fbpx

لبنان: جمهورية موز بين “رئيسين”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بدا ميشال عون معنياً بقضية واحدة تخصه وحده، مظلوميته هو وتياره وصهره وعائلته. بدا رئيساً لبلد يتهيأ للموت في مناسبة بلوغه المئة من عمره. ضحالة لبنان هذه هي التي سمحت لنجم ماكرون أن يسطع …

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أقل من 48 ساعة فصلت بين مؤتمر إيمانويل ماكرون الصحافي ومقابلة ميشال عون التلفزيونية، بإمكانها أن تختصر مسافة 50 عاماً بين إعلان قيام الجمهورية الثالثة في فرنسا، وجمهورية الموز في لبنان.

في قصر الصنوبر كما في قصر بعبدا، سبقت ظهور “الرئيس” تحضيرات سعت للاستفادة مما يؤمنه أي لقاء صحافي لأي شخصية عامة، من فرص لترويج الأفكار والتأثير في الرأي العام من جهة، وتجنب ما يطرحه من تحديات وأفخاخ قد ينصبها صحافيون تقع على عاتقهم مهمة مساءلة من هم في السلطة من جهة أخرى.

عند هذا الحد تنتهي أوجه الشبه.

في الشكل

للمرة الثانية خلال أقل من شهر بدا ماكرون وكأنه الشخصية السياسية الوحيدة المدركة مسؤولية إعطاء اللبنانيين أجوبة تخفف من وطأة جريمة المرفأ على واقعهم وارتداداتها على مستقبلهم.  

على عكس عون، لم يخاطب ماكرون الشعب اللبناني عبر مقابلة تلفزيونية مسجلة وممنتجة ومضبوطة الإيقاع، بل من خلال مؤتمر صحافي مباشر كان المحطة الأخيرة على جدول أعمال زيارته.  

في جمهوريات الموز، حتى انفجار شبه نووي يحاسَب المسؤولون عنه بشعار “عفا الله عما مضى”.

للإنصاف، في لبنان ليس عون وحده من يتجنب المؤتمرات الصحافية التي استعاض عنها معظم السياسيين بمقابلات يحددون هم شاشاتها وشروطها ومحاورها وأسئلتها، أو بخطابات متلفزة يلقون فيها على الشعب مواقفهم ووعودهم وتهديداتهم واستراتيجياتهم من دون أن يكون لأي أحد فرصة مساءلتهم أو حتى نقاشهم. 

خيار ماكرون بفتح باب الأسئلة أمام الصحافيين ليس هو الاستثناء، بل هو القاعدة بشروطها الدنيا ضمن اللعبة الديموقراطية حيث لا أحد فوق المساءلة، ولكن مجرد مقارنتها مع ممارسات أقطاب السلطة اللبنانية بمن فيهم رئيس الدولة، وضعت الضيف الفرنسي في موقع من يعطي دروساً عن معنى احترام الصحافة الحرة ودورها في المجتمعات المتقدمة. 

من بين هذه الدروس، إفساح المجال أمام مراسلة قناة الـMTV لطرح السؤال الأول من الصحافة المحلية والذي على الأغلب لم يكن مصادفة، إذ بدا وكأنه رد غير مباشر على قرار بعبدا معاقبة المحطة ومنعها من دخول القصر الجمهوري وتغطية الاستشارات النيابية، بسبب إسقاط تعبير الفخامة عند الحديث عن عون في مقدمة نشرتها الاخبارية.

مرة أخرى، ليس في الأمر استثناء. ما قامت به رئاسة الجمهورية في لبنان يعتبر تجاوزاً للقانون في دول تعتبر حرية الصحافة من مقدساتها. حتى رئيس مثل دونالد ترامب عبّر مراراً عن احتقاره مهنة الصحافة لا يستطيع في بلد مثل الولايات المتحدة  أن يضع أي شروط على كيفية تغطية المؤسسات الإعلامية المؤتمرات الصحافية داخل مقر الرئاسة. 

الأمثلة أكثر من ان تعد لعل أشهرها القضية التي ربحتها قناة CNN بعد منع كبير مراسليها دافيد اكوستا من دخول البيت الأبيض وإلغاء بطاقته الخاصة إثر مشادة كلامية حادة بينه وبين ترامب. على رغم وجود أكثر من 50 صحافياً منتمين إلى القناة، يملكون بطاقات تسمح لهم بالدخول، إلا أن القناة أصرت على الدفاع عن حقها بتحديد الشخص الذي يمثلها وحق الصحافي بأن يطرح أي أسئلة يراها مناسبة. قاضت المحطة الرئيس وربحت الدعوى وفرضت شروطها. 

في الحوار 

في باحة قصر الصنوبر، أجاب ماكرون على أسئلة الصحافيين وقال كلاماً سياسياً أعطى أبعاداً عملية لكم من التسريبات والتحليلات والرسائل التي حملتها زيارته. 

تفاصيل المؤتمر بما فيها توزيع الأسئلة بين الصحافيين المحليين وأولئك المرافقين للرئيس كانت متابعة وبدقة من قبل فريق إعلامي. 

لم يعن هذا ضبط مضمون أي محاور يمكن أن تُطرح.

كل الأسئلة، من مصير التحقيق في جريمة المرفأ إلى مصير سلاح “حزب الله” واتهام فرنسا بتعويم الطبقة السياسية اللبنانية عبر فرض رئيس للحكومة أو انتخابات مبكرة أو التهديد بالعقوبات، سئلت ضمن إطار سمح للصحافيين بأن يتحدوا محاورهم. 

في قصر بعبدا، جلس عون إلى طاولة يواجهه فيها محاور اختاره هو تماماً كما اختار الشاشة التي نقلت عبرها المقابلة المسجلة والتي تم الاتفاق على محاورها مسبقاً.

ريكاردو كرم شخصية غير استفزازية، وهو من دون شك صاحب خبرة في محاورة أهل السياسة والسلطة والمال، ولكن نوع المضمون الذي يقدمه بعيد كل البعد من صحافة تسعى إلى المساءلة والمحاسبة. تطرق كرم في المقابلة التي أجراها مع الرئيس عون، إلى المواضيع الشائكة مثل تغطية “التيار الوطني الحر” سلاح “حزب الله” وشبهات الفساد المحيطة بالصهر المدلل جبران باسيل، وتأخر ظهور أي نتائج للتحقيق في جريمة المرفأ وعدم قدرة عون على زيارة أحياء مثل الجميزة ومار مخايل كما فعل نظيره الفرنسي. لكن طرح هذه الأسئلة لا يعني أن العمل الصحافي أنجز، إذ اكتفى كرم برد الرئيس الأول من دون أي متابعة لأي من الأسئلة. بمعنى آخر أعطى كرم ضيفه مساحة لترويج سياسته وتوقف عند ذلك، فلم يعرض هذه السياسات لأي تشكيك. حتى الأوراق البيض التي وضعها على الطاولة أمامه تبين أنها نسخة لخطاب سابق لعون وليست ملفات حضرها لمساءلة ضيفه. 

بدت المقابلة وكأنها تجرى مع شخصية متقاعدة بعد سنوات على خروجها من الحقل العام وليس مع رئيس السلطات مجتمعة قبل مرور أقل من شهر على جريمة دمرت وقتلت وشردت مئات آلاف المواطنين. 

بدت المقابلة وكأنها تجرى مع شخصية متقاعدة بعد سنوات على خروجها من الحقل العام وليس مع رئيس السلطات مجتمعة قبل مرور أقل من شهر على جريمة دمرت وقتلت وشردت مئات آلاف المواطنين. 

في المضمون

خلال مؤتمره الصحافي، واظب ماكرون على مخاطبة الشعب اللبناني وطمأنته. زيارته التي بدأها من منزل فيروز في ما بدا وكأنه إصرار على احتضان القليل مما يجمع عليه معظم اللبنانيين ختمها بكلمات أغنيتها “من قلبي سلام لبيروت”، قالها باللغة العربية. لم يفته أن يحكي عن زيارته المرفأ – والتي أدت الإطالة فيها إلى التأخر أكثر من ساعة على موعد اللقاء في قصر بعبدا، والتي على الأغلب لم تكن هي الأخرى مصادفة. ولم ينس أن يذكر غرس شجرة أرز ولا غناءه مع تلاميذ مدرسة سان جوزيف. بدا متألماً وهو يذكر اسم تمارا طياح، الصبية التي فقدت أمها في الانفجار والتي عانقها بعدما أعطته قلادة على شكل خريطة لبنان من تصميم امها، لبسها ماكرون وأبقاها نيشاناً على بدلته… بعيداً من حقيقة نيات ماكرون، إلا أنه أظهر خبرة وحساسية يتقنها من يعرف أن كسب ود الرأي العام وثقته، وهو من شروط حياة سياسية ناجحة.  

في مقابلة قصر بعبدا، وعلى رغم تأثر واضح هو على الأغلب صادق، بدا ميشال عون منفصلاً عن تفاصيل مأساة من يفترض أنه رئيسهم. لدى سؤاله عن وجه أو اسم أو حادثة اثرت به بشكل خاص، لم يستطع أن يذكر أحداً. لم يتذكر مشهد أصدقاء الياس خوري يحملون نعشه الأبيض، ولا صوت عروس قرطبا تبكي زوجها وشقيقها وابن عمها. 

بدا ميشال عون معنياً بقضية واحدة تخصه وحده، مظلوميته هو وتياره وصهره وعائلته. بدا رئيساً لبلد يتهيأ للموت في مناسبة بلوغه المئة من عمره.

ضحالة لبنان هذه هي التي سمحت لنجم ماكرون أن يسطع من دون الحاجة إلى أي قدرات استثنائية، فهو رئيس عادي في دولة يحكمها قانون لا يمكنه تجاوزه وقيم لا يمكنه خرقها، وصحافة حرة تسائله ولا يملك حق ضبطها، وهنا الفرق كله.  

المشادة الكلامية بين ماكرون ومراسل “الفيغارو” جورج مالبرونو عند انتهاء المؤتمر الصحافي في قصر الصنوبر على سيئاتها حيوية، يقابلها مشهد ريكاردو كرم مبتسماً ومقدماً لـ”فخامة الرئيس” باسم جميع اللبنانيين وردة بيضاء. 

في جمهوريات الموز، حتى انفجار شبه نووي يحاسَب المسؤولون عنه بشعار “عفا الله عما مضى”.