fbpx

عادت الوثائق ليحاكم صدام :
أرشيف جرائم البعث الكيماوية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مشاهد من جحيم صدام حسين في المناطق الكردية العراقية كما وثقها الأرشيف الكردي

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

                                                       

يسحب بيتر غالبريث ملفاً عشوائياً أصفر ممزّقاً من مجموعة ملفات شقلاوة التي استولى عليها الكرد خلال انتفاضة آذار/ مارس 1991. يبدأ الملف بحسب غالبريث “باستنطاق أربعة رعاة عُثر عليهم في المنطقة المحذورة. كانت الأسئلة متشابهة، وجاء استنطاق سليمان علي تايه (16 عاماً) على النحو الآتي:

س1: كيف تم إلقاء القبض عليك وأين؟

ج: كنت أرعى الغنم في قرية قاضي خانة المدمّرة فتم إلقاء القبض علي من قبل العسكريين.

س2: ما علاقتك بالأشخاص بهاء الدين علي وسوار مجيد ورشاد عبد الله؟

ج: لا علاقة لي بهم وإنما نسكن في نفس القرية.

س3: هل يتواجد مخربون في منطقتكم ومن هم؟

ج: لا يوجد أي مخرب ولا أعرف أحداً [كذا] منهم.

س4: هل تعلم أن الذهاب إلى المناطق المحذورة أمنياً يحاسب عليه القانون؟

ج: نعلم بأنها ممنوعة ولكن ليس لدينا أي غاية سوى رعي الغنم”.

يتابع غالبريث الوصف “على الجانب الأيمن من ورقة الاستنطاق المكوّنة من صفحة واحدة، يوجد توقيع القائم بالاستنطاق، وعلى اليسار توجد بصمة بالحبر. ولما كان الرعاة الأربعة أميّون، فقد وقّعوا جميعاً نماذج استنطاقهم/ اعترافاتهم بهذه الطريقة. بعد الاعترافات، يحتوي الملف على رسالة موجّهة إلى الجهة الأمنية المكلّفة بتنفيذ التعليمات الواردة في الفقرة الخامسة من البرقية المعمّمة على حزب البعث في الشمال. يلي ذلك إيصال يقرّ باحتجاز أربعة سجناء، وتطبيق أحكام الفقرة الخامسة عليهم. ثم بعد ذلك بقليل، يحتوي الملف الأصفر أربع شهادات وفاة خضراء، صادرة عن المستشفى المحلي بتاريخ 1 آذار/ مارس 1988. نصّت شهادات سليمان علي تايه والرعاة الآخرين، على أن سبب الوفاة هو الإعدام”.

ما رواه غالبريث كان مشهداً عابراً في جحيم صدام الذي دام أكثر من 30 عاماً، أما مسرح الأحداث فهو كردستان العراق.

غالبريث في الأرض الحرام

بيتر-غالبريث-في-كردستان-العام-1992

ناقشنا في الحلقة السابقة قصة كنعان مكية مع مجموعة بيانات شمال العراق، وما أحاط بالمجموعة من ظروف جعلتها ضرورية في تقديم دعوى ضد نظام بغداد في المحاكم الدولية، بتهمة الإبادة الجماعية. وقلنا إن غالبريث كان من أوائل الذين زاروا كردستان العراق في 1991، بل إنه كان موجوداً مع البیشمركة، حين كانت الطائرات المروحية التابعة للجيش العراقي ترمي قذائفها فوق رؤوسهم، في أكثر من مناسبة.

بتاريخ 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 1991، رفع غالبريث تقريره الأول عن زيارته لكردستان، إلى السيناتور كلايبورن بيل؛ رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، وقد عرض فيه صورة شاملة عن الوضع في كردستان خلال تلك الأيام العصيبة. وكتب غالبريث في تقريره المعنون “كردستان في زمن صدام حسين” أنه تنقّل في الفترة ما بين 4 و11 أيار (سبتمبر) 1991، عبر جميع أنحاء الأجزاء الخاضعة للسيطرة الكردية في العراق، والتي قدّرها بأكثر من 80% من الأراضي الكردية المأهولة. ذهب غالبريث جنوباً إلى حلبچه، وإلى أقصى الشرق حيث حاج عمران على الحدود الإيرانية، وشمالاً إلى المثلث الحدودي حيث تلتقي إيران وتركيا بالعراق، وغرباً إلى العمادية ودهوك وزاخو، حيث تلتقي الحدود العراقية بسوريا وتركيا. وقد عَبَر غالبريث الخطوط العراقية أربع مرات، في مناسبتين مختلفتين متنكّراً بزي كردي، بهدف زيارة مدينتي أربيل والسليمانية.

وصف غالبريث كردستان بأنها “أرض محطّمة، يعيش فيها الملايين على حافة الهاوية. ما لا يقل عن 600 ألف كردي بلا مأوى، ويواجهون كارثة مع اقتراب فصل الشتاء. الإمدادات الغذائية وتوزيعها غير كافيين، ومن المؤكد أن الوضع سيزداد سوءاً، في وقت ما زال المدنيون عرضة للهجمات العسكرية التي يمكن أن يشنّها الجيش العراقي”. وفي ظل السيطرة الواسعة للكرد على الأراضي المأهولة، تكشف “كردستان ببطء أهوال ربع قرن من حكم البعث. المقابر الجماعية التي يُعثر عليها كل يوم في أجزاء مختلفة منها، تقدّم أدلة دامغة على مقتل نحو 182 ألف كردي، كان يُفترض أن يُرحّلوا قسرياً إلى جنوب العراق بعد العام 1988. وبسبب اتساع الدمار المادي الذي طال كل قرية ومدينة، أمست أجزاء كبيرة من كردستان غير صالحة للسكن، بفعل عمليات إزالة الألغام التي زرعها الجيش العراقي”.

وعلى الرغم من أن الكرد يسيطرون على نحو 80 في المئة من الأراضي المأهولة، حذّر غالبريث من أن “الوحدة الهشّة للحركة الكردية يمكن أن تتمزّق، بسبب الخلافات الحادة بين القادة، بشأن توقيع اتفاقية حكم ذاتي مع صدام”، إذ كان بارزاني يميل إلى عقد الاتفاقية بفعل عدم ثقته بالوعود الغربية ولا سيما الأميركية منها، فيما يعارض طالباني ذلك (ومعه معظم الأحزاب الثانوية والعشائر الكردية)، ويفضّل الاعتماد على المجتمع الدولي، الذي يمكن أن يُخرج القضية الكردية من حساباته، إذا وُقّعت الاتفاقية. فضلاً عن المخاوف من انشقاق الجبهة الكردية، نبّه غالبريث إلى ضرورة توفير الحماية للكرد، أمام احتمالات تجدّد هجمات القوات المسلحة العراقية، ولاسيما أنهم بلا قيادة مركزية واضحة، ويعانون نقصاً في جمع المعلومات الاستخبارية والقدرة على معالجتها، فضلاً عن اعتماد مقاتليهم على الأسلحة الخفيفة غالباً. من هنا “يحتاج التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة إلى تأكيد استعداده لاستخدام القوة الجوية، بغية ردع الهجمات على الأراضي التي يسيطر عليها الكرد. وينبغي النظر في تزويد مقاتليهم بمساعدة عسكرية محدودة، لتعزيز قدراتهم على الدفاع عن النفس. يمكن أن تشمل هذه المساعدة قطع غيار وذخيرة للمعدات العسكرية التي استولى عليها المتمردون الكرد، ويمكن أن تأتي من مخزونات الأسلحة العراقية التي تُركت في مسرح عمليات الكويت”. زد على ذلك أن “عناصر البیشمركة يحتاجون أيضاً إلى التدريب العسكري والدعم المالي”.

غالبريث تحدّث في تقريره أيضاً عن الوثائق الكردية، وأكد أن المنتفضين يسيطرون على عدد هائل من السجلات الخاصة بحملات الأنفال، وهم “على استعداد لإتاحتها لنا من أجل دعم الملاحقات القضائية الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية”. كانت أجهزة الأمن البعثية “تحتفظ بتلك الأدلة لتوثّق أنشطتها كافة، حتى إن تلك الأجهزة صوّرت شرائط فيديو أثناء جلسات التعذيب وتنفيذ الإعدامات، وحالات الاغتصاب الجماعي لفتيات كرديات”. لكن القوات العراقية استعادت بعض الوثائق عندما سيطرت ثانية على كردستان نهاية آذار/ مارس وأوائل نيسان/ أبريل 1991. وبحسب غالبريث فإن الكرد أنفسهم “أحرقوا بعض الوثائق وشرائط الفيديو على الحدود الإيرانية، خوفاً من أن تستولي عليها أجهزة الأمن الإيرانية، التي كانت تريد الكشف عن طبيعة العلاقة التي تربط بعض الأحزاب الكردية الإيرانية بنظام صدام”. غالبريث حذّر من أن نظام صدام “إذا استعاد كردستان، فهناك خطر كبير من ضياع الوثائق الموجودة. وبسبب أهميتها التاريخية للكرد، وقيمتها في أي محاكمة مستقبلية للنظام العراقي على ارتكابه جرائم ضد الإنسانية، يجب حفظها خارج العراق”.

أما تقرير غالبريث الثاني، فقدّمه إلى السيناتور بيل أيضاً، بتاريخ 21 أيار/ مايو 1992، وكان بعنوان “وثائق صدام”. وكما يشير الاسم، فإن غالبريث ركّز هذه المرة على وثائق شمال العراق وطبيعتها وأهميتها، ووصف نجاحه في إقناع الأحزاب الكردية بأهمية نقل الوثائق إلى الولايات المتحدة، حفاظاً عليها من الأخطار التي كانت تحدق بها. كما تحدّث بالتفصيل عن محتويات الوثائق ورحلتها المحفوفة بالمخاطر من كردستان إلى قاعدة إنجرليك في تركيا، ومنها إلى أميركا. تلك كانت أهم نتائج زيارته الثانية إلى كردستان، بين 16 و27 نيسان 1992.

ومع أن غالبريث نجح في نقل حصة الاتحاد الوطني الكردستاني من الوثائق إلى أميركا، وكانت بحجم 40 متراً مكعباً، فإنه تلقّى وعداً من الحزب الاشتراكي الكردي، بتسليم ما في عهدته من وثائق قدّر حجمها بـ10 أمتار مكعبة. كما أن بارزاني أعطى وعداً مشابهاً، لكنه طلب مهلة كافية كي تتاح الفرصة لحزبه ليراجع الوثائق وينسخ المهمّ فيها. لم يحدث تسليم وثائق الحزبين الأخيرين في فترة خدمة غالبريث، بل نُقلت إلى أميركا عام 1993، بإشراف جورج بيكارت الذي خلفه في إكمال المهمة.

وثائق الاتحاد الوطني الكردستاني حسب غالبريث، كان مُخزّنة في مستودعين؛ الأول هو المجموعة الكاملة لوثائق الأجهزة الأمنية في مدينة شقلاوة، فضلاً عن ملفات جزئية أو كاملة جاءت من بعض البلدات المحيطة، فيما كان المستودع الآخر موجوداً في السليمانية. ورجّح غالبريث أن تلك الملفات توثّق الاستراتيجيات الأوسع للسلطات العراقية في كردستان، تلك التي اتسمت بالقمع الوحشي والقتل الجماعي. فضلاً عن ذلك، قد تساعد وثائق السليمانية في حسم المسؤوليات المحدّدة لكبار المسؤولين العراقيين عن الجرائم في كردستان، مع أن عددها المتواضع قد يقلّل قيمتها. ونبّه غالبريث إلى أن الملفات التي تسلّمها أقل بكثير مما سبق للكرد أن استولوا عليه.

وتصف تلك الملفات المتنوعة سجلات رواتب المرتزقة والمخبرين في بلدات كردستان ومدنها. وهناك رسائل وبطاقات بريدية وصور أرسلها عراقيون يقيمون في الخارج إلى أقاربهم في كردستان، اعترضها رجال الأمن ولم يسلّموها إلى أصحابها. وهناك ملفات شخصية تحتوي تقارير تخصّ معارضين للنظام أو مشتبه في معارضتهم، فضلاً عن مواطنين عاديين وأنصار للنظام. أما الأشرطة الصوتية، فقد وثّقت أحاديث عادية وشخصية لكبار المسؤولين في حزب البعث.

وتكشف الوثائق بعض أنشطة المخابرات العراقية في مراقبة الأجانب. ففي مستودع شقلاوة الذي يحتفظ بمعلومات مكاتب الأمن الصغيرة، هناك قائمة مطبوعة تحوي الأسماء والعناوين والأوصاف الموجزة لكرد عراقيين يعيشون في الولايات المتحدة، حتى أن بعضها بلغ من الدقة بحيث وصف رجلاً يعمل سائق تاكسي في مطار ميامي. كثير من الأسماء المدرجة في القائمة تعود لكرد عراقيين حصلوا على الجنسية الأميركية، وقد أدلى عدد لا بأس به منهم بشهاداتهم أمام لجان الكونغرس، بما في ذلك لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ. فضلاً عن ذلك، هناك صور لبعض الأجانب، بما في ذلك صورة لديفيد نيوتن؛ سفير الولايات المتحدة في العراق من 1984 إلى 1987، التُقطت له من دون أن يتنبّه للمصوّر كما يبدو.

وتحتوي الوثائق أيضاً صوراً لضحايا الأنفال وضحايا آخرين لأجهزة الأمن البعثية، ويُظهر بعضها قرويين قبل اختفائهم، ثم توثّق عمليات تفتيش بيوتهم وصور جثثهم بعد الإعدام. تُظهر إحدى الصور ثلاثة جنود عراقيين يتنكّبون بنادقهم ويربضون على الأرض، وهم يرفعون بأيديهم رأس رجل أعدموه تواً، ويشيرون بعلامة النصر عبر اليد الأخرى، كما لو كانوا في حفلة صيد.

خلال الزيارتين، شاهد غالبريث عدداً من الفيديوات قدّر زمنها فيما بين 10 و20 ساعة من التسجيلات الخاصة بالأجهزة الأمنية التي تصوّر عمليات الإعدام والتعذيب والاغتصاب وتجريف القرى. أحد هذه الفيديوات تخصّ وفداً أميركياً رسمياً سبق أن زار العراق، وكان على ما يبدو وفد مجلس الشيوخ الذي التقى صدام حسين في نيسان 1990.

وهناك فيديو آخر يظهر ثلاثة رجال بالزّي الكردي، عُصِبت أعينهم وقُيّدوا إلى أوتاد. ثم ما يلبث ضابط عراقي أن يقف أمامهم، ويقرأ كلمة يتخلّلها تصفيق من حشد متجمهر لمشاهدة ما يحدث. بعد انتهائه من كلمته، تُفتح نيران الأسلحة الآلية على الثلاثة مصحوبة بالتصفيق والتهليل. يتسلّق أحدهم كي يفصل الكهرباء عن منازل القتلى، ثم تبدأ الجرافات تهديم بيوتهم.

لكن تلك الفيديوات اختفت من شحنة الوثائق التي تسلمّها غالبريث من حزب طالباني. عوض ذلك، أخذ الكرد تلك الفيديوات ونسخوها على نطاق واسع، حتى إنّ متاجر الفيديو في المدن الكردية الكبرى عرضت عدداً منها، كما بثّ عدد من محطات التلفزيون التابعة للأحزاب الكردية بعضها، ووجد بعضها الآخر طريقه إلى وسائل الإعلام الأجنبية.

لقد فتحت جهود غالبريث ومكية المجال أمام الباحثين لإجراء دراساتهم الخاصة بمجموعة بيانات شمال العراق، بعد إتاحتها لهم. وكشف التحليل الذي أجرته هيومن رايتس ووتش ووكالة الاستخبارات الدفاعية، أن تاريخ معظم سجلات هذه المجموعة يعود إلى الثمانينيات، فيما تعود آخر السجلات إلى وقت حرب الخليج 1990-1991، مثل الأمر الصادر في 12 كانون الثاني/ يناير 1991، والقاضي بتنظيم التجمّعات ضد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في دهوك، ومنع الحاضرين من مغادرة مثل هذه التجمعات قبل نهايتها. لكن السجلات احتوت أيضاً على وثائق ثانوية ترجع إلى عقد الستينيات من القرن الماضي، قبل استيلاء حزب البعث النهائي على السلطة عام 1968، وأخرى تمتد إلى فترة الحكم البعثي من عام 1968 إلى عام 1991. ولعل أقدم وثيقة في المجموعة، تعود إلى عام 1953 إبان العهد الملكي، وهي تتعلّق بتقرير عن أحد أعضاء الحزب الديموقراطي الكردستاني.

أما الجهات التي أصدرت تلك الوثائق، فإن حصة الأسد ترجع إلى مديرية الأمن العامة، فيما جاء بعضها من المديرية العامة للاستخبارات العسكرية. ولما كانت بيروقراطية البعث تميل إلى نسخ أعداد كبيرة من الملفات وإرسالها إلى الهيئات الحزبية ومؤسسات الدولة بوصفها مراسلات روتينية، احتوت الوثائق أيضاً على ملفات آتية من مكاتب حزب البعث المختلفة وديوان رئاسة الجمهورية ومجلس قيادة الثورة ولجنة شؤون الشمال وجهاز المخابرات والأمن القومي وكتائب الدفاع الوطني الكردية الموالية للنظام، فضلاً عن الجيش الشعبي ووحدات الجيش النظامية المنتشرة في الشمال والاتحادات الشبابية والنسوية ومكاتب المحافظين والشرطة المحلية.

على مستوى الأقليات الدينية والعرقية، تحتوي المجموعة على وثائق تعود إلى الستينيات وأوائل السبعينيات، وهي توثق آليات مراقبة الأقلية اليهودية واضطهادها، تلك التي تضاءل عددها بوضوح في ظل البعث، ولاسيما بعد إعدام المتهّمين بالتجسس لصالح إسرائيل عام 1969. كما تحوي الملفات على معلومات تتعلّق بالمجموعات السكانية غير العربية في شمال العراق. ففضلاً عن الكرد، تتحدّث الوثائق عن الآشوريين والتركمان والأيزيديين والشبك وسواها من الجماعات الأصغر حجماً.

وفي ظل الأرقام المتباينة الخاصة بعدد القتلى الكرد، تبنّى غالبريث الرقم الرسمي الذي دأب الكرد على تقديمه وهو نحو 180 ألفاً، فيما ذهب مكية في كتابه “القسوة والصمت” الصادر في 1993، إلى أن العدد أقل من ذلك، مستنداً إلى فيديو يعترف فيه علي حسن المجيد؛ المسؤول التنفيذي الأول عن حملات الأنفال، بأن العدد لا يزيد على 100 ألف قتيل. فضلاً عن ذلك، دُمّرت 4 آلاف قرية وهُجّر الناجون من المناطق المستهدفة إلى مخيّمات تابعة لسلطات البعث.

وبحلول المرحلة الثامنة والأخيرة من الحملات، لم تبقَ في كردستان العراق سوى 673 قرية. وقد نال الآشوريون نصيبهم من هذا الدمار، إذ هُدمت لهم 80 قرية، وقُتل أو اختفى نحو ألف آشوري. ولم تسلم الأقليات الأخرى في شمال العراق من تدمير القرى والقتل والترحيل، بما في ذلك الأيزيديون والتركمان والشبك. ولما كان شمال العراق ملاذاً آمناً لمعارضي حزب البعث، فقد ألقي القبض على عدد من أعضاء الحزب الشيوعي العراقي، وكان مصيرهم الإعدام.

من زاخو إلى ميريلاند… من كولورادو إلى بغداد

تسلّم الجيش الأميركي مجموعة بيانات شمال العراق في مدينة زاخو الحدودية. وحال وصولها إلى الولايات المتحدة، مثّلت المناقشات التي دارت بين غالبريت ومكتبة الكونغرس والأرشيف الأميركي نقطة التحوّل الرئيسية. كانت نتيجة المناقشات تصبّ في أن تصنيف الوثائق على أنها ملفات تابعة لمجلس الشيوخ، سيُلزم الأرشيف الأميركي بقبول استضافتها. وافق الأرشيف الأميركي على تسلّمها، وأودعها في أحد مرافقه الكائنة في ولاية مريلاند، كما ذكرنا.

مستشار جامعة كولورادو بولدر فيليب ديستيفانو-يمين يسلّم عضو مجلس إدارة مركز أرشيف زين آكو

لقد أُنجز البحث المشترك بين هيومن رايتس ووتش ووكالة الاستخبارات الدفاعية فيما كانت المجموعة في الأرشيف الأميركي. ومنذ أن انتهى البحث في تشرين الأول/ أكتوبر 1994، لم يطلب باحثون آخرون العمل عليها. ولما كانت المجموعة تشغل مساحة كبيرة من مرفق “كوليدج بارك” في مريلاند، وكان أمراً وارداً أن تشكّل تهديداً أمنياً بسبب المواجهة المستمرة بين الحكومة الأميركية ونظام صدام، بدأ التفكير في إيجاد ملاذ آخر لها. كنا قد أشرنا في الحلقة السابقة إلى أن مكية طلب من هارفرد استضافة مجموعة بيانات شمال العراق، ولاسيما أن لها خبرة سابقة باستضافة أرشيف سمولينسك السوفييتي. وقد وجد هذا المقترح تأييداً كبيراً حين تدخّل نائب الرئيس الأميركي آل غور، والذي كان متابعاً لقصة الوثائق منذ اكتشافها حتى نقلها جواً إلى الأراضي الأميركية، كي يطلب من هارفرد (وهي الجامعة التي تخرّج فيها) أن تستضيف المجموعة أيضاً. لكن هارفرد رفضت العرض بسبب المخاوف الأمنية من أن يحاول عملاء البعث إشعال النار في مكتبتهم.

وبناء على طلب تقدّم به بروس مونتغمري؛ مدير الأرشيف في جامعة كولورادو بولدر، وافقت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي في كانون الثاني/ يناير 1998، على نقل وثائق شمال العراق إلى أرشيف حقوق الإنسان التابع لجامعة كولورادو بولدر. كما زوّدت وزارة الداخلية الأميركية أرشيف بولدر بنسخة رقمية من ملفات المجموعة أوائل عام 1998، مشابهة للنسخ التي تسلّمها الأرشيف الأميركي والمشروع العراقي للبحث والتوثيق والحزبين الكرديين. واستناداً إلى رسالة سابقة وجهها رئيس لجنة مجلس الشيوخ السيناتور جيسي هيلمز، إلى مونتغمري في حزيران/ يونيو 1997، بوجوب احترام أي طلب يقدّمه الكرد لاسترداد الوثائق، وافق مندوبو الحزب الديمزقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على هذا الاتفاق، ومارسوا دور المشرفين أو الأوصياء على المجموعة، بوصفهم ممثلين لأغلبية الشعب الكردي في العراق. بعد انتهاء عملية النقل بقليل، أسس مونتغمري ما سمّاه “مبادرة الوثائق العراقية”، لتعزيز أصول الأرشيف وقاعدة البيانات الرقمية الخاصة به، وإتاحته للباحثين المقيمين في الولايات المتحدة وخارجها.

الملفات الأصلية المودعة في جامعة كولورادو بولدر، جذبت انتباه مكتب جرائم الحرب التابع لوزارة الخارجية آنذاك، فضلاً عن منظمة “إندايت”؛ وهي مجموعة دولية لحقوق الإنسان سعت إلى تقديم صدام وأتباعه إلى محكمة دولية على منوال نورمبيرغ. زار محقّقو إندايت جامعة كولورادو بولدر للتشاور مع مونتغمري بشأن مجموعة بيانات شمال العراق، وكشفوا عن استعداد محكمة بلجيكية لمراجعة الأدلة بهدف تقديم لوائح اتهام محتملة ضد القيادة العراقية. لكن تلك الجهود لم تسفر عن شيء، حتى عام 2003.

بعد زوال نظام صدام واعتقال أركانه، شُكّلت المحكمة الجنائية الخاصة لمقاضاتهم، ما جعل إرجاع الوثائق إلى بغداد أمراً ضرورياً، لاستخدامها أدلّة إدانة ضد النظام. في كانون الأول/ ديسمبر 2004، سلّم مونتغمري 18 طناً مترياً من مجموعة بيانات شمال العراق، إلى فرقة العمل الخاصة بجرائم نظام صدام التابعة لوزارة العدل الأميركية، التي أرسلتها بدورها إلى بغداد خدمة لإجراءات المحكمة. لكن محاكمة نظام صدام الأولى ركّزت على مجزرة قرية الدجيل في تكريت، التي راح ضحيتها 148 عراقياً، انتقاماً من محاولة اغتيال فاشلة لصدام في 8 تموز/ يوليو 1982. أما محاكمة الأنفال ضد صدام حسين وعلي حسن المجيد وعدد من المتهمين الآخرين، فقد بدأت في آب/ أغسطس 2006. لكن صداماً أدين وحُكم عليه بالإعدام على خلفية مجزرة الدجيل، ونُفّذ الحكم في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2006، قبل انتهاء إجراءات محكمة الأنفال. نتيجة لذلك، أُسقطت التهم الموجّهة إليه في محكمة الأنفال، فيما أدين المجيد واثنين من مساعديه بالجريمة، وحُكم عليهم بالإعدام في 24 حزيران 2007. بعد إقرار محكمة الاستئناف الحكم، نُفذ الإعدام بالمجيد في 25 كانون الثاني 2010.

موسم العودة إلى الشمال

قلنا إن الأحزاب الكردية تسلّمت نسخة رقمية من مجموعة بيانات شمال العراق عام 1998، مخزّنة على أقراص مضغوطة. لكن جامعة كولورادو بولدر، ارتأت أن تسلّم كردستان العراق نسخة رقمية ثانية، مُخزّنة هذه المرة على قرص خارجي صلب External Hard Drive. ففي 30 أيلول 2014، استضاف مستشار الجامعة فيليب ديستيفانو، حفل تسليم النسخة الثانية من الملفات، إلى وفد رفيع المستوى من كردستان العراق، ترأسّه أكو وهبي المسؤول البارز في مركز أرشيف ژین (الحياة) في السليمانية. كانت مراسم الاسترداد تتويجاً لسنتين من المفاوضات بين مونتغمري وأستاذ التاريخ في جامعة السليمانية فرديناند هاينربيشلر، اللذين توسّطا في إتمام اتفاقية التسليم بين بولدر والمسؤولين الكرد. ألقى برهم صالح عبر “سكايب” كلمة بالمناسبة، لا بوصفه مسؤولاً رفيعاً يشغل منصب رئيس جمهورية العراق فحسب، بل لأنه لعب دوراً بارزاً في تسليط الضوء على أهمية الوثائق في الكشف عن محنة الشعب الكردي، وترتيب نقل الأرشيف إلى أميركا، كما أوضحنا في الحلقة السابقة.

طفلة تحمل أخيها في إحدى قرى كردستان خلال قصف نظام صدام الكيماوي اواخر الثمانينات.

لقد ساهم إرسال النسخة الأصلية من الأرشيف الكردي إلى العراق عام 2004، في إنهاء العمل بأرشيف حقوق الإنسان التابع لجامعة كولورادو بولدر، مع أنه قدّم خدمات جليلة طوال 20 عاماً. غادر مونتغمري الجامعة بعد أن نشر دراسات كثيرة عن مجموعة بيانات شمال العراق، وسائر المجموعات الأرشيفية الأخرى. على رغم ذلك، تلقّى مونتغمري لاحقاً رسالة من مسؤول دولي في مجال حقوق الإنسان لم يفصح عن اسمه، يخبره بأن كولورادو بولدر ما زالت تحتفظ بـ52 صندوقاً من وثائق شمال العراق، تُركت سهواً في مخزن خارج الحرم الجامعي ونُسيت تماماً. هذا يعني أن تلك السجلات لم تخضع للفحص والدراسة والأرشفة، ولم تُسلّم مع شحنة وزارة العدل الأميركية التي أرسلتها إلى العراق عام 2004. نقل مونتغمري هذه المعلومات إلى هاينربيشلر الذي انخرط لاحقاً في مفاوضات لوجستية مطوّلة مع كولورادو بولدر لاستعادة الملفات. وبعد حصول موافقة الجامعة، شُحنت الصناديق إلى السليمانية في حزيران 2019.

فضلاً عن ذلك، حصل هاينربيشلر من مونتغمري على نسخ رقمية من بعض الوثائق التاريخية المتعلّقة بالشؤون الكردية، صوّرها من الأرشيف العراقي الذي استولى عليه الجيش الأميركي بعد عام 2003، والذي أتيحت نسخة رقمية جزئية منه للباحثين مدة خمس سنوات، في “مركز أبحاث سجلات الصراع” بكلية الدفاع الوطني التابعة للبنتاغون.

في غضون ذلك، أصبحت جميع الملفات الرقمية التي حصلت عليها السلطات الكردية تحت الوصاية الموقتة لمركز أرشيف ژین في السليمانية، بالنيابة عن الممثّلين الشرعيين لكرد العراق. ومن المتوقّع أن يواصل مركز ژین عمله هذا، حتى يشرّع برلمان الإقليم قانوناً ينظّم الوصول إلى الملفات، وربما ينشئ مؤسسة مستقلة لإيواء الوثائق وإدارتها، لتكون قاعدة بيانات عامة للوثائق الأصلية والرقمية.

وفي آخر حلقة من مسلسل الوثائق الكردية الخاصة بالأنفال، بدأت مجموعة من الصحافيين والكتاب وصانعي الأفلام الكرد والأوروبيين “الملتزمين بتقديم تقارير حيادية عبر – حزبية” العام 2019، كشف أسماء وصور وتفصيلات تتعلّق بكرد عراقيين “اتهموا” بالتعاون مع نظام صدام في أثناء حملات الأنفال أواخر الثمانينات. الأعضاء المجهولون في هذه المجموعة، نشروا على “فايسبوك” قوائم بـ “جميع” القادة العسكريين الكرد المزعومين، ممن خدموا في جيش صدام، وقد وصفوهم بـ”الخونة” والمذنبين بارتكاب “جرائم حرب” لصالح صدام وحزبه. وادعت المجموعة أن هؤلاء المتعاونين السابقين “أصبحوا الآن محميّين” من الأحزاب المتنفذة في إقليم كردستان. وعندما سُئِلت المجموعة، من خلال التعليقات على المنشور، عما إذا كانت المواد الوثائقية المنشورة، تستند على مجموعة وثائق عام 1991، تهرّب الجواب الذي جاء بالألمانية من السؤال، لكنّه وعد بإجراء بحث أصيل في هذه القضية.

وتذهب دراسة نشرها مونتغمري وهاينربيشلر عام 2019، إلى أن منشورات فيسبوك تعبّر عن انتقادات جيل شاب من الكرد الذين يعيشون في أوراسيا والشتات الأوروبي، ويمكن النظر إليها في السياق الأوسع للاحتجاجات والتظاهرات المتصاعدة التي يقودها شباب من ذوي التوجّه الإصلاحي، لا في العراق فحسب بل في الشرق الأوسط والعالم العربي برمّته.

ويؤكد عدد من الباحثين أن مصير مجموعة بيانات شمال العراق التي تسلّمتها الحكومة العراقية عام 2005، ما زال مجهولاً. وتشاركها هذا المصير الوثائق والسجلات والفيديوات التي احتفظ بها المسؤولون الكرد ولم تغادر أرض كردستان العامين 1992 و1993. كما لا يعرف أحد إلى الآن مصير الوثائق التي استولت عليها الأحزاب الكردية، في أعقاب سقوط نظام صدام عام 2003، تلك التي اطلعت هانية المفتي على بعضها، وتحدّثت عنها في دراستها التي أشرنا إليها في الحلقة الأولى.

ومثلما استخدمت الميليشيات الشيعية مجموعة بيانات شمال العراق وسواها من الوثائق التي استولت عليها بعد 2003، في ابتزاز الخصوم وتسقيطهم سياسياً، ولا سيما في مواسم الانتخابات والأحداث المفصلية، ينقل مونتغمري وهاينربيشلر عن بعض المصادر الكردية قولها إن النخب الحاكمة في الإقليم تستخدم السياسة نفسها في استغلال أرشيفات كردستان العراق، من أجل “تعزيز سلطتها ومهاجمة معارضيها”. لذلك “يوظّف الشباب الكردي بشكل متزايد، التأثير العالمي لمنصات التواصل الاجتماعي مثل “فايسبوك”، للضغط على النخب الحاكمة الأكبر سناً، بغية الالتزام بسيادة القانون، وتمكين القضاء المستقل، وتقديم المجرمين الكرد المزعومين إلى العدالة، وتحرير كردستان من وباء الأوليغارشية وأمراء الحرب، لمصلحة حكم الأغلبية الديموقراطية”. إن هذه الجهود تلتقي مع أهداف قطاع شبابي واسع في العراق، الأمر الذي بدا واضحاً في انتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019، التي عمّت بغداد ومحافظات الوسط والجنوب.