الحين، تتهم الأمم المتحدة “مونتي بينغا” بخرق عقوبات دولية من خلال إشراك نفسها في صفقات عسكرية مع كوريا الشمالية.
ويتقاسم مصنع المتفجرات الذي كان من المفترض أن يستقبل حمولة “روسوس” عنواناً مع “إكسبلو أفريكا” ExploAfrica، وهي شركة تشارك في امتلاكها عائلة فييرا. وتظهر وثائق سرية حصل عليها الصحافيون أن سلطات جنوب أفريقيا والبرتغال حققت مع “إكسبلو أفريكا” وفروعها، بسبب حصولها على أسلحة من موردين تشيكيين انتهى بها الأمر في ما بعد بين أيدي صيادي وحيدات القرن والأفيال في حديقة كروغر الوطنية في جنوب إفريقيا، الواقعة على الحدود مع موزمبيق. بيد أن التحقيق توقف بعدما سحبت سلطات جنوب أفريقيا دعمها له.
وترتبط شركة واجهة في جنوب أفريقيا قيل إنها استُخدِمت لشراء الأسلحة واسمها “إنفيستكون” (Investcon) ارتباطاً وثيقاً ببشير سليمان الذي يتخذ من مابوتو مقراً وتعتبره الحكومة الأميركية “زعيم مخدرات” مزعوماً.
وفي رسالة مشتركة بالبريد الإلكتروني إلى مشروع OCCRP.ORG قال أنطونيو كونها فاز، الناطق باسم المصنع، إن موظفين من “مورا سيلفا إي فيلهوس” استجوبتهم الشرطة لكنهم برئوا من أي مخالفات.
وفي ما يتعلق بالتحقيق المشترك في الاتجار بالأسلحة بين جنوب أفريقيا والبرتغال، قال: “كل الصفقات التي عقدتها إكسبلو أفريكا كانت قانونية تماماً و… وإذا كان هناك أي استخدام للأسلحة لأغراض لا تمتثل للقانون، فإن إكسبلو أفريكا ليست مسؤولة عنها”.
ودافع “كونها فاز” عن علاقاتها التجارية مع نجل الرئيس الموزمبيقي باعتبارها شفافة تماماً، ونفت أي علاقة لها بزعيم المخدرات المزعوم محمد بشير سليمان.
وفي حين أن الشركة الموزمبيقية لم تبذل أي جهد للمطالبة بالمواد المتفجرة، فعلت ذلك شركة أخرى هي الشركة التجارية التي عملت وسيطاً في الصفقة.
وتبين سجلات الشركة أن الوسيط، وهو “سفارو ليميتد” التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها، طلب نيترات الأمونيوم في وقت لم تبلغ الشركة فيه عن أي نشاط تجاري رسمي. وتظل خاملة منذ ذلك الحين.
وترتبط “سفارو ليميتد” بشركة أخرى تدعى “مجموعة سفارو أتلانتيس” (Savaro-Atlantis Group) وهي شركة في مدينة دنيبرو الأوكرانية، وذلك عبر سلسلة من المساهمين والمديرين في قبرص والولايات المتحدة. ومدير الشركة الأوكرانية هو فلاديمير فيربونول الزعيم السابق لفرع محلي لحزب سفوبودا القومي اليميني المتطرف.
وتظهر وثائق القضية أن “سفارو” كلفت في شباط/ فبراير 2015 محامياً لبنانياً لتقديم التماس إلى محكمة محلية لفحص النوعية والكمية الخاصتين بنيترات الأمونيوم التي كانت محتجزة في عنبر المرفأ. وخلص تقرير الخبراء إلى أن معظم الأكياس التي يبلغ وزن كل منها طناً واحداً وتحتوي على نيترات الأمونيوم – نحو ألف و900 طن من إجمالي نحو الفين و 750– ممزقة وانسكبت محتوياتها.
وتبين الوثائق أن “سفارو” رفضت طلب من خبيرة المتفجرات إجراء اختبارات كيماوية لنيترات الأمونيوم، ولا يوجد أي سجل لمحاولة الشركة استعادة المادة بعد تلك المرحلة.
ورداً على أسئلة مكتوبة، أنكر فيربونول أي صلة له بالشحنة. وقال إن شركته الحالية تعمل فقط في “تطوير منتجات البرمجيات والتطبيقات للإنترنت”. ومع ذلك، قال إن الشركة تساعد أيضاً أحياناً الشركات الأوكرانية على تسويق السلع بما في ذلك “المعدات المكتبية، ومكونات الكمبيوترات، والرافعات، ومبيدات القوارض، والأسمدة الزراعية”..
وعند الاتصال بفاليري كوستوهلود، شريك فيربونول التجاري، نفى أن يكون للشركة أي صلة بتجارة الأسمدة، وأنها تشارك بدلاً من ذلك في البرمجيات.
ومع ذلك، تظهر سجلات الأعمال الأوكرانية أن الشركة مدرجة أيضاً على أنها تعمل في تجارة الجملة والتجارة الوسيطة. وتبين نسخة مؤرشفة من الموقع الإلكتروني المتوقف الآن للمجموعة أن الشركة ادعت في السابق أنها تبيع معدات معدنية وإسمنتية.
مشتر محتمل جديد
بدل “سفارو” بدأ السعي إلى مشتر محتمل جديد للمخزون الخطر.
طلبت إدارة الجمارك اللبنانية من الجيش أولاً أخذها، لكنه قال انه ليس بحاجة إاليها، واقترح بدلاً من ذلك عرضها على شركة محلية، هي “الشركة اللبنانية للمتفجرات” Lebanese Explosives Co لتبيان إمكانية الأستفادة من المادة المذكورة “وفي حال رغبتها بذلك”. أو إعادة تصديرها الى بلد المنشأ على نفقة مستورديها، التي يملكها رجل الأعمال مجيد شماس.
وعلى رغم كونه طرفاً فاعلاً رئيسياً في الصناعة، لا تزال الشركة اللبنانية للمتفجرات — مجيد الشماس خياراً محيراً من خيارات الجيش. ولا توجد أي قيود تظهر أن شركة مجيد شماس قبلت عرض الجيش للأستفادة من نيترات الأمونيوم الموجودة داخل العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت.
ووفق الوثائق، كانت نصت الخطة الاحتياطية النهائية للسلطات اللبنانية المقترحة من الجيش على إعادة تصدير نيترات الأمونيوم إلى مصنعها الجورجي، على نفقة مستورديها. وهذا لم يحصل قط.
وبحلول شباط 2018، يبدو أن السلطات اللبنانية تخلت عن جهودها للتخلص من نيترات الأمونيوم.
لكن هذا لا يعني أن المخزون ظل مخزنا موصدا بأمان.
في تقرير مسرب صادر عن درل جهاز أمن الدولة في 20 تموز 2020 ، ارسلت نسخة منه إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، قبل أسبوعين فقط من الانفجار، حذرت أجهزة الأمن اللبنانية من عيوب أمنية خطيرة في المستودع جعلت نيترات الأمونيوم عرضة للسرقة.
وثائق ملكية تتعلق بالسفينة وثائق ملكية تتعلق بالسفينة
وذكر التقرير أن أحد أبواب العنبر غير المحروس مخلوع بينما كان هناك أيضاً ثقب في الجدار الجنوبي يمكن أي شخص من الدخول والخروج.
وأضاف التقرير محذراً: “إذا تعرضت هذه المواد لأي عملية سرقة يستطيع السارق أن يستعملها لصناعة المتفجرات”.
وذكرت ثلاثة مصادر استخبارية أوروبية تحقق في الانفجار وتحدثت إلى الصحافيين شرط عدم ذكر أسمائها أن الكمية التي كانت مازالت مخزنة في العنبر رقم 12 بحلول آب/ أغسطس 2020 ربما كانت أقل من الـ2750 طناً الأولى نظراً إلى أن حجم الانفجار يعادل أقل من 700 إلى ألف طن من نيترات الأمونيوم. ومع ذلك، كان الانفجار كبيراً بما يكفي لتدمير أجزاء كبيرة من شرق بيروت وليكون أحد أقوى التفجيرات غير النووية المسجلة على الإطلاق.
اختفى تحت الأهراء… دفنوه بلا جثّته!
المزيد عن قصة الباخرة
اختفى تحت الأهراء… دفنوه بلا جثّته! اضغط هنا
عند نحو الساعة 5:15 من بعد ظهر يوم 4 آب/ أغسطس، تلقت ابتسام موسى اتصالاً من زوجها غسان حصروتي ينبهها إلى أنه سيتأخر ذلك المساء في عمله في الأهراء الكبيرة الوحيدة في لبنان الواقعة في مرفأ بيروت. وكانت مناوبته انتهت قبل ساعتين، لكنه قرر البقاء للمساعدة في تفريغ شاحنة على وشك الرسو. وكثيراً ما عمل حصروتي في مناوبات إضافية في الأهراء حيث عمل لنحو أربعة عقود من الزمن، فساعد على تأمين الغذاء للبنان خلال سنوات الحرب الأهلية والأزمة الاقتصادية.
وتذكرت موسى قول حصروتي: “قال لي إن الشبان الآخرين العاملين في الأهراء كانوا يريدون العودة إلى المنزل… فليساعدني الله هذه الليلة لأنني لا أستطيع المغادرة”. وقلقت لأن زوجها البالغ من العمر 59 سنة لم يأخذ معه مخدة وغطاء، كما يفعل عادة خلال المناوبات الليلية، ليتمكن من أخذ قيلولة في مكتبه حين تسنح له الفرصة بين إدارة العاملين وتسيير المعاملات. لكنها طمأنت نفسها إذ فكرت أنه سيتمكن من النوم جيداً فور عودته إلى المنزل.
وبعد أقل من ساعة من اتصال حصروتي، دوى انفجار ضخم وقع في المرفأ في أنحاء بيروت. وكان الانفجار قوياً إلى درجة أنه حطم النوافذ في منزل عائلته الواقع على بعد كيلومترين، ناشراً قطع الزجاج على الأرض والأثاث.
قُتِل ما لا يقل عن 182 شخصاً حين اشتعل أكثر من ألفين و700 طن من نيترات الأمونيوم شديدة الحساسية والمخزنة في أحد عنابر المرفأ منذ عام 2014. وجُرِح حوالى ستة آلاف شخص في الانفجار وتشرد حوالى 300 ألف شخص في المناطق التي عمّ فيها الخراب. وفُقِد 30 شخصاً على الأقل.
ولم يُعثَر بعد على جثة حصروتي، لكن عائلته تعتقد بأنه دُفِن تحت ركام أهراء الحبوب حيث كان يعمل. وكان ابنه الثاني إيلي يذهب الى المرفأ كل يوم بعد الانفجار على أمل أن يُسمَح له بالبحث عن والده الى أن أعلن الجيش تخليه عن البحث عن ناجين في 9 آب.
وقال إيلي (35 سنة) إن والده كان يجد في الأهراء التي تبلغ سعتها 12 ألف طن وصمدت في المرفأ خلال الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي 1975 و1990، ملجأ كلما تبادلت الفصائل المتحاربة القنابل والصواريخ حول العاصمة. وأُعِيد ترميم المنشآت بعد انتهاء القتال. وقال لـ”درج”: “أثناء إطلاق القنابل والصواريخ التي استهدفت في كثير من الأحيان المرفأ خلال الحرب، كانوا يركضون بسرعة نحو عنابر التخزين في الطبقات والممرات الأرضية. تخيلوا مقدار صلابة المبنى”.
وأضاف: “كان جميع زملاء [حصروتي] فخورين جداً بأنهم لو لم يذهبوا إلى العمل ويفرغوا القمح من السفن خلال الحرب لما تمكن لبنان من استلام هذه الشحنات أو توزيعها في أنحاء البلاد كلها”. وقالت موسى إن زوجها كان يقيم في المرفأ في بعض الأحيان لمدة أربعة أو خمسة أيام في المرة الواحدة. وأضافت: “ظللتُ أقولُ له: ستذهب إلى المرفأ وتتركني هنا مع الأطفال، فماذا لو حدث شيء؟ وكان يقول لي: أقلقُ عليكم في المنزل، ولا أقلقُ على نفسي في المرفأ”.
داخل منزل العائلة المتواضع، في مبنى يعود إلى ستينات القرن العشرين في ضاحية سن الفيل التي تقطنها الطبقة المتوسطة، تظهر صور حصروتي وهو يبتسم ويقبل زوجته ويعانق أطفاله. ومنذ فقدانه كثيراً ما تركت عائلته الباب مفتوحاً خلال النهار للسماح بدخول المشيعين، الذين يجلسون على كراسٍ بلاستيكية وُضِعت على عجل في غرفة الجلوس الضيقة. وتقول العائلة إنها تشعر بالخذلان بسبب استجابة الدولة البطيئة للكارثة التي من المرجح أن تكون أودت بحياة الزوج والوالد. ويوم الثلاثاء (19 آب)، نشروا إعلان وفاة يقول إن من المفترض أن حصروتي مات، وبعد يومين أقاموا جنازة من دون جثته.
قالت موسى: “”لقد كشف هذا الانفجار لجميع اللبنانيين أن ليس لدينا شيء في لبنان. لا توجد دولة. دولتنا فاسدة ولا أجد يهتم لأمرنا. وإذا لم تهتم بنا دولتنا فمن سيفعل؟” ويوافقها آخرون الرأي. وقال النائب إلياس حنكش من “حزب الكتائب اللبنانية” إن الانفجار جاء تتويجاً لثلاثة عقود من الزمن من سوء الحكم من قبل “مافيا” سياسية . وأضاف: “لقد شكل الانفجار الذروة. ولا فشل أكبر من هذا الفشل”.
كذلك تساءلت المحامية اللبنانية ديالا شحادة عما إذا كان التحقيق الحالي في سبب الانفجار مستقلاً حقاً، معتبرة أن المسألة برمتها “بدأت على أساس خاطئ وبالتالي يجب إلغاؤها”.
ويتخوف الكاتب اللبناني حازم صاغية من ضعف ترهل المنظومة القضائية في لبنان مع ضعف المحاسبة ، “يمثل الإفلات من العقاب نتيجة طبيعية للتضامن بين التركيب الطائفي ونظام التنفيعات والمحسوبيات، فقد اعتمدت تقليدياً الصيغة الأسوأ من المراعاة المتبادلة بين الطوائف، بحيث أعطيت الأولوية لمصالح زعماء تلك الطوائف … إحدى نتائج تلك العملية إضاف الثقة بالقضاء اللبناني، لهذا لا يحمل على محمل الجد، في ما خصّ الجريمة الكارثية الأخيرة في المرفأ، إلا تحقيق دولية متحرر من التأثر بتلك العوامل اللبنانية”.
تاتيانا، ابنة حصروتي الصغرى، تدرس القانون وتصر على أنها ستستخدم شهادتها الجامعية لمحاسبة المسؤولين عن مقتل والدها وغيره من ضحايا إهمال الدولة وتنصّلها من مسؤوليتها.
وقالت إنها كانت تقول لوالدها دائماً إنها لا تشعر بالأمان وتريد من العائلة مغادرة البلاد، لكنه “كان يحضني دائماً على التفاؤل والبقاء في لبنان”. وشاركت هي وبقية أفراد العائلة في تظاهرات مناهضة للحكومة اندلعت في بيروت في 17 تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي للمطالبة بالمساءلة ووضع حد للفساد السياسي. واجتاحت احتجاجات جديدة العاصمة بعد انفجار المرفأ، ما أجبر رئيس الوزراء حسان دياب وحكومته على الاستقالة. “كيف يمكنهم النوم ليلاً بعد كل ما فعلوه؟” قالت تاتيانا. “لقد قتلونا خلال الحرب وقتلونا الآن. فكيف لا تزال لديهم الشجاعة للوقوف، ومخاطبتنا، والادعاء بأنهم يحبوننا، وأنهم يعملون لأجلنا؟”.