fbpx

بين مرفأ بيروت وساحة الشهداء: “كوريدور” وهم يوقظه التفجير!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كثيرون ما كانوا ليفكروا بالذهاب إلى مرفأ بيروت لولا التفجير. وكثيرون ربما يرون البحر من جهة المرفأ للمرة الأولى بعد هذا التفجير. فالمرفأ كان يغطي البحر ويمنعه عن الناس. كان سداً في وجه التواصل بين برّ المدينة وبحرها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كثيرون، بعد التفجير، رأوا المرفأ والبحر للمرة الأولى في الصور الجوية، ويعرفون أن هناك مساحة كبيرة من واجهة بيروت البحرية يحتلها المرفأ الذي منعت خصوصيته “الاستعمال العام للجزء الأكبر من الواجهة البحرية لبيروت القديمة”، كما يقول أسامة قباني في مساهمته في الكتاب الموسوعي الذي يوثق لتاريخ ساحة البرج (الشهداء) والذي أصدرته دار “النهار” من إعداد غسان تويني وفارس ساسين.

كثيرون لا ينتبهون خلال وقوفهم في ساحة الشهداء أنهم قلّما، بل نادراً، ما يولون وجوههم شطر البحر. غالباً جميع الواقفين في الساحة يعطون ظهرهم للبحر، مع أن البحر من النقطة الملاصقة لجريدة “النهار” تمكن رؤيته بوضوح مع أجزاء من المرفأ، بينها أهراءات القمح التي تحجب الرؤية عن مكان التفجير. والساحة كانت قبل تدميرها في الحرب تسوّر نفسها من الجهات الأربع، من دون اي منفذ إلى البحر، والتدمير الذي لحق بالمباني وعملية إعادة الإعمار فتحا فجوة كبيرة تجاور مبنى جريدة النهار الحالي مفتوحة على البحر.

في صورة جوية للمهندس الفرنسي الشهير ميشال ايكوشار (منشورة في كتاب “البرج ساحة الحرية وبوابة المشرق” مع مقالة تفصيلية لهاشم سركيس)، تبدو الساحة كأنها مسوّرة من جميع الجهات، ويسدّ الطريق منها إلى البحر بناء كبير هو مبنى الريفولي (الذي قام مكان السرايا الصغيرة بعد تدميرها). مع إفراغ الساحة بالتدمير الممنهج في الحرب، والتدمير الممنهج بـ”إعادة الإعمار”، بات التواصل البصري مع البحر من ساحة الشهداء ممكناً. ومع أن مخططات قديمة كانت وضعت للساحة تحاول عبر التصميم، وعبر إزالة العوائق بين الساحة والبحر، أن تبني علاقة بين الناس وبحرهم، إلا أن هذه المخططات لم تجد طريقها إلى التنفيذ، من مخطط الفرنسيين الأخوين دانجيه اللذين اقترحا هدم السرايا الصغيرة ووصل الساحة بالبحر، أي إيصالها إلى وسط المرفأ، إلى تصميم لاحق وضعه المهندس الفرنسي دولاهال لمجسّم درج يربط الساحة بالبحر، طبعاً بعد إزاحة السرايا التي اعتبرها قبيحة، واستبدالها بالدرج والفراغ، ليكون مكاناً للتلاقي وللحياة السياسية في وسط المدينة. ميشال إيكوشار الذي ارتبط اسمه بتصميم بيروت ومحاولة إنقاذها مما انتهت إليه من فوضى عمرانية، لم يأبه في مخططه للتواصل بين ساحة الشهداء والمرفأ، ولم يأبه للدور السياسي للساحة، إذ يزيل هو أيضاً السرايا ولكن يستبدلها بأبنية تحجب الساحة عن البحر، وينقل الإدارات من الساحة إلى جانب السرايا القديمة، ويركّز على الدور الأساسي للساحة في النقل والمواصلات، وهو الطابع الذي رسم لاحقاً مركزية الساحة كمحطة انطلاق ووصول من المناطق اللبنانية وإليها. وهذا الدور الذي رسمه ايكوشار للساحة قطع تماماً بينها وبين البحر، وبينها وبين المرفأ، وغلّب دورها المواصلاتي، كما يقول هاشم سركيس، على وظائفها الأخرى. 

كثيرون لا ينتبهون خلال وقوفهم في ساحة الشهداء أنهم قلّما، بل نادراً، ما يولون وجوههم شطر البحر.

عام 1898 حضر الامبراطور الألماني غليوم الثاني في زيارة تاريخية إلى بيروت، ورست سفينته في المرفأ. وقامت حينذاك شركة المرفأ بإجراء الترتيبات بالتنسيق مع شركة الغاز لإضاءة كل محيط المرفأ وصولاً إلى ساحة البرج، وتجمّع يومها ما يزيد على خمسين ألف لبناني في استقبال الإمبراطور. وبحسب رواية سمير خلف في كتابه “قلب بيروت”، تأمّل الامبراطور من ساحة البرج المشهد الجميل للمرفأ وزرقة البحر. فيما شهدت رحلة العودة إلى المرفأ مرور موكب الامبراطور في الساحة المزدانة وصولاً إلى البحر. ويقول خلف بأن الساحة كان يفترض ان تكون ممراً (كوريدور واسع) بين المرفأ والمدينة القديمة. ولذلك قام المهندس ستوكلين بوضع مخطط لهذا الأمر عام 1863، وكان برأيه أن بناء أرصفة للمرفأ لا يكفي من دون وصلها بالمدينة القديمة، ولكن الأحياء والأزقة والأبنية القديمة كانت تقف عائقاً أمام تنفيذ هذا المشروع في حينه، والذي كان يستدعي هدم بعض الأبنية لفتح المجال البصري الواسع بين الساحة والمرفأ. وهو ما حققته لاحقاً الحرب الأهلية اللبنانية وعملية اعادة الاعمار بعد هدم معظم مباني الساحة، وليصير الكوريدور الذي حلم به ستوكلين ومن بعده الأخوان دونجيه ودولاهال، واقعاً متحققاً. ولنا أن نتخيل، بعد تأمين هذا الامتداد الجغرافي، لو كان لمرفأ بيروت ارتباط اجتماعي بعمق وسط البلد، كما هي الحال في معظم المدن البحرية العالمية، التي لا تقطع نهائياً بين مرافئها وقلب مدنها. وتسمح للناس والمسافرين والتجار والسياح بارتياد الواجهة البحرية للمرافئ والتي تضج غالباً بالحياة من دون تعقيدات أمنية وعسكرية كما هي الحال اليوم مع مرفأ بيروت، قبل تفجيره، وبعده. لكن ربما كانت هناك حسنة وحيدة لكل ما انتهى إليه مرفأ بيروت قبل التفجير: تجنيب آلاف المتنزهين اللبنانيين والأجانب المفترضين على أرصفته ومرتادي مقاهيه ومطاعمه المفترضة، مجزرة الموت بانفجار شبه نووي.