fbpx

بيروت على رصيف المرفأ… مدينة تستغيث

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أخفت بيروت الفاعل، لتبين إمكان تعدد الجناة المحتملين عن ارتكاب الأذية. برهنت أن كلاً منهم قد يكون الجاني، وتكشفت لدى كل منهم ما يكفي من مزايا القدرة على الاعتداء، الإرهاب، والتسلط.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فرضية تعدد الحقائق، الروايات، التفسيرات، لحادثة انفجار مرفأ بيروت التي يعتمدها هذا النص، لا تعفي أياً من المتهمين من المسؤولية، وإنما هي محاولة لقراءة تعدد الحكايات والفرضيات باعتبارها كلها إشكاليات سياسية، اجتماعية، ثقافية تعيشها المدينة في اللحظة الراهنة للحدث أو للجريمة أو للكارثة، فالحقيقة ليست هي الغاية، بل بيروت، المدينة.

المغزى من تعدد الجناة

أخفت بيروت الفاعل، لتبين إمكان تعدد الجناة المحتملين عن ارتكاب الأذية. برهنت أن كلاً منهم قد يكون الجاني، وتكشفت لدى كل منهم ما يكفي من مزايا القدرة على الاعتداء، الإرهاب، والتسلط. 

العدو نظام عسكري ديني يقوده اليمين المتطرف بلا تبديل، يعلن عن نفسه وضوحاً وطناً عنصرياً لديانة واحدة، والمواطنة هي حمل السلاح. استبدلت فيه مرحلة المراهقة بالخدمة العسكرية، لا ابتكارات فيه إلا ابتكار المزيد والأكثر فتكاً من تكنولوجيا الأسلحة، بينما يهمش أكاديمييه وباحثيه لمصلحة البسطار العسكري ورداء الكهنوت، لا حاجة للمفكرين الباحثين، فالحقيقة مطلقة موجودة في كتاب وحيد، كتاب الدين القديم.

في كتابها “أسس الأنظمة الشمولية”، تبين الباحثة حنة آرنت أن المجتمعات أو الدول التي يتربص بها عدو على حدودها منذورة لمصير الحكم الديكتاتوري بداخلها. عبر دراستها الأنظمة السياسية عبر التاريخ، توصلت لنتيجة حتمية النظام الديكتاتوري الشمولي في حال تربص العدو على الحدود. كلما برز خطر العدو بشكل أوضح، اشتد القمع من النظام المقاوم الحاكم. فالحكام والحماة للمدينة يشبهون أكثر فأكثر طباع الأعداء، غرقى في الفكر الشمولي، التعصب الديني، الإيمان بكثافة السلاح، وإلغاء المستقبل لمصلحة سلفية الماضي الديني. الحاكم والمقاوم والعدو يفرض هويته الدينية، حتى الأفق المسدود حجب الهواء عن المرفأ، وارتفعت حرارة العنبر 12، كأنه لم يعد قادراً على احتمال تشابه المزايا المرعب بين المعتدي المحتمل، المتسلط الداخلي الحالي، ومتسلط ثالث قمعها لسنوات ثم عاد أدراجه إلى مدنه شرقاً، ليس إلا لأن أدواته القمعية لم تعد تكفي لحدود جغرافيته، ولأن فكره الشمولي أصبح مخزياً خارج حدود سلطانه القمعي من قبضة الحديد. بيروت اختنقت من الهروب من مصائرهم، رؤاها الكابوسية عن حتمية الاختيار بينهم تلبس لبوس القهر والقمع الوحشي، أي احتمال لحاكم منهم أشعل المرفأ من احتمال متقبلٍ من الدم والحديد. لكل منهم كامل مزايا افتعال الشر القادر على إشعال أحياء المدينة بإجرام محترف.

ويعتبر الباحث (هاني طلفاح)، أن الإهمال أيضاً، يصل إلى مرحلة من الأذية، ربما أكثر فتكاً بأبناء المدينة من سلاح الأعداء. لا فرق بين جريمة الشر، ونتيجة الإهمال.

المغزى من حجم الضرر: المدينة كاملة في مهب الخطر

في الحروب يقصف اليوم بناء، موقع، ساحة، أو جزء من حي على أقل تقدير. لكن انفجار بيروت أصاب في دقائق معدودة ثلث مساحة المدينة. كذلك، في الحرب يتم إسعاف الحي المنكوب في صباح اليوم التالي، أما في انفجار بيروت فامتد على مساحات استحال الدخول إليها لإنقاذ المتضررين، فشوارع كامل المدينة انشلت بالسيارات، بعربات لنقل الردم، بسيارات الإسعاف، بالأهالي الباحثين عن مفقودين، أياماً كاملة أمضاها قاطنو المناطق الأخرى في محاولة الدخول إلى الأحياء المنكوبة. المستشفات الكبيرة المتضررة من التفجير حولت الشوارع إلى عراء لأسرة المرضى والمصابين، في مواقف السيارات أجريت عمليات ولادة، إنقاذ، تضميد جراح، خط الدماء على إسفلت الشوارع، يوحي بأنها جراح باطن أرض المدينة، خرجت من مسامها، شرايين المدينة بارزة من شدة الجلل. وصلت رسالة بيروت عبر خطوطها، انتحار المدينة احتمالها الأخير في حال عدم التغيير السياسي، أو تجاهل الظواهر الاجتماعية المنذرة، أو مواصلة التهميش الثقافي.

مصدر الضرر: فسحة البحر على الانفتاح

يسود اعتقاد في الدراسات التي تربط الجغرافي بالحضاري، بأن البحر يولد انفتاحاً وتبادلاً في الانفتاح، بالتعارض مع الجبل الذي يوحي بالاستمرارية، أو الصحراء التي تفترض شروط عيشها التحفظ والتقشف. تاريخياً، تشكلت المدينة حول المرفأ، فالبحر قد يحمل التجارة والثقافة، أي الانفتاح للتأثير والتأثر، ربما على الغزاة أو على الأصدقاء من المستكشفين الزوار حاملي المعرفة أو التنوع.

في الحروب يقصف اليوم بناء، موقع، ساحة، أو جزء من حي على أقل تقدير. لكن انفجار بيروت أصاب في دقائق معدودة ثلث مساحة المدينة.

قاطنو الأحياء الأكثر تضرراً أو زوارها ومحبوها ليسوا بالضرورة هواة الانفتاح والتنوع والتسامح، لكنهم على أقل تقدير أولئك الذين لجأوا إلى نفحة البحر، كمساحة للتأمل، في وجه أي فكر شمولي سياسي، ديني، اجتماعي، يخنق الداخل. العيش قرب البحر يفسح إمكان التنفس، تأمل موج البحر المتغير باستمرار أمام اشتداد القمع الفكري، جمود العادات والتقاليد، والتمييز في القوانين والحقوق على أساس الجنس، الدين، اللجوء، الحاجة الاقتصادية، ومعيار التزلف أو المواجهة مع الزعيم.

وهم هامش حريات التعبير

مهما كانت الأصوات النقدية اللبنانية حادة وعميقة ومعبّرة عن حال المجتمع والثقافة ووضع لبنان السياسي والإقتصادي، إلا أن الفكر النقدي اللبناني يضمر في العمق، شعوراً بالتميز أو بالتفوق أو على أقل تقدير بالتمايز عن المجتمع العربي من حوله، من سوريا وصولاً إلى الخليج، وربما مصر وإيران. لكن هذا الاعتقاد الراسخ، والذي لم يعد يخضع للمساءلة، بدأت تتراجع البراهين على صحته في الحال السياسي، والثقافي. فمثلاً، بدأت تتعدد المؤشرات التي تدلل على معاناة الفن اللبناني من ممارسات رقابية تطل برأسها بحزم أكبر. فمنذ عام 2017، تعرضت فرقة الموسيقية (مشروع ليلى) للمنع الأول من قبل وزير الداخلية الأردني، وفي العام نفسه من وزير الداخلية المصري، لكن المفاجأة حين وصل الأمر إلى لبنان، موطن الفرقة الأصلي عام 2019، حيث منعت الفرقة من إقامة حفلتها في مهرجان بيبلوس. هُدد أعضاء الفرقة من رجال دين، وجماعات لأحزاب فاعلة في السلطة. وبدلاً من قيام أجهزة الأمن اللبناني بتوقيف المعتدين والمهددين، ألغيت حفلة الفرقة، وحرم أعضاؤها الإبداع في وطنهم.

تعددت الأسباب التي قدمتها الجهات المتهجمة والقامعة للفرقة، وتم التركيز على أغنيتهم بعنوان (للوطن، من ألبوم رقصوك)، فوصفك بكونها إهانات للرموز الدينية المسيحية، التجديف الإنجيلي. ثم أضيفت لمضمون أغانيهم، ميول أفراد الفرقة الجنسي الشخصي، فأسست صفحات إعلامية بعنوان “لن يمروا”، اعتبرت أن الميول الجنسية المثلية للفرقة تحتم منعهم من الدخول إلى مدينة بيبلوس والغناء في مدينة “الحرف والأبجدية” على حد تعبيرهم. وكأن مدينة الحرف والأبجدية تفترض القمع والتقييد، بدلاً من أن يكون مسار الحرف والأبجدية في التاريخ يقود إلى الانفتاح، المعرفة، التعددية. هذه المقاربة تظهر كممارسة رقابية ممنهجة في خطاب النظام السياسي اللبناني، من باب الحفاظ على العيش المشترك يمنع النقد، ومن باب احترام السلطة السياسية يلاحق النشطاء على عبارات في “فايسبوك”، بينما المسؤولون المروضون في العنبر رقم 12، أدى صمتهم إلى كارثة احتاجت الأبجدية إلى ابتكار العبارات في توصيف لا أخلاقيتها.

وهم التميز والاختلاف عن الثقافة العربية: (بي الكل)

لا تكاد تخلو رؤية محلل سياسي أو فاعل حزبي لبناني في كل حوار تلفزيوني من ذكر عبارة تميز لبنان عن محيطه العربي أو غيره، فعدا عن كون الفكرة راسخة في الخطاب السياسي وحتى الثقافي المتداول، فهي مفيدة لحوار الأطراف السياسية المتنازعة الآراء والمتعارضة الرؤى للوضع اللبناني، فيتقرب بهذه العبارة الأفرقاء الداخليين من بعضهم بعضاً، لتخفيف حدة احتدام النزاعات الداخلية تحت غطاء التميز اللبناني عن المحيط العربي أو غيره. إلا أن ظهور لقب “بي الكل” في الخطاب السياسي اللبناني عرّى احتمال التميز والاختلاف عن الأنظمة المحيطة. فـ”بي الكل” تكرس نظاماً عائلياً أبوياً، يغيب عنه حتى المنطق السياسي الموجود على الأقل في لقب “الأب القائد”، أو على الأقل الهداية أو الوعي الديني في لقب “المرشد الأعلى”، أو على الأقل فساد سياسي لرئيس الحزب والوزارة كما هو الحال في إسرائيل مع بنيامين نتانياهو الذي يحكم منذ 1996، لكن بألقاب أقرب إلى الإدراة والسياسة من ألقاب القرابات العائلية، فرئيس وزراء إسرائيل فاسد، متشدد عنصري ليهودية الدولة، معتدٍ لضم الأراضي الفلسطينية، ألخ…

أما “بي الكل” فهو وصف يخلو من أي محاسن أو حتى مساوئ ألقاب الإدارات السياسية، الاقتصادية، الحزبية، المسؤولية الإدارية، لمصلحة لقب أبوي ذكوري يجعل من المجتمع أقل من كونه حزباً، بل عائلة واحدة. ومع استلام الرئيس اللبناني الحالي (ميشال عون) الرئاسة منذ 4 أعوام، توثق مراكز مراقبة الحريات وجمعيات المجتمع المدني تزايد متسارعاً، مكثفاً، لاهباً، متفجراً كما نيترات الأمونيوم، لعدد الصحافيين والمدونين المستدعين إلى القضاء بسبب عبارات، آراء، تدوينات فايسبوكية أحياناً، يراها المحيطون ببي الكل مسيئة لهيبة الدولة.

أما “بي الكل” فهو وصف يخلو من أي محاسن أو حتى مساوئ ألقاب الإدارات السياسية، الاقتصادية، الحزبية، المسؤولية الإدارية، لمصلحة لقب أبوي ذكوري يجعل من المجتمع أقل من كونه حزباً، بل عائلة واحدة.

 تقارب نظرية الرئيس اللبناني (ميشال عون) لمفهوم حرية الإعلام والصحافة، نظرية الرئيس الأميركي (دونالد ترامب)، إذتيتوجب حماية حرية التعبير بالرقابة على حرية التعبير. أي أن هناك خطراً على حرية التعبير من الزيادة في حرية التعبير، ولذلك فإن ملاحقة زائدي الجرعة المحددة، والتي يحدد الرئيس معيارها حسب تقييمه في كل مرة، بما يتجاوز حتماً أهمية 2750 طناً من المواد المتفجرة في المرفأ. وهذا المعيار ثبت بدقته مؤخراً، وذلك أثر الاحتجاجات الشعبية الأخيرة التي قامت في بيروت غضباً على كارثة تفجير ثلث سكان المدينة. فقد جرى يومها توقيف ناشط ثائر بسبب طريقة تعامله مع صورة الرئيس ميشيل عون، التي تزيد بوزنها عن كمية نترات الأمونيوم الراقدة فوق قبور اللبنانيين منذ عام 2014. إن الاعتقاد اللبناني بالتميز والتحرر عن المحيط السياسي والثقافي العربي، بدأ يتحول أسطورة معيقة للنقد الذاتي. فبعد رؤية التجارب الجديدة في تونس، السودان، الجزائر، وبغداد، إشتعل المرفأ على الكارثة تفعل آليات النقد الذاتي.

وهم التنوع الديني: اختفاء العلمانية وحتمية الهوية الدينية

 إن قناعة البعض بأن ميزة المجتمع اللبناني، وضمانة تعدديته، تقومان على التنوع الديني “للشعوب اللبنانية” كما يقول البعض، ما يجعله يقاوم الأحادية والشمولية، ويفرض حتمية التعددية، هي فرضية قاصرة وخطيرة. لأن التنوع الفكري الحقيقي، الاجتماعي والثقافي لا يبنى على عامل الدين وحسب. لأن الديانات مهما تعددت، فكلها تمتلك بنى فكرية متماثلة، وتفرض رؤى وجودية- لاهوتية، ومعايير أخلاقية-تشريعية متطابقة. لا بل إن الممارسة التاريخية بينت أن المؤسسات الدينية تتعاضد في ما بينها، في وجه الآراء والتيارات الفكرية المشكلة من منطلقات فكرية أخرى كما التيارات الفلسفية مثلاً، والنظريات العلمية، والقوانين الوضعية التشريعية البرلمانية. إن تعدد الديانات في المجتمع الواحد لا يعني تنوعه الفكري والثقافي، بل على العكس هو دلالة على افتقاره لأشكال التفكير الأخرى، المدنية، السياسية، الفلسفية، العلمانية، وحتى الحزبية التي تستند إلى سن القوانين الوضعية الإنسانية عبر التجربة المكتسبة في البرلمان وفي فلسفة الأخلاق الحقوقية المستنتجة من التجريب.

فنلحظ منذ تسعينات القرن الماضي، تراجع تيارات اليسار السياسي اللبناني بحدة، على حساب تكريس الأحزاب الطائفية الدينية. منها ما تحول هو بنفسه من نقيض إلى آخر، من الفكر الحزبي التقدمي إلى التحول للنظريات الدينية، ودعم الأحزاب الدينية، كما هو الحال مع ميل الحزب القومي السوري الإجتماعي إلى حليف لحزب الله، ومدافع عن المواقف السياسية للنظام الفقهي الإيراني. دون أن نذكر دعم أحزاب اليسار للأنظمة العسكرية القمعية دفاعاً عن قيم الأنظمة الإشتراكية، كما هو الحال في سوريا، مصر، وغيرهما. أما الحزب اللبناني الوحيد الذي يحمل اسمه مفهوم الاشتراكية، أي الحزب التقدمي الاشتراكي، فإن زعيمه، قائده، وزعيمه الروحي هو (البيك وليد جنبلاط). البيك تعبير عن لقب إقطاعي يتعارض والاشتراكية تماماً، كما أن اقتصار منتسبيه على الطائفة الدرزية بغالبيتهم المطلقة، يدعو إلى التعجب من كيفية قيام حزب اشتراكي على عقيدة واحدة من أكثر عقائد ديانات المنطقة غنوصية، روحانية، وميتافيزيقية.

لا شك في أن الهويات الدينية هي هويات ثقافية اجتماعية، تجب حماية حق معتنقيها بالممارسة والتأثير، وإن محاولات طمس الهويات الدينية لمصلحة الدولة القومية وصلت بمجتمعاتها إلى القمع الثقافي، كما في التجربة السوفياتية، أو التجربة التركية العسكرية، إلا أن اقتصار الأحزاب اللبنانية على الهويات الطائفية الدينية، وغياب المنابر الفكرية العلمانية أو المدنية، يقلل من إمكانات تعرف الأجيال المتتالية على احتمالات تفكير أخرى في الوجود، السياسة، والمجتمع. وبالتالي، وإلى جانب التيارات الدينية، لا بد من خطط ومشاريع، وقوانين تضمن أيضاً وجود مساحات لعبور تيارات فكرية علمانية، مدنية إلى الفكر المجتمعي، وخصوصاً الأجيال الشابة الحالية أو الآتية المهددة بانغلاق مناهلها الفكرية على قفص العنبر الحديدي الديني، من دون نوافد على احتمالات التعرف والشك.

لكن العكس ما يحدث، فالميل الديني يشتد بوضوح في خطاب القنوات التلفزيونية اللبنانية الخاصة والحزبية، فتنتشر البرامج الدينية وصولاً إلى “سلم ع السما”، وتنقل الطقوس والاحتفالات الدينية باعتبارها جزءاً من التميز الثقافي بين القناة والأخرى، من دون الاهتمام بتمرير برامج أو فعاليات تسعى إلى نشر الفكر العلماني. هذا مثال على التحول الذي يستهدف بيروت من ستينات القرن الماضي وحتى الآن. لقد غابت نوعية تفكير واحتمالات فهم العالم بطريقة علمية، أو الحياة الثقافية المدنية رويداً رويداً، وترافق ذلك مع فشل المؤسسات التعليمية والجامعية، التي يفتخر بتميزها أيضاً، في إنتاج أجيال تمارس الفكر المدني أو تفرز قيادات وتيارات غير دينية، عارفة بعلوم الكيمياء، ومعدلات الاحتراق والتفجير، وعدم التوكل على القوى الإلهية والعلوية لحماية المدينة من نيترات الأمونيوم.

هنا لا بد من العودة إلى التذكير بكلمات أغنية “للوطن”، لمشروع ليلى الممنوعة، التي يبدأ مطلعها عن العلاقة مع العلم والوعي:

“غيرنا روض أعاصير ليتحكم بالمصير

ونحن من نسيم منطير ومنرتد على التدمير

وبس تتجرأ بسؤال عن تدهور الأحوال

بسكتوك بشعارات عن كل المؤامرات”.

هذه العبارات منعت، وهي التي تبرهن أن التساؤلات المنطقية النقدية يحكم عليها بالتآمر، ويضيق على الفكر العلمي ليتراجع، يندثر، يختفي، حتى تستيقظ المدينة على تساؤل كارثي: ما هي نيترات الأمونيوم؟ فهل يكون التفجير فاتحة لسلسلة من الأسئلة العلمية الواجب الإجابة عليها لاستمرارية العيش، نذكر منها: كيف تتولد الكهرباء للشعب اللبناني؟ وكيف تقع كارثة كيماوية لا يمكن حدوثها إلا في الدول الصناعية والحضارات النووية الكبرى كما في طوكيو، تشيرنوبيل، تولوز. لتنفجر مدينة لا تصنع إلا برامج التنجيم وقراءة الطالع والأبراج عبر تموضع النجوم، بدلاً من خريطة توزع المواد المتفجرة والنووية التي تمتد على كامل مساحة الشاطئ.

انفجار مرفأ المدينة يبين أن استكمال التعامل مع أسئلة بيروت بالاتكال على الأوهام المستمرة ذاتها، بالحرية والتعددية وعلم التنجيم، سيحولها رماداً غارقاً في بحر التاريخ الذي تتشكل أمواجه من المعرفة، والعلم، والتجريب. ربما، صحت العبارة: “بيروت ماتت ألف مرة، ونجت ألف مرة”، لكن ذلك لا يضمن النجاة في المرة التالية. فالكارثة الحالية من الكوارث الألف الأصعب. فقد وقع الانفجار، بعيد أيام من حفل وطني، قامت السلطات فيه تحبريف قصيدة الشاعر نزار قباني، ولحن مؤلف موسيقي وأداء مغنية هي ماجدة الرومي، حاولوا ما أمكنهم من الفن لإعطاء المدينة حتمية الأمل: “إن الثورة تولد من رحم الأحزان”، فاستبدلها المسؤولون عن الحفل وعن المستقبل بكلمة “لاءات، لاءات، لاءات”. اللاءات واضحة الدلالة على حبس المستقبل في عنبر محكم الإغلاق مشتعل الحديد. 

جرائم، مآسٍ، دمار، شكوك، تأويلات، وتداعيات كثيرة تولدت مع انفجار ميناء المدينة، كذب، إخفاق، ومؤامرات، لكن حقيقة واحدة أكدتها الحادثة: “لا يمكن العيش من دون المراقبة السياسية، والاهتمام بنقد الإدارة الحاكمة، لأن سهواً، إهمالاً، قمعاً في غرفة صغيرة بمبنى مؤسسة حكومية، أو ورقة إدارية غير دقيقة في مراسلة حكومية، ستغرق المدينة تحت الركام، وتحول الحياة إلى برهة على التذكر عصية، تجربة أتفه من أن يتذكرها الموت”.

قال الكاتب عبيدو باشا في برنامج “بيت القصيدة” في حلقة خاصة كتحية إلى بيروت: “تعرف بيروت في كل مرة طريق القيامة”. لكن المؤشرات لا تبرهن هذه الحتمية، إن لم نعمل لمساعدتها في العثور على قيامتها، على رغم الجثث، الحرائق، الدمار والركام. الطريق واضحة، ودليل إشارات السير نحو المستقبل معروف ومثبت عبر التاريخ: حرية التعبير، حرية المعتقد، حرية الفنون والرقص والإبداع، حرية الجسد، وبناء الأرض قبل السماء، وتقدير الإنسان قبل الإله، وهكذا تصبح المدينة أبدع خيالاً من جنة.