fbpx

لبنان: مئة عام من الوصاية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ها هو ماكرون يسعى جهده إلى إحياء الائتلاف والوصايتين، بما يعزّز وصاية ثالثة هي وصاية الوسيط الفرنسي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عند نهاية الحرب العالمية الأولى، عام 1918، احتلت القوات البريطانية دمشق بينما احتلت القوات الفرنسية بيروت. وإذ حاول البريطانيون تسليم فيصل، ابن شريف مكّة، الحسين بن علي، سوريا، تعويضاً عن وعدهم الكاذب بوضع سلالته على رأس مملكة عربية تشمل الأراضي العربية في غرب آسيا – وهو وعدٌ لم يمنعهم من تقاسم السيادة على هذه الأراضي مع الفرنسيين سرّاً (اتفاقية سايكس – بيكو، 1916). ولم يمنعهم ومن قطع وعد للصهاينة بفسح المجال أمامهم كي يُنشئوا دولة لهم في فلسطين (وعد بلفور، 1917). أصرّ الفرنسيون على حكم كامل الأراضي السورية، وفق الاتفاق. فانسحبت القوات البريطانية من سوريا عام 1919 وما لبث الفرنسيون أن طردوا فيصل، الذي عيّنه البريطانيون بعد ذلك ملكاً على العراق.

هذا ولم تكتفِ الدولتان الاستعماريتان بتقسيم المنطقة بينهما، بل عمدتا إلى تقسيم فلسطين وسوريا ذاتهما، إذ خلق البريطانيون إمارة في شرق الأردن سلّموها لشقيق فيصل، عبد الله، وبالغ الفرنسيون بتقسيمهم “سوريا ولبنان” إلى ستة كيانات، إذ أنشأوا في أيلول/ سبتمبر 1920، “دولة لبنان الكبير”، و”دولة دمشق”، و”دولة حلب”، و”دولة جبل العلويين”، وفي العام التالي “دولة جبل الدروز”، فضلاً عن “لواء إسكندرون”. وقد وسّع الفرنسيون رقعة “دولة لبنان الكبير” قدر المستطاع ضمن حدود اعتقدوا أنها لن تُبطل غلبة الموارنة في حكم الدولة الجديدة، وهي غلبة رأت فيها الدولة الاستعمارية ضمانة لديمومة وصايتها في إطار النظام السياسي الطائفي الذي أرسته.

بيد أن التنافس بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي بقي قائماً، وقد استفادت بريطانيا من تقهقر الدولة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية كي تصعّد تدخّلها في لبنان وتحفّز استقلاله عن فرنسا. ففرضت لندن على السلطات الفرنسية في لبنان الإفراج عن بشارة الخوري ورياض الصلح ورفاقهما بعدما اعتقلهم الفرنسيون إثر تحدّيهم وصايتهم. كما أن كميل شمعون، ثاني رؤساء الجمهورية اللبنانية المستقلة، كان معروفاً بعلاقته الوطيدة بالبريطانيين، وكان سفيراً لديهم بعد الاستقلال وحتى عام 1946. غير أن إخفاق العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي على مصر عام 1956 بضغط من الولايات المتحدة الأميركية شكّل منعطفاً حاسماً نحو استبدال نفوذ الدولتين الاستعماريتين الأوروبيتين بنفوذ القوة العظمى الإمبريالية الأميركية.

ومن عواقب هذا المنعطف أن الأميركيين هم الذين أنزلوا قواتهم في لبنان عام 1958 للحؤول دون سقوط الحكم فيه وبسط مصر الناصرية هيمنتها عليه من خلال الدولة السورية المجاورة، التي باتت للقاهرة اليد العليا فيها إثر اندماج البلدين في إطار “الجمهورية العربية المتحدة”. وانتهى النزاع الأهلي اللبناني بتسليم رئاسة الجمهورية لقائد الجيش، فؤاد شهاب، بعدما اتفقت واشنطن والقاهرة على مساومة قوامها دعم حكمه. هكذا انتقل لبنان من وصاية مزدوجة فرنسية – بريطانية إلى وصاية مزدوجة أخرى أميركية – مصرية، وبقي على هذه الحال حتى رجّحت هزيمة مصر وسوريا في حرب حزيران/ يونيو 1967 كفّة الوصاية الأميركية بشكل حاسم.

غير أن صعود دور “منظمة التحرير الفلسطينية” في لبنان، بخاصة بعد طردها من الأردن عام 1970، أعاد لبنان إلى لعبة التوازنات، هذه المرّة بين الوصاية الأميركية والدويلة الفلسطينية التي نمت داخل الدولة اللبنانية والتي استندت إلى دعم جملة من الدول العربية المتنافسة. وما لبث هذا التوازن الهشّ أن انفجر في الحرب التي نشبت في لبنان عام 1975، لكنّ تدخّل قوات النظام السوري في العام التالي بضوء أخضر من أميركا وإسرائيل، لإنقاذ حلفائهما اللبنانيين أفضى إلى وصاية مزدوجة جديدة. فقد كرّس اتفاق الرياض في خريف 1976 وصاية سورية – سعودية/ أميركية على لبنان، لكنّه لم يدم، إذ إن تأييد واشنطن مبادرة الرئيس المصري أنور السادات بسلوك طريق التسوية المنفردة مع الدولة الصهيونية، بدءاً من عام 1977، أعاد تأجيج صراع الوصايات على لبنان، الذي ظلّ محتدماً في عهد إلياس سركيس وحتى الاجتياح الصهيوني للبلاد عام 1982.

التنافس بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي بقي قائماً، وقد استفادت بريطانيا من تقهقر الدولة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية كي تصعّد تدخّلها في لبنان وتحفّز استقلاله عن فرنسا.

حاولت واشنطن تعزيز نفوذها المطلق من خلال رئاسة أمين الجميّل بعدما انهار مشروع الوصاية الصهيونية المباشرة مع اغتيال شقيقه بشير وتعثّر الاحتلال، إلّا أن عهد الجميّل انتهى بأزمة عميقة بعد استعادة دمشق نفوذها في لبنان. وقد حاول ميشال عون، قائد الجيش آنذاك، أن يغتنم الفرصة كي يستولي على الحكم ويُخرج القوات السورية من لبنان من طريق “حرب تحرير”، أعلنها بصورة دونكيشوتية أكثر منها بونابرتية (ولو أطلق عليه وليد جنبلاط يومها لقب “نابولعون”)، وذلك رفضاً لاتفاق الطائف الذي أبرم عام 1989. بيد أن عون لم يفطن إلى أن النظام السوري كان قد انقلب نحو إعادة التوافق مع أميركا وحليفتها السعودية، بحيث جاء اتفاق الطائف تجسيداً لهذا المنعطف الجديد، الذي تعزّز بانخراط دمشق في التحالف الذي قادته واشنطن ضد العراق في العام التالي. فهُزم عون عام 1990 بلا أن يهبّ أحد إلى نجدته، واضطرّ إلى الهروب من البلاد.

دخل لبنان مذّاك في مرحلة “الإعمار” التي دامت حتى عام 2002 بتوافق مجدّد على وصاية مزدوجة بين طرف سعودي/ أميركي، كان رفيق الحريري ممثّله الرئيس، إضافة إلى طرف سوري مثّله غازي كنعان، رئيس المخابرات السورية في لبنان ومفوّض دمشق السامي فيه. انتهت مرحلة “الإعمار” هذه، ومعها التوافق السوري – السعودي/ الأميركي، عندما بدأت إدارة جورج دبليو بوش تمهّد لاحتلال العراق. فحيث لم يتورّع الحكم البعثي السوري من المشاركة في حرب بقيادة أميركية لطرد قوات “شقيقه اللدود”، الحكم البعثي العراقي، من الكويت، ما كان بإمكانه أن يشارك في حرب هادفة إلى إسقاط النظام العراقي وإحلال “ديمقراطية توافقية” تحت وصاية أميركية محلّه، حيث إن ذلك يشكّل تهديداً مباشراً له. فانهار التآلف السوري – السعودي/الأميركي في لبنان، وقامت واشنطن بمعونة باريس بتمرير القرار 1559 في مجلس الأمن الدولي سنة 2004 (امتنعت موسكو وبكين في التصويت عليه لتمريره)، وهو الداعي إلى خروج القوات السورية من لبنان ونزع سلاح “حزب الله”. كان هذا الأخير قد نشأ إثر الاجتياح الصهيوني تحت إشراف إيران المباشر، وقد توصّل بعد اتفاق الطائف إلى تناغم مع النظام السوري وحليفته “حركة أمل” كي لا يتدخّل في حكم لبنان مقابل فسح المجال أمامه كي يمضي في بناء دويلته داخل الدولة اللبنانية، فيما يقارع الاحتلال الصهيوني في جنوب لبنان بما يتناسب مع استراتيجية دمشق.

رفيق الحريري

كان اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط / فبراير 2005 نتيجة مباشرة لانهيار التوافق بين واشنطن/ الرياض ودمشق. بيد أن مفعول الاغتيال جاء بغير ما اشتهاه الذين أمروا به والذين نفّذوه، فأدّى إلى تسونامي شعبي فرض على دمشق سحب قواتها تنفيذاً لقرار مجلس الأمن. لكنّ نفوذ الحكم السوري استمر من خلال حلف ثلاثي جمع “حركة أمل”، شريكته اللبنانية، و”حزب الله”، ذراع إيران في لبنان، وميشال عون الذي ما لبث، بعد أن عاد من منفاه الفرنسي، أن انقلب من المغالاة في العداء لدمشق و”حزب الله” إلى التحالف معهما. ومن مقتضيات الوضع المستجدّ أن “حزب الله” أنهى تعفّفه عن المشاركة في حكم لبنان الرسمي.

وأدّى إخفاق حرب الثلاثة وثلاثين يوماً التي شنّتها إسرائيل على “حزب الله” عام 2006 إلى إعادة التوازن وتجديد صيغة الحكم الائتلافي تحت وصايتين لم تعدا متآلفتين. واستمرّ هذا الوضع حتى انفجار الحرب في سورية إثر “الربيع العربي” لعام 2011، وقد نتج عنها إضعاف كبير لسطوة النظام السوري على لبنان بالتوازي مع إضعافه بالمطلق، وصعود متلازم لسطوة إيران على سورية ولبنان كليهما إثر تدخّلها لإنقاذ نظام آل الأسد، بالتزامن مع تعزيز وصايتها على العراق، إثر انسحاب القوات الأميركية منه في آخر عام 2011. واستمرّ هذا الوضع برضى إدارة باراك أوباما التي كان همّها الرئيس التوصّل إلى الاتفاق النووي مع طهران، وقد أبرم عام 2015.

أشار وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية إلى إعادة تأجيج التوتّر في الوصاية المزدوجة على لبنان، وهو معروف بتشدّده ضد طهران ورفضه للاتفاق النووي. فحاول حليفه السعودي بامتياز، وليّ العهد محمّد بن سلمان، أن يفرض على سعد الحريري وقف التعاون مع “حزب الله” باحتجازه في الرياض. عندها تدخّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كي يخرج الحريري من المملكة ويعيده إلى لبنان وإلى الصيغة الائتلافية، وقد نصّب ماكرون نفسه وسيطاً بين الوصايتين، يسعى من خلال توازنهما وراء تعزيز الوصاية الفرنسية. واندرج موقفه هذا في نهج عام من التوسّط بين طهران وواشنطن، وصل به إلى محاولة تنظيم لقاء بين ترامب ووزير خارجية إيران على هامش قمة مجموعة الدول السبع في مدينة بياريتز الفرنسية في صيف العام الماضي.

كان اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط / فبراير 2005 نتيجة مباشرة لانهيار التوافق بين واشنطن/ الرياض ودمشق.

وفي حين توخّت الحركة الشعبية المعارضة للنظام اللبناني بأطرافه كافة، والتي نشأت من خلال “انتفاضة 17 تشرين”، أن يتحوّل انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس الماضي إلى مدخل للتخلّص من الائتلاف الحاكم ومن الأوصياء عليه وعلى لبنان، ها هو ماكرون يسعى جهده إلى إحياء الائتلاف والوصايتين، بما يعزّز وصاية ثالثة هي وصاية الوسيط الفرنسي. هكذا جاء تخليد مئة عام من الوصاية على لبنان تحت إشراف ممثّل الوصاية الأولى وهو يطمح إلى تجديدها في مطلع الحقبة الجديدة. إن حكاية الوصاية على لبنان طويلة جداً، فلنأمل ألّا تكون بلا نهاية كحكاية إبريق الزيت.